ملخص
عندما يكون الفكر الإنساني برمته في رعاية الروح الكوني المطلق
من أخطر الآراء السياسية التي نادى بها الفيلسوف الألماني هيغل قوله إن الروح يصطفي في كل عصر شعباً من الشعوب، ويوكل إليه الاضطلاع برسالة الروح المطلق. لهذا الشعب المصطفى الحق في السيطرة على الشعوب الأخرى. بيد أن هذا الشعب ليس سوى محطة عابرة من محطات الروح. ما إنْ ينجز دعوته حتى يتخلى عنه الروح ويخلي سبيله في انتظار صدور حكم التاريخ عليه. هنا قراءة في فكر هيغل ومساره.
ولد الفيلسوف الألماني غيورغ ڤيلهلم فريدريش هيغل (1770-1831) في أسرة بورجوازية في مدينة شتوتغارت، ودرس في معاهدها، فمال إلى حقل الكلاسيكيات الحضارية القديمة وآثر المعارف التاريخية والفنية، لا سيما الإغريقية منها، حتى انطبعت في ذهنه تصورات جليلة تعزز مقام الثقافة في الوعي الإنساني. التحق بالمعهد الإكليريكي الديني في تبينغن (1788-1793) من أجل دراسة اللاهوت البروتستانتي. في المعهد الديني هذا التقى شلينغ (1775-1854) وهلدرلين (1770-1843) وصادقهما وشاركهما في حماسته الثورية ومناصرته الثورة الفرنسية التي أثرت فيه تأثيراً عظيماً على رغم الإخفاقات السياسية التي أفضت إليها. لم يهنأ هيغل بحياة مادية مريحة، بل اضطر إلى العمل في التدريس وتحرير المقالات الصحافية، قبل أن يعين أستاذاً في جامعة هايدلبرغ (1816-1818)، ومن ثم في جامعة برلين.
على تعاقب السنوات، اختبر هيغل أطواراً شتى من النضج الفكري. في مرحلة تبينغن (1788-1793) واجه مشكلة تأصيل الدين في تربة الحياة الاجتماعية والقومية والسياسية. أثناء إقامته في برن (1793-1796) استكشف الظواهر التي ساهمت في تحويل الدين والسياسة إلى مضمون وضعي قابل التحليل والضبط المعرفي. إبان تعريجه على فرانكفورت (1797-1800) استدرك ضرورة التغرب أو الاستلاب في مسار الوعي. خلال أبحاثة في جامعة يانا (1801-1807)، أكب يبحث عن المفاهيم الفلسفية غير المألوفة التي يعسر صوغها. بعد إقامة وجيزة في بامبرغ (1807-1808) اختبر فيها النشاط الصحافي، عمد في نرنبرغ (1808-1816) إلى بناء أصول المنطق الجديد، وقد نوع تطبيقاتها في أثناء تدريسه الجامعي في مدينة هايدلبرغ. أما في برلين، محطته الأخيرة (1818-1831)، فاستطاع أن يبلغ بأنظومته مبلغ النضج الأقصى.
اللافت في سيرة حياته أنه، حين بلغ الثلاثين من عمره، كان قد اكتسب ثقافةً معرفيةً واسعةً جعلته يحيط بعلوم عصره. ما إن عينته جامعة يانا أستاذاً مساعداً حتى نشر دراسته التي استجلى بواسطتها الاختلاف بين أنظومتي فيشته وشلينغ الفلسفيتين، مناصراً مثالية شلينغ الذي أسس وإياه المجلة النقدية الفلسفية، وقد طفق ينشر فيها أبحاثه النقدية، ومنها بحث الإيمان والمعرفة أو الإيمان والعلمان Glauben und Wissen الذي انتقد فيه كانط (1724-1804) وياكوبي (1743-1819) وفيشته (1762-1814) الذين كانوا يمنحون الإيمان مقام الصدارة فوق العلم. في خاتمة هذا البحث حدد الفلسفة بالمعرفة المطلقة، أي بعلم المطلق، وجعل الإيمان في مرتبة أدنى منها.
بيد أنه، في كتابه "فنومنولوجيا الروح" Phänomenologie des Geistes، عاد فانتقد شلينغ نفسه، مفنداً تصوره الناقص ورأيه المتطرف في المطلق. فأفضى النقد اللاذع هذا إلى المخاصمة العلنية. قبل أن ينتقل هيغل إلى جامعة هايدلبرغ، نشر ثلاثيته في "علم المنطق" Wissenschaft der Logik أو "المنطق الكبير". في عام 1817 استجمع معارفه ونشر "موسوعة العلوم الفلسفية" Enzyklopädie der philosophischen Wissenschaften التي بسطت كل أنظومته. أما في برلين فوقف نفسه كلياً على رسالة التدريس الجامعي، ولم ينشر سوى "فلسفة القانون" Grundlinien der Philosophie des Rechts في عام 1821، ومقال مسهب في براهين وجود الله صدر في السنة الأخيرة من حياته، إذ أصيب بجائحة الكوليرا، فقضى نحبه في عام 1831. تجدر الإشارة إلى أن طلابه جمعوا دروسه وأماليه الجامعية، ووضعوا لها عناوين تناولت فلسفات الطبيعة والتاريخ والفن والدين وتاريخ الفلسفة.
يجمع أهل الاختصاص على نعته بأرسطو الأزمنة الحديثة، إذ إن فلسفته تعبر عن روح عبقري شديد الانتظام والاتساق، وعن ميل عقلاني مفرط في الادعاء. يتسم أسلوبه بالتجريد المفهومي والتعقيد الإنشائي والغموض التعبيري، مع أنه يولي الحياة الواقعية مقام الصدارة في تناولاته النظرية. كان هيغل يعتقد أن سيرة الفيلسوف تقترن بحركة التاريخ الكوني، إذ إن المفكر الفذ ابن زمانه، حتى حين يقبض قبضاً عقلياً على الحقائق اللازمنية التي تتجاوز حدود الزمان والتاريخ.
الأصول النظرية الثلاثة: المبدأ الأول يضع المطلق في التاريخ
تقوم عمارة هيغل الفلسفية على ثلاثة مبادئ. يتعلق المبدأ الأول بطبيعة الروح المطلق الذي يجعله محايثاً الوجود، أي منتسباً إلى دائرة الواقع التاريخي. خلافاً لرأي صديقيه اللدودين فيشته وشلينغ، ليس المطلق متقدماً على الأنا وعلى العالم أو متعالياً عليهما، وليس المصدر الذي منه ينبثق الوجود. حقيقة الأمر أن فيشته وشلينغ لا يضعان المطلق في موضع التسامي. ولكنهما، في رأي هيغل، لم يحرراه من كل آثار التعالي. ذلك بأن شلينغ لم يستطع أن يشرح شرحاً عقلانياً مقنعاً استنزال المطلق في الكائنات التاريخية المحدودة. أما هيغل فيذهب إلى أن المطلق ليس جوهراً ثابتاً، بل كينونة فاعلة أو ذات ناشطة تتحقق تاريخياً على قدر ما تنبسط انبساطاً حراً في صميم الوجود. ومن ثم، فإن هذا المطلق صيرورة دائمة لا تبلغ ماهيتها القصوى إلا في ختام مسارها التاريخي الطويل. المطلق طاقة ذاتية على التحقق Wirklichkeit التاريخي الذي يتطور وفقاً لقابليات الاكتمال الناشبة في جوهره. لذلك لا يمكننا الآن أن نعرف المطلق، إذ إنه لم ينجز كل طاقاته الدفينة بعد. كل ما نستطيع أن نقوله فيه يقتصر على حركة الفعل الذاتي التطوري الذي يفضي به إلى الاكتمال في نهاية التاريخ. أما سائر الكائنات والموجودات والأشياء فتستمد ماهيتها من فعل تحقق المطلق في التاريخ.
المبدأ الثاني يجمع بين الواقعي والعقلاني
يقتضي المبدأ الثاني أن يتصف الواقع بالعقلانية، وأن تكتسب الأمور العقلانية صفة الواقعية: "كل ما هو واقعي عقلاني، وكل ما هو عقلاني واقعي". إذا كان الواقع عقلانياً، فإن العالم ليس عبثياً، والوجود ليس طارئاً، والحياة ليست اعتباطيةً. كل ما في الواقع ضروري، منطقي، يحمل معنى الحكمة الكونية. ذلك بأن المطلق، في رأي هيغل، عقل كوني شامل يضبط حركة الطبيعة وحركة الفكر على حد سواء. العقل وعي يدرك ذاته في الإنسان فكراً منطقياً، في حين أنه في الطبيعة لا يعي ذاته وعياً مباشراً، ولو أنه يحكم ماهية الكائنات ويتدبر ناموس تطورها. لذلك كان التاريخ كله، أي الاجتماع الإنساني والفن والدين والرقي الحضاري، مفطوراً على الحكمة العقلانية الشاملة.
أما إذا كانت العقلانيات واقعيةً، أي قائمةً في صميم الواقع، فإن كل موضوع عقلي نفكر فيه تفكيراً منطقياً سليماً يجب مبدئياً أن ينتسب إلى الواقع، أي أن يتحقق فيه ويتجسد، مهما طال الزمان. يذكرنا هذا القول بما أعلنه الفيلسوف الإغريقي بارمنيذيس (توفي في عام 460 ق.م.) من تماثل بين الفكر والكينونة أو الواقع. غير أن هيغل يسارع إلى طمأنة القارئ والتخفيف من غلواء هذا التصريح، فيرسم أن بعض الكائنات تغلب عليها سمة اللاعقلانية، فتتجلى عصيةً على كل تصور ذهني أو إمساك مفهومي. معنى ذلك أن الوجود العقلاني راسخ، في حين أن الوجود اللاعقلاني هش، وإنْ اكتسب بعضاً من الواقعية. ومن ثم، لا يستحق اللاعقلاني المتجلي فيها صفة الواقعية.
المبدأ الثالث يشمل كل الوجود في أنظومة جدلية جامعة
يصر هيغل على مقولة الأنظومة الشاملة التي تضم جميع تجليات الوجود، إذ إن غاية المعرفة العلمية الإمساك بمسار نشوء الكون الأرحب، وتطور حركة اكتماله، وبلوغه ملء قوامه. يدل الإمساك على تماهي العقل المدرك بحركة التاريخ، بحيث يبلغ الوعي المعرفة المطلقة. ليس للمعرفة من صدقية إلا إذا انعقدت أنظومةً واقعيةً جامعةً مانعةً. السبب في ذلك أن المطلق في جوهره أنظومة متسقة تحوي الحقيقة في أطوار نشوئها ونموها واكتمالها، أي في اشتمالها على كلية الكائنات. يمكننا أن نستطلع هذا الجانب أو ذاك في الأنظومة، فنفصله عن سائر الجوانب حتى نبين الاختلاف الناشط بين عناصر الأنظومة. بيد أن الفلسفة الحق لا تنعقد ولا تستقيم إلا في هيئة الأنظومة الضرورية الشاملة. لكل مضمون من مضامين معرفتنا مقامه الموضوعي الخاص في نطاق هذه الأنظومة.
ومن ثم، يتجلى العلم الصحيح معرفةً مطلقةً تعبر عن الوعي الذي يفوز به المطلق حين يعاين حقيقته الذاتية. ذلك بأن معرفتنا التاريخية انعكاس وعي المطلق المتأمل في ذاتيته المتحققة في معترك الوجود. لا نعجبن، والحال هذه، من أن نقع في نصوص هيغل على تماثلات ثنائية تجمع بين العقلاني والواقعي، بين العقل الإنساني والعقل الإلهي، بين الفلسفة والعلم، بين وعي المطلق ومعرفتنا التاريخية. من جراء هذا التماثل يمكننا أن نبني المفاهيم الفلسفية الموضوعية التي تعبر عن نشاط المطلق في التاريخ. الشرط الوحيد في ذلك أن يأتي البنيان منسجماً مع حقيقة المضامين الموضوعية، لا أن يصدر عن ذاتية الفيلسوف الفردية التي تزين له القدرة على إدراك منطق الأمور. أما غاية هيغل فتشييد الأنظومة المعرفية الشاملة المطلقة التي تحتوي على كل اختبارات التاريخ الفردية والجماعية. لا بد إذاً من منهجية صارمة تليق بعظمة المشروع.
الجدلية التاريخية منهجية بناء المعرفة المطلقة
من الضروري أن نتذكر تطور معنى الجدلية على تعاقب الأزمنة الفلسفية. نشأت العبارة في مسعى سوقراط (توفي في عام 399 ق.م.) الحكْمي، فدلت على فن المحاورة ورمت إلى تعريف المفاهيم، لا سيما في حقل التفكير الأخلاقي. تطور المفهوم عند أفلاطون (428 ق.م.-348 ق.م.)، فأصبح يشير إلى مسار الارتقاء من العالم الحسي إلى عالم المثل، ومن عالم المثل إلى المثال الأعلى، أي الخير الأعظم. ليست الجدلية الأفلاطونية مضمون الفلسفة، بل منهجها وسبيلها وحركتها. تغير معنى الجدلية في فلسفة أرسطو (384 ق.م.-322 ق.م.)، إذ جرت معارضتها بالأنالوطيقا أو تحليلات القياس البرهاني الذي يستولد العلم اليقيني. خلافاً للاستدلال العلمي الصارم، تكتفي الجدلية الأرسطية بتحليل أنماط التفكير الترجيحية المستندة إلى الآراء الضعيفة. ومن ثم، يظهر التعارض بين الجدلية الأفلاطونية الباحثة عن الحقيقة، والجدلية الأرسطية المجردة من كل أساس معرفي راسخ.
سار كانط على نهج أرسطو، فألبس الجدلية دلالةً سلبيةً، ونعتها بالتفكير الوهمي، وأسند إليها منطق الظاهر التضليلي. ذلك بأن الجدلية الترانسندنتالية المتعالية تدعي معرفة الحقائق الماورائية المطلقة بالاستناد إلى براهين العقل المحض العقيمة. والحال أن العقل، في رأي كانط، عاجز عن إدراك ما يتجاوز معطيات الحواس المنتظمة في مقولات الفاهمة. أما هيغل فتناول الجدلية الأفلاطونية وطورها، جاعلاً إياها منهج الفلسفة عينها. فأضحت في نصوصه تدل على مسار الروح المطلق أو العقل الكوني وتطوره ونموه، فتعبر في الوقت عينه عن سير الفكر الإنساني، وعن تطور الكائنات والموجودات تطوراً يراعي ناموسها الذاتي ومنطقها الإنضاجي الخاص.
تنشط الجدلية الهيغلية في حقل الكائنات التاريخية المحدودة المتناهية التي تترجح بين قطبين لامتناهيين: اللامتناهي البدئي الاستهلالي غير المنجز المشرع على جميع الإمكانات، واللامتناهي الختامي التتويجي الناجز المكتمل. الأول يدعوه هيغل الكينونة السلبية غير المحددة، والثاني يسميه الروح المطلق الإيجابي المتحقق. فإذا بالجدلية ترسم سبيل الانتقال من حال القابلية المفتوحة في المطلق إلى حال الإنجاز التتويجي الاكتمالي. بتعبير أوضح، يعتقد هيغل أن الحقيقة المطلقة تظهر في بدايات الكون ممتلئةً بطاقات عظيمة من التحقق التاريخي. ولكنها تحتاج إلى مسرح التاريخ الإنساني حتى تنفجر فيها هذه الطاقات أفعالاً وبناءات وإنجازات تتيح لها أن تبلغ غاية ماهيتها المطلقة.
التناقض الحي قانون الجدلية التاريخية
يصر هيغل على تصور حركة التاريخ في هيئة التناقض الإبداعي الذي يفترضه الانتقال من مطلق البدايات إلى مطلق النهايات. لا يجوز أن نتصور الوجود تصوراً بريئاً يجعل الحقيقة الكونية تتجلى في أبهى تجسداتها التاريخية. ذلك بأن الحياة مصنع التناقضات وحقل الاحتراب الأعظم بين الكائنات. ومن ثم، ما برح العقل يواجه الشدائد والمضايقات والاضطهادات حتى يستقيم مسعاه إلى الحقيقة المطلقة. ليس كل ما نفكر فيه يتجلى لنا بوضوح ويسر في معترك الوجود. من وظيفة الجدلية أن تتدبر التناقض الناشب في صميم التاريخ. أما السبيل إلى هذا التدبر فالاستناد إلى عملية النسخ التطوري الارتقائي. تقترب العبارة الفلسفية هذه من الاصطلاح الألماني Aufhebung الذي كان هيغل مبتهجاً باستخدامه واستثماره، حاملاً إياه على ثلاثة معان: النزع والرفع والتجاوز. ذلك بأن الجدلية، حين تتدبر التناقض الناشط في الوجود، تنزع عنه انسداده، وترفعه إلى مرتبة أعلى، وتتجاوزه إلى حقيقة تحتفظ منه بأغنى ما ينطوي عليه طرفا المجابهة.
من الواضح أن جدلية تدبر التناقض تنطوي على ثلاث محطات: الأطروحة أو الطريحة، الأنقوضة أو النقيضة، المؤالفة أو التوليفة. على مستوى المفاهيم، تعني الأطروحة المفهوم المجرد المباشر، وتشير الأنقوضة إلى المفهوم الجدلي، وتدل المؤالفة على المفهوم التدبري العيني. على مستوى الكائنات، تعنى الأطروحة الكينونة بحد ذاتها an sich Sein، وتشير الأنقوضة إلى الكينونة التي لذاتها für sich Sein، وتدل المؤالفة على الكينونة القائمة في ذاتها ولذاتها an und für sich Sein. من جراء الثلاثية الجدلية هذه، ينبسط كل كائن من الكائنات أولاً في ذاته مشابهاً حقيقة جوهره؛ ومن ثم، يتغرب عن ذاته فينفيها ويبطلها؛ قبل أن يعود إلى ذاته، وقد اكتنز بخبرة الاغتراب المغنية.
الهوية موت الكائن
ولكن ما سبب الخروج التعطيلي من الذات؟ أفلا يهنأ الناس بكيانهم الذاتي وبما استقر عليه وجودهم التاريخي؟ الحقيقة أن هيغل يعاين الجدلية ناشطةً في جميع حقول الوجود، إذ إن كل كائن، بسبب من طبيعته المحدودة المتناهية، إنما يحمل في ذاته عامل السلب والنفي، أي إنه ينطوي على طاقة من عدم الرضا الكياني تضطره، على إيقاعات متنوعة، إلى أن يتجاوز ذاته إلى الأفضل والأغنى والأرفع. إنها حقيقة الحياة يصفها هيغل بعبارات فلسفية مجردة، ولكنها تعبر عن حركة الانتقال الوجودي من طور إلى آخر. ليست الكائنات المتناهية بموجودة وجوداً فعلياً، إذ إنها ما برحت تنفي ذاتها حتى تصل إلى حقيقة المطلق. لذلك فإن الوجود واقع موقت انتقالي تحركي لا يني يتجاوز ذاته. السبب في ذلك أن الوجود التاريخي غير الوجود المطلق. المطلق عينه يدخل في التاريخ لكي يحقق كل طاقاته الاكتمالية. أما وجود الكائنات التاريخية فينعقد على نفي ذاتي يتحول إلى طاقة مستمرة على التجاوز الذاتي. كل كائن تاريخي محدود متناه يحمل فيه بذار نفيه وقابليات انتقاله إلى طور جديد من أطوار نموه الذاتي.
مسار الروح في التاريخ
اعتماداً على المبادئ الثلاثة هذه، واستناداً إلى المنهجية الجدلية هذه، أخذ هيغل يبني عمارته الفلسفية مدماكاً فوق مدماك. ما دامت الفلسفة تعبر عن حركة المعرفة المطلقة، فإنها تنطوي على ثلاثة أطوار: طور المنطق الذي يضع أصول علم الكينونة بحد ذاتها، فيشيد أنظومة المقولات ابتداءً بالكينونة الخالصة التي توازي العدم، وانتهاءً بالفكرة المطلقة التي تجسد الروح منصرفاً إلى التفكر في ذاته؛ وطور فلسفة الطبيعة التي تتحرى حركة الروح المغترب، المستلب الهوية، المنفي خارج ذاته، أي الروح اللاواعي، فتصور العالم ابتداءً بالمكان الخاوي وانتهاءً بالحياة الجياشة؛ وطور فلسفة الروح الذي يتقصى حركة الروح العائد إلى ذاته، وقد عرج على حقول علم النفس والقانون والأخلاق والفن والدين والفلسفة. أما خاتمة الأطوار الثلاثة هذه فتتجلى في فلسفة التاريخ التي تستكشف مسار تقدم الروح في حياة الإنسانية. ذلك بأن الروح يتجسد في التاريخ ويستخدم جميع إنجازات الوعي الإنساني حتى يحقق ذاته ويبلغ ملء قوامه.
تربية الوعي الذاتي
في كتاب "فنومنولوجيا الروح" يجتهد هيغل في ترصد أطوار النضج الذي يختبره الوعي الفردي بواسطة التربية والتنشئة والثقافة العامة Bildung. ذلك بأن وعي الفرد يواجه العالم منذ تفتحه الأول، فيضطلع بمسؤولية المعرفة ويطور قدراته الاستيعابية حتى يبلغ مستوى الإدراك الذي يتصف به الروح. والحال أن الروح الكوني يعمل في كل وعي فردي، فيستحثنا على تصور الذات والآخرين والعالم تصوراً يبلغ جوهر الحقائق. بما أن الروح ماهية الكائنات كلها، فإن كل إدراك فردي يتيح لهذا الروح أن يختبر ثلاثة أطوار من المعرفة: المعرفة الحسية التي تظهر في الواقعية والدوغمائية؛ والمعرفة التفكرية التي تتجلى في الرواقية والشكية والوعي الشقي؛ والمعرفة العقلية التي تصالح العالم وتتماهى به حتى تدرك أن العالم صورة الوعي، وقد بلغ كمال قوامه الإدراكي.
صراع السيد والعبد
في سياق الاختبار الإدراكي هذا، يرسم هيغل علاقة الإنسان بالعالم وبالآخرين في صورة نضال الاعتراف العسير. فيبين أن الإنسان لا يكتفي بذاتيته الواعية الحرة، بل يرغب رغبةً شديدةً في نيل اعتراف الآخرين به. من جراء تواجه رغبات الاعتراف، ينشأ صراع فتاك بين وعي الذوات الفردية. غير أن التاريخ يكشف لنا أن هذا الصراع لا يدوم إلى الأبد، إذ إن الوعي الأصلب يفرض على الآخرين أن يخضعوا له لكي يتجنبوا الإفناء. فيرتسم أمامنا مشهد التصادم بين السيد الذي لا يعترف بذاتية العبد الحرة، فيسلبها كيانها وقوامها وكرامتها.
بيد أن السيد لا يلبث أن يضحي خاضعاً للعبد الذي يجعله سيداً بفضل فعل الخضوع. ليس السيد سيداً إلا على عبد يعترف بسيادته. فضلاً عن ذلك، يأثر لنا التاريخ أن السيد ينصرف إلى العطالة واللهو والتفاهة، في حين يكب العبد على العمل الشاق والاكتساب الشريف والتنشئة الذاتية المرهقة. فإذا به يؤنسن الطبيعة، ويبرهن للجميع أنه قادر على استثمار مواهب الإنسانية المزروعة فيه، بحيث يتغلب على مأساة عبوديته ويسهم في تطوير وعي الإنسانية، فيفضي إلى إعتاق نفسه والفوز بحريته الخلاقة.
الوعي الشقي
استناداً إلى الثقافة اللاهوتية المسيحية التي اكتسبها هيغل في أثناء دراسته الإكليريكية، طفق يخضع حقائق الدين المسيحي لمقتضيات فلسفة الروح المطلق. ومن ثم، أخذ يعاين في المؤمن المسيحي إنساناً بائساً شقياً يحيا في وعي الخطيئة التي انغرست في طبيعته منذ تفتح وعيه الأول أمام سمو الإله وجلال قداسته. تتضاعف حدة الوعي الشقي هذا حين يدرك المسيحي أنه لا يستطيع أن يستعطف الله في علاقة استرضائية. فإذا بالإله نفسه يخترق حجاب الزمان وينزل في الأرض متجسداً بين البشر. بيد أن التجسد الإلهي لم يثمر ثماره الإصلاحية، إذ إن الإله المتجسد ما لبث أن هجر العالم، تاركاً وراءه كوكبةً من التلاميذ وقبراً فارغاً. لذلك سارع المسيحيون الأوائل إلى تعزية أنفسهم والاتكال على الكنيسة من أجل استعادة علاقتهم بالإله المنحجب، وفي يقينهم أنها تجسد حضور المسيح في العالم. ولكنهم سرعان ما يدركون استحالة الاندماج الكلي بجسم الكنيسة السري، من بعد أن تبين لهم أن الخضوع للكنيسة يسلبهم حريتهم ويغربهم عن ذواتهم، وأن الخروج عن الطاعة الكنسية يقصيهم من نعمة الانتماء إليها. أمام هذه المفارقة التي اصطدمت بها القرون المسيحية الوسيطة، جاء عصر النهضة يقترح على الإنسان أن يكافح من أجل تأليه نفسه بقدرته الذاتية.
مراتب تجلي الروح المطلق الثلاث: الفن والدين والفلسفة
بعد أن يصف هيغل مسار الروح في الطبيعة، يعود إلى تدبر مسار عودته إلى ذاته من خلال نضال الإنسان التاريخي. إذا أردنا أن نعرف الروح تعريفاً هيغلياً، قلنا إنه الحرية التي تجعله ينفي كل ما هو خارج عنه، وتؤهله ليستعيد ذاتيته المستقلة. يتجلى الروح في مراتب شتى من النمو. يبدأ روحاً ذاتياً، ومن ثم ينخرط في العالم الثقافي روحاً موضوعياً، ليكتمل بواسطة مصالحة البعدين الذاتي والموضوعي ويتحقق روحاً مطلقاً. الروح المطلق هذا جوهر الكون وماهيته القصوى، يتحقق أولاً في الفن، ومن ثم في الدين، وأخيراً في الفلسفة التي تتيح للروح أن يتفكر في ضرورة حركته الإنجازية في التاريخ. الفلسفة أعلى مراتب تحقق الروح المطلق، إذ إنها تجعله يدرك معرفته، وتؤهله لتدبر وعي ذاته على قدر ما تمسك بالمفهوم الأرحب الذي يحتوي على مضمون تحقق الفكرة المطلقة في معترك الوجود.
ومن ثم، يجب الاعتراف بأن العقل الكوني يحكم العالم برمته. إذا كان الدين يؤمن بتدبير العناية الإلهية الغامضة المقاصد، فإن الفلسفة تجرؤ فتكشف عن الأسباب العميقة التي تحرك مسار العالم. أما الغاية القصوى ففوز الروح المطلق بحريته التي يكتسبها على قدر ما يعي ذاته في تطور فعله الانعتاقي التدرجي، مستخدماً عباقرة الزمان وعظماء الدهر من أجل تحقيق مقاصده. من مكر العقل الكوني وحيله أن يستثمر كل أحداث التاريخ الحميدة والقبيحة من أجل بناء مملكة حرية الروح المطلق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ليست عثرات الزمان عائقاً أمام اعتلان جوهر الروح المطلق. لكل شعب من شعوب الأرض مساهمته في تحقيق دعوة الروح. يسمي هيغل هذه المساهمة روح الشعب Volksgeist، وقد اكتنز بكل ما أنجزه في ميادين الثقافة والفن والدين والفلسفة والأخلاق والتشريع والفقه الدستوري. لا ريب في أن مثل هذا الروح يتعالى على الأفراد الذين يجب عليهم أن ينخرطوا في نشاطه التاريخي الحي. وحدها الدولة تجسد هذا الروح، إذ إنها، في رأي هيغل، الفكرة الإلهية، وقد تجسدت في الأرض. كل شعب لا يحظى بدولة ترعاه يخرج من التاريخ.
من أخطر الآراء السياسية التي نادى بها هيغل قوله إن الروح يصطفي في كل عصر شعباً من الشعوب، ويوكل إليه الاضطلاع برسالة الروح المطلق. لهذا الشعب المصطفى الحق في السيطرة على الشعوب الأخرى. بيد أن هذا الشعب ليس سوى محطة عابرة من محطات الروح. ما إن ينجز دعوته حتى يتخلى عنه الروح ويخلي سبيله في انتظار صدور حكم التاريخ عليه. أما حركة الحضارات التي يستثيرها الروح المطلق، فتنطلق من الشرق إلى الغرب، إذ إن أوروبا خاتمة مسار الروح، في حين أن آسيا موطن البدايات. الغريب أن هيغل يستثني القارة الأفريقية، ويقينه أن الأفارقة ليسوا بقادرين على التطور الخلاق.
ومن ثم، تختبر الإنسانية طفولتها في العالم الشرقي الذي تهيمن عليه ذهنية الاستبداد. وتنعم بفتوتها في الحضارة الإغريقية التي ابتكرت الدموقراطيا، أي حرية الفرد الذاتية. وتبلغ ذروة نضجها في الإمبراطورية الرومانية التي نهضت على أساس الحق المجرد والتشريع المفرط في رعاية قرائن الأحوال الحياتية. أما الشيخوخة فتعانيها الإنسانية في الحضارة الجرمانية التي غاصت غوصاً عميقاً على معاني الجوانية الوجدانية، فأتاحت للروح المطلق أن ينعتق من كل ضرورات التناقض التاريخي. من خصائص الفكر الألماني، بحسب هيغل، أنه استولد الفكر في معترك الواقع، فأبطل التعارض بين الكنيسة والدولة، وأتاح للروح أن ينغل انغلالاً في مطاوي الواقع السياسي. بذلك يبلغ التاريخ الكوني خاتمته. إذا كانت الشيخوخة الطبيعية علامة الضعف والانحلال، فإن شيخوخة الروح دليل نضجه الأكمل.
لا ريب في أن العمارة الهيغلية الشاهقة هذه استطاعت أن تستضيف ضروباً شتى من التأويلات المتناقضة، من اليمين اللاهوتي الذي عاين فيها تأييداً لاختبار الروح الكوني، إلى اليسار الماركسي الذي استثمر بها طاقات التغيير المادي، فاستغلها استغلالاً صريحاً من أجل تأييد الثورة البنيوية الجذرية. أما العبرة الجليلة التي يستخرجها المرء من جرأة المشروع الهيغلي، فترتسم في مناصرة مبدأ الاستيعاب الجدلي المشرع الذي يختضن أشد أصناف المذاهب تعارضاً احتضان المؤالفة التجاوزية الارتقائية الاغتنائية.