Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بين مقابلتين وعصرين... حروب لن تضع أوزارها

من "العقير" إلى "سندالة" مزيج الواقعية السياسية وصلابة الإرادة تضع النقاط على خرائط الإقليم والعالم

استدعى كثيرون بعد مقابلة ولي العهد الأخيرة شخصية جده الملك عبدالعزيز (اندبندنت عربية)

لا يبدو أن الغرب، وخصوصاً الأميركيين، استوعبوا حتى الآن الشخصية السعودية على رغم تاريخ طويل من العلاقة بين البلدين امتدت لنحو قرن، ولا يقتصر الأمر على الجمهور العام فهناك أيضاً التيارات السياسية التي كلما جاء فصيل منها احتاج الأمر وقتاً كي يستوعب أي دولة تلك المتربعة على أكثر رمال الشرق الأوسط سخونة واستراتيجية.

صعوبة تلك المهمة لم تفت المذيع بريت باير وهو يحاور زعيم الإقليم القوي الأمير محمد بن سلمان حين سأله "هل تجد صعوبة في التعامل مع الولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً عندما تتغير الإدارة كل أربع أو ثماني سنوات، وحينها ربما قد تتغير السياسة الخارجية؟"، فيأتي الجواب أن "في بعض الأحيان التغيير في أي بلاد دائماً ما يؤدي إلى فترة من المفاوضات ونحن معتادون على ذلك، وعند تغير أية إدارة في أميركا نبدأ بالتواصل معها ونبدأ بالتفاوض معها ونبحث عن العقبات الموجودة في العلاقة وما نوع الفرص الجديدة التي يجب أن نعمل عليها، وبعدها نصل إلى مرحلة يكون لدينا فيها خطة محددة للعمل عليها خلال الأعوام المقبلة".

لاعب غير معتاد

ويعني ذلك أن تلك الحرب على الأرجح لن تضع أوزارها طالما تعلقت بامتحان تصميم "ابن سعود" وصلابته في تحقيق مصالح دولته وشعبه، لهذا كانت رحى الحرب دائماً مستعرة وإن اختلفت لغاتها وأدواتها، والأطراف الدولية فيها إن كانت بريطانية أو أميركية أو شيوعية أو إيرانية وإسرائيلية أو حتى عربية.

ليس ذلك لأن الحرب، بأي معنى، مثل "شرب الفناجيل" كما تقول الأغاني الوطنية، ولكن لأن السلام نفسه والاستقرار معلقان بأسنة الرماح، ولذلك أعلنت "بصمات شاب من الشرق الأوسط" أن حربه التي يقود هي أن يرى منطقته مثل أوروبا، وهو الذي قال الكاتب غسان شربل إن المنطقة لم تعتد مثله كثيراً، فإطلالته على القناة الأميركية أظهرت كم "تحولت السعودية خلال أعوام قليلة لاعباً كبيراً في ملفات كبرى تعني العالم باقتصاده واستقراره، فقد ترك محمد بن سلمان بصماته على ملفات الداخل، وها هو العالم يتحدث عن بصمات لاعب جديد وبصمات شاب من الشرق الأوسط".

ولئن كانت السعودية استثمرت في إحلال الاستقرار والأمن بوصفه أهم ركائز نشأة الدولة الأولى منذ التأسيس 1727، وقادت في الإقليم جهود التهدئة وخفض التصعيد والشراكات التنموية والجسور بين القارات أخيراً، فإن هذا النوع من الخيارات هو الآخر لا يريح كثيرين يقابلون كل خطوة للرياض بالتشكيك، حتى وإن أظهرت أرقام المؤسسات الدولية أن مؤشرات الرؤية تمضي في بعض الأحيان أسرع مما استهدف، فكان لا بد من حرب "القوة الناعمة" التي كان حوار "فوكس نيوز" وغزو نادي "النصر" السعودي إيران من بين أحدث مخرجاتها.

زحمة العناوين

 وكان مجري المقابلة باير صارح ملايين مشاهديه الأميركيين قائلاً "أجريت كثيراً من الحوارات خلال مسيرتي المهنية، لكن لم يسبق لي أن تلقيت هذا القدر من الأخبار والعناوين خلال مقابلة واحدة في وقت واحد"، غير أن زحمة العناوين التي تطرب الصحافيين توغر صدور المنافسين، خصوصاً من ظنوا بوسعهم ذات يوم احتكار التأثير في مجموعة دول مهما يكن توصيفها، سبعاً أو خمساً.

 

لكن على رغم ذلك سيبقى المشككون أمثال بول ماكينس من "غارديان" البريطانية الذي استفزه جواب ولي العهد الساخر عن أسطوانة "غسيل الرياضة" التي صارت بديلاً عن ملف خاشقجي في محاصرة أي تحرك سعودي، واعتبر أن "الشكوك حول رؤية السعودية ستظل قائمة بالتأكيد على رغم غزارة الإحصاءات التي كشف عنها ولي العهد لشبكة ’فوكس نيوز‘ وسخريته من انتقادات غسيل الرياضة"، إلا أنه لم يستطع نكران ما تتمتع به السعودية من التأثير والسلطة والنفوذ، وإن وظفها في سياقه السلبي.

الضربة القاضية

لكن صانع العناوين السعودي سدد هذه المرة ضربة في مقتل المزايدين الغربيين، إن هي أصابت الهدف فسيكون ذلك تحولاً مثلما قال هو الأكبر من نوعه منذ الحرب الباردة، في إشارة إلى الصفقة مع الإسرائيليين بمقابل غير مسبوق تقدمه أي من واشنطن وتل أبيب، لتجني السعودية والمنطقة أجمع ثماره، فضلاً عن أميركا التي قال معهد واشنطن للدراسات فيها إن "إحراز الصفقة طغى على ما سواه وصار شغل البيت الأبيض الشاغل"، فهي لا تضمن لبايدن سنوات في البيت الأبيض وحسب، ولكن خلوداً في التاريخ.

ويأتي ذلك بعد حملات تشويه واسعة النطاق وتهاون مع خصوم الرياض وضغط عليها في تناقض أثار استياء شديداً وأفضى إلى أزمة حادة في علاقات الخليج مع واشنطن، لم تغير لهجتها حتى زيارة الرئيس بايدن جدة في يناير (كانون الثاني) 2022، لكن تصميم القيادة السعودية وصلابة قناتها عبر تنويع التحالفات وتوظيف أوراقها الاستراتيجية دفعا أخيراً أميركا إلى الإيمان بأن السعودية رقم صعب لا يمكن الاستغناء عنه في التوازنات الإقليمية والدولية بالنفط ومن دونه، في وقت عاد فيه التنافس الدولي والاستقطاب إلى أشده أو يكاد.

توظيف التنافس الدولي

وفي هذا السياق استدعى كثيرون بعد مقابلة ولي العهد الأخيرة شخصية جده الملك عبدالعزيز والمرحلة التي ظل فيها مناوراً ومحارباً، ما إن تكاد تهدأ عاصفة حتى تهب أخرى، إلا أن الثبات على غايته كانت السمة البارزة في خطواته مهما تعددت أساليبه في التعامل مع القوى والخصوم الإقليميين والدوليين.

ويقول مركز الخليج للأبحاث في تعليقه على تزامن المقابلة مع اليوم الوطني السعودي، "لا بد من أن نستذكر النهج الواقعي الذي سنّه الملك عبدالعزيز وأصبح ركيزة ثابتة في السياسة الخارجية السعودية، وكانت أبرز ملامحه توظيف التنافس الدولي لمصلحة مشروعه التوحيدي".

ويخبرنا عن تعقيدات إحدى محطات ذلك العهد أميركي آخر وإن كان من أصل عربي، هو أمين الريحاني الذي قاوم سيلاً من التجريح ضد الكيان السعودي الوليد في ذلك الحين من جانب المتأثرين بدعاية الخصوم، لكن الجائزة وفق ما وثق في كتابه "ملوك العرب" كانت تستحق العناء، يوم دوّن في ملاحظاته قبل أن يرسلها إلى صحيفته أول انطباع يخالجه بعد مصافحة "ابن سعود".

يوم اللقاء الأول

ويقول، "ها قد قابلت أمراء العرب كلهم فما وجدت فيهم أكبر من هذا الرجل، ولست مجازفاً أو مبالغاً في ما أقول، فهو حقاً كبير، كبير في مصافحته وفي ابتسامته وفي كلامه وفي نظراته وفي ضربه الأرض بعصاه. يفصح في أول جلسة عن فكره ولا يخشى أحداً من الناس، بل يفشي سره وما أشرف السر! سر رجل يعرف نفسه ويثق بعد الله بنفسه. "حنا العرب"، إن الرجل فيه أكبر من السلطان، وقد ساد قومه ولا شك بالمكارم لا بالألقاب".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكان من المصادفة أن يتزامن اللقاء مع اجتماع مفصلي في تاريخ البلاد عرف بعد ذلك بـ "معاهدة العقير" أواخر عام 1922، وشهد الريحاني عن قرب يومئذ أطوار شخصية الرجل الذي جاء من أقصى غرب العالم ليلقاه مسروراً وغاضباً وحازماً ومتبسطاً مع رجاله وقريباً من رعيته، بما فيها جمل وجد أن صاحبه لم يحسن سياسته، وحمله فوق ما يطيق.

لكن اللحظة التي لا تخطئ العين حدتها كلما أطلت برأسها هي حين يشعر الملك بأن قوة عظمى كانت أو إقليمية يخامرها ظن بأنه يمكن أن يفرط في شبر من أرضه وملك أجداده، ويومها لم يخف عن الكاتب الأميركي سراً حين فسر غضبته الشديدة بظهور نيات سيئة من المسؤول البريطاني تشير إلى محاولته إرغام الزعيم العربي على تنازلات ما كانت واردة، إلا أنه على رغم تلك اللحظة التي تطغى فيها نوازع الكرامة لم تحجب سورتها خيوط الواقعية السياسية عند ملك اعتبر من دهاة عصره القلائل.

يوم رفع رجل نجد عقيرته

ويروي الريحاني أنه بينما كان المندوب البريطاني السامي "قد اصطحب على ما يظهر رجلًا غير مرغوب فيه، رجلًا من العرب الناقم عليهم ابن سعود، بيد أن للإنجليز قصداً باصطحابه كما ظن السلطان، وقد جاءوا يحققون هذا القصد على حساب ابن سعود، فرفع رجل نجد صوته في تلك الأرجاء الرملية وهو على ذلوله والخيزران بيده ويسير في رأس الموكب بين اثنين من رجاله: لا لا، هذا ما يصير. لا نتنازل عن شيء من حقوق أجدادنا. أما إذا قال الإنجليز نبغي هذا منك وجاءوني بأمر محتوم، فأنا ابن سعود أسلّم لهم، ولكن في أول فرصة تسنح أسعى إلى استرجاع حقوقي المهضومة. دعهم يغزلون فإننا لا نتحول عن جادة الحق ولا نعمل عملًا فيه ظلمة أو غموض"، وهذا ما كان.

أما السفير السعودي السابق عبدالرحمن الجديع فاعتبر أن المجتمع الدولي يشهد "أحداثاً وأزمات إقليمية ودولية متسارعة تشكل تحديات خطرة أنتجت تداعيات أسهمت وما انفكت في خلط الأوراق على المستويات كافة، الجيوسياسية والجيواقتصادية، بما في ذلك الأمن والتنمية المستدامة"، مما رفع سقف الحذر لدى كثير من السياسيين، بالنظر إلى أن "مثل هذه التفاعلات جرّت فيما مضى القوى العظمى إلى الحروب والمواجهات التي دمرت أوروبا واليابان، وأودت بمصائر كثير من الشعوب والدول".

وفي هذا السياق ربط بين موقف ولي العهد السعودي الذي برز خلال مقابلاته خصوصاً مع الإعلام الأجنبي، وبين مقاربات جده المؤسس عبدالعزيز الذي يرى أنه "لا يسع المراقب الغارق في خضم هذه الأحداث إلا أن يستعيد مواقفه وقدرته الفائقة على التعامل مع معطيات السياسة الدولية ومنعرجاتها في تلك الحقب الزمنية وما تلاها ونجم عنها من أزمات متعاقبة، وكيف تعامل بحكمة وواقعية مع متغيراتها".

الحقب الملتهبة

فيرى أن ذلك جنب البلاد "الانزلاق في أتون المواجهة أو الانجرار وراء سياسات الاستقطاب والتمحور إبان حقب ملتهبة تمثلت في الحربين العالميتين وانهيار أربع إمبراطوريات عظام، كبيرة النفوذ مترامية الأطراف، الإمبراطورية القيصرية في روسيا والإمبراطورية النمسوية المجرية والإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية العثمانية".

وحينها رجح أن الزعيم الراحل "عاين بثاقب نظره تراجع كثير من مفاهيم السياسة الدولية كمبدأ توازن القوى والهيمنة الأوروبية جعله يتفادى الإفرازات التي تمخضت عنها تلك الأحداث وأصابت العالم بالاضطراب".

وكان ولي العهد في أولى مقابلاته التلفزيونية عام 2016 صارح مواطنيه عند النظر إلى أكثر الملفات في السعودية حساسية، وهو "الاعتماد على النفط"، بأن عليهم أن يتذكروا أن مؤسس الدولة قام حينها ورجاله بخوض غمار توحيدها "وتحدى الاستعمار البريطاني فلم يأخذ شبراً واحداً من السعودية من دون نفط"، مما أعطى إشارة بأن مقاربة العهد الأول في التعامل مع التحديات الإقليمية كانت حاضرة في حراك الرياض اليوم، وسط عواصف السياسة الدولية الراهنة ومتغيرات ألاعيبها، تنظم لقاء "العقير" شرق السعودية عام 1922 وحوار "سندالة" شمال غربي البلاد عام 2023.

أما كيف أمكن السعوديين مع مرور العقود الحفاظ على شخصيتهم الصلبة تلك وشعرة معاوية مع القوى الدولية، فذلك يعود بالنسبة للمفكر المصري مأمون فندي إلى أنها "نبت طبيعي لأرضها كنخيلها، ولم تولد من رحم التجربة الاستعمارية".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير