Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بيروت ملاذ فنانين سوريين مهاجرين يبحثون عن الأمل 

معرض لأعمال تشكيلية ونحتية وفوتوغرافية تقدم صورة شاملة عن التحولات الجديدة 

لوحة للرسام يوسف ديب في المعرض (خدمة المعرض)

ملخص

معرض لأعمال تشكيلية ونحتية وفوتوغرافية تقدم صورة شاملة عن التحولات الجديدة

بينما يشهد لبنان حملة شعبية ورسمية ضد النزوح السوري الذي بات يثقل كاهل البلاد، تستقبل بيروت معرض تشكيلياً جماعياً لرسامين سوريين يقدمون من خلاله رؤيتهم إلى سوريا الحرب وما بعدها. فبدعوة من جامعة هايغازيان في بيروت وبالتعاون مع "بريتيش كاونسيل" يُقام في حرم الجامعة في أول شارع الحمرا البيروتي، معرض جماعي يحتضن تجارب فنانين سوريين شباباً، يحمل عنوان "لحظات الوجود". للوهلة الأولى تشكل كثرة اللوحات صدمة للمتلقي فيشعر بأنه سيكون مجبراً على التأمل في الأعمال العائدة لفنانين لا يجمع بينهم سوى نقطتين: الانتماء إلى بلد واحد هو سوريا، وكونهم من جيل شاب يرسم الآن ويقدم عروضه المختلفة في الدول والعواصم.

هذا الانطباع السريع لا يلبث أن يتبدد، ويمكن البدء بالعنوان الذي هو فضفاض بطبيعة الحال،  لكنّ قراءة بسيطة في الأعمال وصيرورتها والسبب الكامن وراء إبداعها أو حتى جمعها كلها في معرض واحد، تكشف عن أن العنوان هو الخيط الحر الذي يجمع هذه الكوكبة من الفنانين تحت سقف واحد.

معنى أن تكون سورياً اليوم

تطرح الأعمال في خلفيتها أسئلة وأفكاراً متعددة، يأتي في طليعتها سؤال جوهري مفاده ما معنى أن تكون سورياً اليوم؟ ما معنى ذلك كإنسان وما خاصيته لك كفنان يعيش، يؤثر ويتأثر؟ انطلقت فكرة المعرض من مصطلح واسع، ونوعاً ما صعب، هو الأمل. الأمل الذي ينشده هؤلاء الفنانون في شغلهم وحياتهم وإنسانيتهم. رحلة البحث عن معنى لهذا المصطلح كانت السبب وراء هذا المعرض الفني الذي يجمع بين جنباته فنانين شباباً ولكن لكل منهم لغته البصرية وطريقة اشتغاله. الفكرة التي كانت تجمع بين كل الإجوبة التي ولدت من لقاء "اندبندنت عربية" بالفنانين، كلاً واحد على حدة، هي أن الانتماء يمكن أن يأتي ليس بمجرد السكن في مكان، ولكنه يحمل معه موروثات وقصصاً وعادات وتقاليد وأشياء جد بسيطة قد لا يكون لها علاقة بالفن، ولكنها، مع الوقت والتراكم، تدخل بشكل سري في تركيب اللوحة. يمكن أن تشكل اللوحات التي يراها الناظر عبارة عن لحظات وجود ولكن لكل على طريقته وبأسلوبه، وكما تملي عليه رؤيته للفكرة والناس وأحوال سوريا والتحولات التي دخلت عليها في السنوات الـ10 الأخيرة.

في كلامها لـ"اندبندنت عربية" تصرح لين دبوس منسقة المعرض، التي تحمل أيضاً الجنسية السورية من أمها: "كانت لحظة الإعلان عن المعرض لحظة مبادرة، إذ جرت الترتيبات للمعرض في أوقات قياسية مقارنة بأي تنظيم لمعرض أو نشاط فني آخر. وقت قياسي بالنسبة لتحضير معرض يضم 12 فناناً بعضهم يقيم في لبنان والبعض الآخر في الخارج، جرى الحصول على أعمالهم من وكلائهم في بيروت نظراً لأهمية الحدث".

وتضيف دبوس: "ما يهمنا أكثر في هذا العرض هو فهم حالة الشخص في كونه سورياً لأننا أمام حالة اختلاط رهيب في المشاعر، أردنا فنانين يتحدثون عن صدق وليس عن أوهام، بحثت عن نوستالجيا مقرونة بأمل أو ببصيص أمل، هذه ببساطة محاولة لنجمع في الوقت ذاته بين السوري والشخصي والنتاج في قالب جماعي واحد".

استعادة دمشق

تبدأ الرحلة مع إلياس أيوب المهووس بشوارع دمشق وأزقتها، هي دمشق بتراكماتها، تروي لوحته الوحيدة الموجودة في المعرض، سوريا بتراكماتها وازدحامها العمراني. قلوب طافية وعرائش ممددة تتوالى. لوحة هي مزيج من المدني والقروي والياسمين أينما كان.

من جهتها تعرض عزة أبو ربعية لوحة عن مراحل تطور الإنسان، من نطفة إلى ما تحت التراب. يمكن القول عن لوحتها، إنها لوحة المكان الرحمي، صورة رحمية. تخالط الألوان بين الأحمر، لون الأنسجة، إضافة إلى تكاوين الوجوه المبعثرة. اليرقة في لوحة أبو ربعية تصير فراشة ويبصر الناظر هذه التطورات. الفراشة ذاتها التي أتت إلى حياتها وزارتها داخل السجن وخلقتها من جديد.

غالية قلعجي المقيمة بعيداً من سوريا، لديها هوس رسم الزوايا في البيت. التذكر وإطلاق العنان للتفاصيل، لوحتها عبارة عن كومة من التفاصيل والصباحات مقرونة بلمحات كآبة وحسرة.

في صور حسن بلال أسئلة حول كيف يمكن فهم الهوية من خلال ماضي الأهل والعلاقة الشائكة مع هذا الماضي وما يجسده من ثقل وموروث. يأخذ حسن من خلال مبادرة "افتح الدرج" رحلة إلى طرطوس ليفتح درج أهله ويعمل على إحياء صور من الثمانينيات تحمل نية في المساعدة على فهم الهوية وطرائق العيش واللبس والمكان وخاصيته في تكوين النفس والطبائع البشرية.

وجع الجذور

سارة قنطار التي تعيش حالة صراع واضح بين الأصل والجذور، صراع يظهر جلياً في "جذوري عم توجعني" هو أشبه بدراسة للعلاقة بين باريس ودمشق، محلةً، أو افتراضاً قد يصيب وقد يخطئ. الهدف من هذه المحاولة هو الوصول إلى مصالحة وإيقاف تأنيب الضمير الذي يحاصرها. معركة اللعب مع الظلال التي تقدمها من خلال الفوتوغرافيا وكأننا أمام صخور تؤدي إلى بحر. حورية يائسة ومستلقية في اليابسة، صورة وانعكاسات لمحاولة الفهم والخروج من القعر إلى اليابسة.

بالعودة إلى رنده المداح وفيلمها، رنده التي ولدت في الجولان ودرست في دمشق، ولكنها كانت مخيرة أمام أمرين إما البقاء في دمشق بعد الدراسة أو العودة نهائياً إلى الجولان من دون السماح لها لاحقاً بالدخول إلى دمشق. اختارت رنده العودة إلى القدس وبعدها إلى باريس. فيلم رنده محاولة مستمرة لترتيب البيت بشكل مألوف، ومن أشياء صغيرة عائمة، طاولة أو صورة للعائلة. من الواضح في فيلم مداح أن الهجرة كانت سبباً في العودة إلى الأشياء البسيطة، وتحويل المكان إلى حيز مألوف وغير مستغرب وهجين. يكفي أن يكون البيت مطلاً على الأراضي المحتلة لتطلق العنان للذاكرة والتداعي.

ستيفاني صاصويان في البوب آرت المعروض لها تردد عبارة واحدة "وأنت متى ستشرق" محاولة اللعب على الكلام وإيقاعاته والسؤال عن الاحتفاظ بالهوية الشرقية وبخاصة للإنسان السوري.

في المنحوتة الصغرى والكبرى لريتا حصواني نبصر الولادة من العناق، الفكرة والأثر لا يفقدان قيمتهما وإنما تبقى ذاتها في كلتا المنحوتتين. هي عبارة عن رؤية بمرآة الحجر، تعبير عن حب الذات والعودة إلى الذات وتقدير الذات. كائنات ومنحوتات لا تقدم سوى السلام مادة أساسية مفادها العناق الدي يختصر كل عناصر الحب. في العملين محاولة حثيثة للوصول بالعمل المقدم إلى ذروة الفكرة الإنسانية وتجلياتها.

الصورة الرومنطيقية

تجربة فريدة من نوعها تقدمها هيدر كايد وهي أميركية من أصول سورية من خلال دراستها للثقافة الغذائية. كايد التي عاشت وولدت في أميركا بعد ثلاثة أجيال من الخروج من سوريا، أضحت تسمع عن سوريا في الصيغة الرومنطيقية. عام 2021 وحين عودتها إلى الشام كانت الصدمة حين عادت وأحست أنها خُدعت. فما رأته لا يمت بصلة لما هو مروي على مسمعها، ومن هنا تأتي فكرة العرض.

العبور من جيل إلى جيل يغير في القوالب والمعطيات الكبرى ويحيلها إلى أشياء مختلفة تماماً عما سبقها. جسدت ذلك من خلال طعام اسمه "قمر الدين" قسمته إلى عدة عروض: الأول قامت بعرضه كما هو وفي صيغته المتعارف عليها كطعام، والثاني عرضته مطبوعة عليه أشياء وتفاصيل، أما الثالث فألغت القمر الدين واستبدلته بمجرد طبعة على ورق لونها برتقالي من لون قمر الدين للإيحاء بأنه هو والطبعة الرابعة مجرد ورق مطعج بلا أي إثارات. هذه التغيرات في أحوالها كلها هي تغيرات الأجيال الأربعة التي عبرتها وجسدتها في زاويتها من المعرض.

الزورق المليء بالمياه في لوحة محمد خياطة أشبه بمناطيد الهواء. منطاد زوارق يحمل زورقاً مكسوراً فوق الغيم. لا يمكن لهذه اللوحة إلا أن تردنا إلى الطفل الوحيد الذي وجد مرمياً على أحد الشواطئ نتيجة الهجرات غير الشرعية بالبحر. زورق محمد خياطة يأتي حاملاً أمنية تقول إن هذا الطفل مكانه فوق، فوق الغيم على رأس المنطاد يتفرج ويبصر كل شيء. أما في عمله الآخر فهي الحياة في تراكماتها، قطيعة مع الغيم ووصول إلى العدم، بحثاً عن السعادة.

في نهاية المعرض تبرز لوحات يوسف يوسف بمساحاتها الكبيرة ووجوهها الهائلة، مساحات لونية هائلة. لوحة المساحات والحقول المتعرجة بين التفاصيل.

"لحظات الوجود"

الانطباع الكبير الذي يخرج به المتفرج من مشاهدة "لحظات الوجود" يمكن تلخيصه بفكرة رئيسة اليوم أن الفنان السوري لم يعد نسخة معدلة للحرب، ولا جسراً لتجسيد حالة الحرب والتناقضات. طبعاً هذا لا يعني أن الحرب لم تؤثر فيهم، ولكنها أضحت مقولبة داخل العمل أو في خلفيته. ما بدا بارزاً بقوة أنّ من غير المقبول أيضاً التقليل من صفات البشر لمجرد جعلهم أيضاً في خدمة الحرب والترويج ضدها والدعوة لمحاربتها، الإنسان أكبر وأعم من ذلك بكثير. والعرض هذا هو دعوة للخروج والعبور، الخروج من منطق الضحية، والتحدث كما يريد الفنان كفنان وكصاحب رؤية ومشروع. فهو لا يمكنه أن يبقى ابن حرب لمدى الحياة فهذه مقتلة إنسانية وعلى الصعيد الفني أيضاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في تصريحه لـ"اندبندنت عربية" يقول إلياس أيوب أحد الفنانين المشاركين: "بالنسبة إليّ هذه فرصة للتلاقي على مشهد واحد وفي منصة واحدة، وضمن مشهد تشكيلي واحد". ولدى سؤالنا عن دور الفنان السوري اليوم يجيب أيوب: "بطبيعة الحال دور الفنان هو الإضاءة على الموضوع وطرح المشكلة والإضاءة عليها. يتجلى هدفي في أن أكون حجرة من هذا البناء أو المشهد الفني المقدم هنا، لنضيء على المعنى الإنساني بالترافق مع الجمال وهمّه. ألواني الانطباعية التي شاركت فيها هي ياسمين بيروت والشام، وبشكل ما هي تجليات الهجرة والنزيف اليومي الذي نعانيه في هذه المدن والعواصم بالتحديد. لطخة بسيطة لتوسيع قاعدة المشاهدة بشكل أكبر لتصل إلى شريحة أكبر".

في غمرة مد الحياة وجزرها تقدم "لحظات الوجود" أعمالاً نسجت بخيوط الهوية والذاكرة الجماعية. الأشياء والممارسات الروتينية التي تبدو عادية، وعادة ما يتجاهلها المشاهد باعتبارها مألوفة وبسيطة، تحمل الواقع في طياتها واكتشافات عميقة تتجاوز الحدود الجغرافية. هذه الأشياء اليومية، الزاخرة بالذكريات الجماعية، هي بمثابة مرايا تعكس الجوانب المتنوعة لوجودنا.

في "لحظات الوجود" تآلفت مجموعة الأعمال الفنية بدءاً بالمنحوتات والعروض إلى اللوحات والصور الفوتوغرافية، لتشكل بيتاً من المفارقات، يتجاور فيه الصخب والصفاء، والضيق وأحلام اليقظة. إنه بيت يتجاوز الحدود الوطنية ليصبح مستودعاً للذكريات المشتركة والأحلام المفعمة بالأمل التي تمتد إلى ما هو أبعد من المناظر الطبيعية المحسوسة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة