Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما فعلته الأزمة الاقتصادية بالمصريين

تكيف اضطراري وتغير واسع في ثقافة الاستهلاك دفع متخصص اقتصادي للمطالبة بمنحهم "جائزة نوبل"

مصريون يتحايلون على الأوضاع المعيشية الصعبة على أمل عبور الأزمة الاقتصادية (أ ف ب)

ملخص

الأرقام الرسمية في مصر تكشف واقعاً متأزماً يعيشه المصريون ما دفعهم لتغيير ثقافتهم الاستهلاكية

"ادفع ومتحكيش (لا تعترض) ده الجنيه ما يساويش (بلا قيمة)".. عبارة وضعها سائق سيارة أجرة في مصر للخروج من حالة الجدل حول تعريفة الركوب وزيادتها جنيهاً.

الملصق وإن كان جزء منه تجميلاً، إلا أنه يعبر عن واقع اقتصادي متأزم، فعلى مدار سنوات والجنيه المصري يفقد قيمته، وكان الأمر حاداً منذ مارس (آذار) 2022، حين كان يسجل الدولار آنذاك نحو 16 جنيهاً، لكنه الآن يلامس 31 جنيهاً، وسط مخاوف من موجة جديدة من الانخفاض، على أثر تعويم يقول خبراء إنه محتمل.

سائق الميكروباص الذي وضع اللافتة التي تشير إلى قلة الثقة في الجنيه المصري، وانخفاضه إلى الحد الذي بات معه بلا قيمة شرائية، أحد الذين تغيرت أوضاعهم مع ذلك الانخفاض لقيمة العملة الوطنية، وسط تنامي مؤشرات التضخم، فقد قفز معدل التضخم السنوي في مصر خلال أغسطس (آب) الماضي إلى 37.4 في المئة، مقابل 36.5 في المئة في يوليو (تموز) الماضي، وسط ارتفاع في أسعار الغذاء بلغت 71.4 في المئة على أساس سنوي، بحسب بيانات رسمية أصدرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري.

السائق الذي لا يعرف ماهية تلك الأرقام وطبيعتها، يجيد التعبير بلغة السوق أفضل مما تقول الأرقام. لديه ثلاثة أبناء في مراحل تعليمية مختلفة، ويدرسون في مدارس حكومية، لكنه يجد نفسه مضطراً لشراء ملابس جديدة، وحقائب وأدوات دراسية، وحلوى المولد النبوي، إضافة إلى الأمور المعيشية الطبيعية، فيجد نفسه بين كل تلك الضغوط، مضطراً إلى البحث عن حلول.

البحث عن مخرج

يقول السائق الذي فضل عدم ذكر اسمه، إنه قد يحصل شهرياً على نحو 7 آلاف جنيه (226.5 دولار)، لكنها بالكاد تكفيه وأسرته، معتبراً أن ذلك المبلغ لو كان يحصل عليه منذ سنوات لكان له فائض يصفه بالمقبول، وقد يمكنه من ادخار بعضه لأي طارئ قد يحدث "الحياة باتت أصعب، لكن لا مفر من التدبير، في أي لحظة قد تحدث لي مشكلة صحية، ولن يمد أحد لي يد العون، الأوضاع صعبة على الجميع".

وجد سائق الميكروباص نفسه، مضطراً إلى البحث عن بدائل لأمور اعتيادية، فبدلاً من شراء حقائب جديدة لأولاده خلال العام الدراسي الذي ينطلق قريباً، فقد أصلح الحقائب القديمة، وبحث عن كتب مستعملة لأولاده عوضاً عن شراء جديدة، لكنه وبمنطق أبوي، رفض أن يذهب أولاده للعام الدراسي الجديد من دون ملابس جديدة "في العادة لم أكن لأفعل ذلك، كنت سأشتري لهم كل شيء جديد، لكن ثقافتي الاستهلاكية تغيرت مع تلك المتغيرات الجديدة المتعلقة بالأسعار".

تغير ثقافة الاستهلاك

تصرف السائق يدخل ضمن تصرفات ملايين من المصريين، وجدوا أنفسهم مجبرين على التأقلم مع واقع اقتصادي جديد وصعب، ما بين ترشيد أو استغناء أو بحث عن بدائل، وهي ظاهرة ليست بالجديدة، بحسب ما قاله أستاذ علم الاجتماع السياسي سعيد صادق، في حديث سابق لـ"اندبندنت عربية"، معتبراً أن ذلك الأمر متكرر في غير مرحلة، لكنه لم يكن بتلك الحدة "وجدنا طبقات اجتماعية مختلفة تعاني، لا سيما الطبقة المتوسطة، ما يحدث الآن له وجه إيجابي وحيد في تعلم ثقافة الترشيد، لأننا مجتمع مستهلك بطبعه".

 

 

لكن صادق، الذي يدرس علم الاجتماع السياسي في الجامعة الأميركية بالقاهرة، يعتبر أن تلك الثقافة يجب أن تكون متوازية مع معدلات دخول مقبولة، وقدرة معيشية ملائمة ومناسبة كافة الشرائح، وتمتد باستقامة الخط، لا أن تكون وليدة لحظة اقتصادية معينة "الناس طيلة الوقت تبحث عن بدائل، بداية من صاحب العمل، مروراً بصاحب المتجر، انتهاء بالمستهلك نفسه والمواطن، هذا طبيعي ومطلوب، لكن من ناحية أخرى على الدولة أن توفر حلولاً اقتصادية للمواطنين ترفع عنهم عبء ارتفاع الأسعار".

حماية اجتماعية

منذ أيام وخلال مؤتمر في محافظة بني سويف، شمال صعيد مصر، وجه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، بزيادة علاوة غلاء معيشة استثنائية، للموظفين بالقطاع العام، لتصبح 600 جنيه (19.4 دولار) بدلاً من 300 جنيه (9.7 دولار)، وزيادة للحد الأدنى لدخول موظفي القطاع العام بالدرجة السادسة لتصبح 4 آلاف جنيه (129.4 دولار) بدلاً من 3500 جنيه (113.2 دولار). وهي زيادات قالت عنها المالية المصرية إنها وزيادات المعاشات وعلاوات الغلاء ستكلف الموازنة 60 مليار جنيه مصري (1.94 مليار دولار)، وسيكون تطبيقها بداية من أكتوبر (تشرين الثاني) المقبل.

يقول المتخصص في السياسات الاقتصادية محمد أبو سريع، إنه مرت على مصر أزمات اقتصادية مختلفة، منها فيروس كورونا، وقد أبلت معه بلاء جيداً، لكن آثاره لا تزال مستمرة حتى الآن، ثم كانت الحرب الروسية - الأوكرانية، وما فعلته ليس في مصر فقط وإنما العالم أجمع، وتأثيرها على الطاقة والمواد الغذائية عالمياً، إلى الحد الذي اختفت فيه بعض السلع من عواصم عالمية "كنا نصدر مواد ومنتجات زراعية حتى، ونتوسع في مشاريع إنتاجية، في حين أن بعض الدول كانت تختفي لديها سلع استراتيجية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولذلك يعتبر أبو سريع، أن التضخم في مصر كان تدريجاً، بناءً على ظهور أزمات متتالية، ولم تقفز الأسعار مرة واحدة، معتبراً أن ذلك التضخم مستورداً، بناءً على أزمات عالمية "كان إنتاجنا جيداً، ومشاريعنا الاقتصادية تسير على نحو جيد، قبل ظهور تلك الأزمات". ويرى أن الحل الأساسي في ظل تلك الأوضاع، زيادة الإنتاج والعمل على مشاريع قومية في ذلك القطاع "لكن بالتوازي مع ذلك، هناك حزم دعم اجتماعي مهمة أيضاً، تقدمها الدولة للمواطنين، وليست الحزمة الأولى ولن تكون الأخيرة طالما أن الأزمة ممتدة".

يعتقد المتخصص في الشأن الاقتصادي، أن الحزمة الأخيرة داعمة لمواجهة الأخطار المواكبة للأزمة الاقتصادية الناجمة عن ظروف عالمية كالحرب الروسية - الأوكرانية، وهي أزمة طاولت كافة الطبقات، لكن تأثيرها الكبير على الطبقات منخفضة الدخول أكثر من غيره "بالتالي تلك القرارات دعم وحماية للمواطن، لكن ذلك يحدث بالتوازي مع التوسع في الإنتاج".

الحد الأدنى

ومنذ تولي عبدالفتاح السيسي، رئاسة مصر في عام 2014، زاد الحد الأدنى للأجور 8 مرات، بنسب وصلت إلى 233 في المئة، حتى بلغ أربعة آلاف جنيه (129.4 دولار)، ونصف هذه الزيادات كان منذ أبريل 2022، وهو أمر جيد بالنسبة إلى سهام سيد، المدرسة بإحدى المدارس الحكومية في مصر، لكنها تعتبر أن التضخم يلتهم تلك الزيادة، شيئاً فشيئاً.

تضع سهام راتبها الذي لا يتجاوز 3500 جنيه (113.2 دولار) مع راتب زوجها، الذي يبلغ 5 آلاف جنيه (161.8 دولار)، وتنفق على الأسرة المكونة من طفلين بمعرفتها الشخصية، إذ هي الأكثر دراية بالأسعار وحاجات المنزل، وكانت قبل ذلك تترك الأمر لزوجها، لكن مع اختلاف الأسعار يوماً بعد آخر، صارت تلك مهمتها، ودخل الأسرة كله معها، سوى ما ينفقه الزوج بشكل يومي.

تتحدث السيدة المصرية عن أنها باتت تقلل بعض المواد التي اعتادت الأسرة تناولها، على رأسها اللحوم بجميع أشكالها، والتي كانت مادة أساسية على الموائد، مرتين أو ثلاث مرات في الأسبوع، لتصبح مرة أو مرتين فقط، لكنها في كثير من الأحوال تكون مرة واحدة فقط بعد ارتفاع أسعارها بشكل كبير خلال الفترة الأخيرة.

إلى جانب الاستهلاك الغذائي في الأسرة، فإن المدرسة عمدت إلى تغيير بعض ثقافات استهلاكية وإنفاقية في منزلها، كالاعتماد بشكل أكبر على المواصلات العامة وليس وسائل النقل الخاصة، والبحث بشكل أكبر عن العروض في سلاسل المتاجر الكبيرة، بحكم حديثها مع صديقاتها في العمل وخارج العمل "نحاول أن نبقي أنفسنا في وضع جيد وفق الدخل الذي نحصل عليه، هذه عملية تكيف مع متغيرات لا نملك أمامها شيئاً، حتى لو كانت بالغة الصعوبة".

انخفاض الاستهلاك

في العام الماضي نشر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، دراسة حول تغير نمط إنفاق الأسر المصرية على السلع الغذائية وغير الغذائية، فقال إن 65.8 في المئة من الأسر تغير نمط استهلاكها، كما انخفض الاستهلاك من السلع الغذائية بنسبة 74 في المئة، منها 90 في المئة انخفاضاً في استهلاك البروتينات بما في ذلك اللحوم والطيور والأسماك، عما كان قبل الحرب الروسية - الأوكرانية.

 

 

بحسب تلك الدراسة أيضاً، فإن الأسر التي خضعت للفحص، أفادت بأن السبب الرئيس لانخفاض الاستهلاك، يعود إلى ارتفاع الأسعار وجشع التجار أيضاً، وأن 85 في المئة من الأسر تغير نمط شرائها من السلع، فباتت تشتري ما تحتاج إليه بشكل أسبوعي فقط، وهو أمر مختلف عما كان عليه الوضع قبل بداية الحرب الروسية - الأوكرانية.

الزيادات مستمرة

بحسب بيان للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري، فإن نسب تضخم الطعام والمشروبات على أساس سنوي وصلت إلى 71.4 في المئة في أغسطس الماضي، فيما كانت نسبة الأثاث والتجهيزات والمعدات المنزلية 42 في المئة، ونسبة الملابس والأحذية 23.60 في المئة، وذلك على أساس سنوي.

ووسط تلك الزيادات، يبحث كثيرون عن بدائل، أو استغناء عن بعض السلع، كما فعلت سارة هلال، التي تعيش مع أسرتها، لكنها تنفق على نفسها، وتشتري ما تريد من مواد تجميلية، وتقدم على السفر غير مرة في السنة، لكنها مع تلك المتغيرات أعادت ترتيب أولوياتها "كنت أسافر في العام مرتين، وربما ثلاث مرات، لكن هذا العام والعام الماضي أيضاً لم أسافر سوى مرة واحدة، كذلك تغيرت عاداتي في التسوق، أشتري ما هو ضروري فقط".

بالنسبة لسارة التي تعيش في القاهرة، وتعمل كمنشئة محتوى لحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن ارتفاع أسعار السلع دفعها للتفكير في ادخار أية مبالغ خشية حدوث تغيرات في حياتها، لا تستطيع مواجهتها، لكنها لم تكن تفكر في الأمر من قبل "أعتقد أن هذا الأمر ضروري، لكن بالنسبة إلى كثيرين فإنه من الصعب ادخار أي شيء، أعيل نفسي فقط، لكن هناك أشخاص يتقاضون رواتب ومسؤولون عن أسر كاملة".

طرق مختلفة

بحسب حديث متلفز لمحمد أحمد، وهو الرئيس التنفيذي لشركة "إجابات" وهي شركة خاصة باستطلاعات الرأي، فإن ثقافة الاستهلاك باتت هناك ضرورة ملحة لتغييرها بحسب 82 في المئة من المشاركين في استطلاع رأي أجرتها شركتها، فيما قال 72 في المئة إن هناك حاجة لتغيير ثقافة الغذاء، و85 في المئة قالوا إنهم يجب أن يغيروا ثقافتهم تجاه شراء الملابس.

وحول طريقة ذلك التغيير، فإن نسباً كبيرة من المشاركين في استطلاع الرأي، بحسب محمد أحمد، رأوا أن الاقتصار على إنجاب طفلين أمر ضروري، كذلك تغيير طبيعة الطعام على المائدة المصرية، وإمكانية تناول طعام متبقٍ منذ يوم سابق، فيما قال آخرون إن الاكتفاء بحجم معين وبنوعية محددة للفاكهة، جزء مهم من ثقافة التغيير تلك، كذلك قال البعض إنهم سيتوقفون عن تدخين السجائر.

نوبل للمصريين

هذه الوسائل والتدابير التي يقدم عليها مصريون، اعتبرها المتخصص في الشأن الاقتصادي مدحت نافع، كافية لمنح الشعب المصري جائزة نوبل هذا العام عن جدارة واستحقاق، وهي جائزة تمنح لأفراد يقدمون مساهمات استثنائية في المجال الاقتصادي، لمساهمتهم العملية الاستثنائية في الجانب التطبيقي لعلم الاقتصاد.

في مقاله بجريدة "الشروق" المصرية، كتب نافع، أن الشعب المصري يعيش نحو 30 في المئة منه تحت خط الفقر، ونصيب الفرد من الناتج الإجمالي للدولة بين 2800 و3600 دولار، ما بين السوقين الرسمية والموازية، مقارنة بـ12600 دولار للفرد كمتوسط عالمي. وتناول نسب التضخم، واستضافة مصر ملايين اللاجئين، وندرة الدولار، وارتفاع أسعار السلع بنحو كبير، في ظل ضرورات منها فواتير السكن والكهرباء والمياه والغاز، بجانب الطعام والشراب والملابس والعلاج والمدارس والانتقالات.

ثم ينتقل إلى ما سماه "القدرة الاستثنائية للشعب المصري على التدبير" معتبراً أنها تستحق التوقف، وهذا التكيف بين مختلف الطبقات مع الظروف الجديدة، والصدمات في الأسعار، أمر يمكن تدريسه بحسب نافع في كليات الاقتصاد، كونها تتحدى المنطق أحياناً، لكنه يلفت في الوقت نفسه إلى أن ما يرتقي لمستوى اليقين بمدلول لفظ "البركة" لا يمكن أن يستمر للأبد.

سخرية ومزاح

وما بين حزم للدعم، وارتفاع للأسعار، وثقافة متغيرة للتعامل مع ذلك كله، فإن المواطنين في مصر، يصرحون حيناً حول زيادة الأسعار بشكل واضح، أو بالمزاح من خلال منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي، على رأسها تداخل الطبقات، بما في ذلك اتجاه كثيرين للمواصلات العامة والميكروباصات، كونها أرخص من وسائل النقل الخاصة، وتمتد السخرية في التعليقات طويلاً، وربما رأى أحدهم لافتة "ادفع ومتحكيش ده الجنيه ما يساويش" فيعيد نشرها من جديد، مضيفاً للسخرية صورة من الواقع.

المزيد من تقارير