ملخص
ما يلاحظ في الدخول الأدبي بفرنسا هذه السنة هو غياب الأسماء الجزائرية الفرنكوفونية التي عودت القارئ على حضورها
منذ مطلع أغسطس (آب) الماضي ودور النشر الفرنسية لا تتوقف عن طرح عناوين جديدة في سوق الكتاب، وبشكل خاص الرواية، ووصل عدد روايات الدخول الأدبي لهذا العام إلى 446 رواية وغاب عنها كتّاب كبار تعودوا على ألا يخلفوا مثل هذا الموعد المهم والحاسم، من أمثال ميشيل ويلبيك وغيوم ميسو وكريستين أنغو وفيرجيني دوبونت، بخاصة أن الدخول الأدبي هو موسم السباق لجني الجوائز الكبيرة والمتوسطة والصغيرة، جوائز من كل نوع ومن كثير من المؤسسات والأشخاص، وهو أيضاً موسم حصاد اقتصادي لدور النشر، فكلما تم ترشيح رواية في قائمة من قوائم الجوائز، تحصد دار النشر أرباحاً مميزة إذ يزداد الطلب على هذا العنوان أو ذاك مباشرة، وتبعاً لذلك يتابع الإعلام باهتمام مثل هذه التصفيات الأولية والأخيرة فيزداد الترويج للكتاب.
تلك هي التقاليد العريقة للأدب في فرنسا منذ عشرات السنين، ولا تزال على الوتيرة نفسها جيلاً بعد جيل، ومع تعدد وتكاثر دور النشر ازداد العرض وازداد التنافس، ولكي يوسع أصحاب القرار من قاعدة قراء الكتاب التقليدي أمام صعود هوس ثقافة التكنولوجيا المرئية، تنظم وزارة التربية الوطنية بالتعاون مع مؤسسة "فناك" Fnac و"جمعية ضجيج" Bruit de lire بإشراف أكاديمية "غونكور"، جائزة "غونكور" تلاميذ الثانويات بوصفهم قراء الغد، وهي منافسة أدبية في قراءة الروايات الخاصة بالدخول الأدبي تمتد من سبتمبر (أيلول) إلى نوفمبر (تشرين الثاني) يكون فيها التلميذ هو الحكم، وهي جائزة لا تقل أهمية من حيث تكريس وتوسيع المقروئية عن جائزة "غونكور" الأم، وتتميز بمشاركة حوالى 2000 تلميذ من 54 ثانوية، وهدفها فتح باب الثانويات للرواية والروائيين ومن ثمة توريط جيل جديد في القراءة الأدبية الخلاقة.
إن الدخول الأدبي في فرنسا ليس عملية تجارية أو اقتصادية تمارسها دور النشر ولكنها وبشكل أساسي موسم صناعة الأسماء الروائية الجديدة، بحيث تتسابق دور النشر الكبرى مثل "غاليمار" و"فايار" و"فلاماريون" و"أكت سود" و"لوسوي" و"مينوي" و"كالمان ليفي" وغيرها في نشر الروايات الجديدة لكتاب جدد، كل ذلك من أجل إعطاء نفس جديد للحركة الأدبية وخلق أصوات جديدة تشكل حلقات وصل بالأسماء المكرسة التي تمثل انتظاراً خاصاً للقارئ.
أقول كل هذا الكلام وفي قلبي حسرة على واقع الارتباك والفوضى الذي يعيشه النشر في الجزائر وفي شمال أفريقيا والشرق الأوسط، حيث النشر لا يخضع لموسم معين ولا يتحكم فيه إيقاع الحياة الثقافية النائم أو المتهافت خلف أنظمة سياسية تريد للثقافة والأدب أن يظل بوقاً أيديولوجياً لخيباتها وكوابيسها.
لكن ما يلاحظ في الدخول الأدبي بفرنسا هذا العام هو غياب الأسماء الجزائرية الفرنكوفونية التي عودت القارئ على حضورها، فغاب عن هذا الدخول الكاتب ياسمينة خضرا (محمد مولسهول) الذي عوّد قراءه على نشر رواية كل سنة، بل أكثر خلال بعض الأعوام، وهو كاتب شعبي مقروء بشكل كبير، لكن ما يلاحظ حول تجربة هذا الكاتب الذي أصبح ظاهرة كونية هو تراجع عدد قرائه سنة بعد أخرى، ولعل روايته الأخيرة المنشورة في 2022 بعنوان "الفضلاء"، Les Vertueuxالتي قال عنها الكاتب نفسه إنها أفضل ما كتبه من روايات خلال 40 عاماً تقريباً، إلا أنها وعلى رغم صدورها في الدخول الأدبي الماضي لم تحصل على أية جائزة، بل لم ترشح حتى في القوائم الطويلة للجوائز الكبرى "غونكور" و"ميديسيس" و"فيمينا" و"ورونودو"، مما جعل الكاتب يعيد النظر ربما في فلسفة الكتابة وفي بنيتها أساساً فغاب عن دخول 2023.
وغاب عن هذا الدخول الأدبي الروائي رشيد بوجدرة الذي كان حتى تسعينيات القرن الماضي نجم المكتبات الفرنسية، مع أنه لم يحصل على أية جائزة أدبية كبيرة، وصعد نجم رشيد بوجدرة منذ صدور روايته الأولى "التطليق" La Répudiation عام 1969، ولكن يبدو وكأنه لم يتمكن من الاستمرار في الحضور مع الجيل الجديد من القراء في فرنسا ولم يعد اسمه يذكر إلا في الجامعات وفي الملتقيات العلمية وفي الأطاريح الجامعية، وربما يعود هذا التنكر له في الأوساط الأدبية والإعلامية لجملة من مواقفه الأيديولوجية وتصريحاته الغاضبة.
وغاب عن هذا الدخول أيضاً الروائي الجريء بوعلام صنصال صاحب "قرية الألماني" و"قسم البرابرة" والذي حصل أخيراً على جائزة "كونستانتينوبل" Constantinople ويظل هذا الروائي هو الأكثر حظاً من جميع الكتاب المغاربيين والأفارقة الفرنكوفونيين في الحصول على جائزة "نوبل" للآداب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن الجيل الثالث من الكتاب الجزائريين باللغة الفرنسية غاب أيضاً كل من أنور بن مالك وهو صاحب أسلوب متميز وإشكاليات روائية عالمية مهمة وحصل أخيراً على الجائزة الكبرى SGDL عن روايته "الحب في زمن الأوباش" 2022.
وغاب أيضاً عبدالقادر جمعي وهو كاتب مكثر وبمزاج خاص وبنصوص روائية قصيرة وهو حاضر باستمرار في الساحة الأدبية الفرنسية، ويغيب أيضاً عزوز بقاق صاحب رواية "أرنب الشعاب"، وهو الروائي والباحث الذي يملك حضوراً مميزاً خاصاً به، وتولى حقيبة وزير منتدب لترقية عدالة الفرص ما بين 2005-2007.
ومثله غاب عن الدخول الأدبي كل من سليم باشي الذي أحدث ضجة كبيرة حين أصدر روايته "كلب أوليس" عام 2001 التي حصل من خلالها على جائزة "غونكور" الرواية الأولى، وغابت الروائية الشابة فايزة قن صاحبة رواية "كيف كيف غدا" 2004 التي حققت مبيعات بلغت نصف مليون نسخة تقريباً، ومثلها غابت كوثر عظيمي التي تحفر بشكل واع وذكي مسارها الأدبي وحصلت أخيراً على جائزة "مونتلوك" للمقاومة والحرية عام 2023 عن روايتها "نذير شؤم".
وربما كان قراء هذا الدخول الأدبي ينتظرون رواية جديدة من الكاتب السجالي كمال داوود الذي يبدو أن الصحافة ابتلعته بإيقاعها المتهافت، وبالتالي ابتعد من التأمل الأدبي، فمنذ صدور روايته "زابور" التي لم تحقق ما حققته روايته الأولى "مساءلة الغريب"، والعنوان الأصلي Meursault contre-enquête، أخشى أن تتحول الصحافة بطابعها المتهافت إلى ما يشبه قبر قلم أدبي متميز وشجاع، أشعر وكأن المتعة العابرة التي تحققها له مقالاته الأسبوعية في مجلة "لو بوان" الفرنسية أنسته إلى حد بعيد متعة الكتابة الأدبية الخالدة.
ولم يحضر في هذا الدخول الأدبي سوى اسم غير معروف تماماً من قبل القاعدة العريضة للقراء، وهو مختار عدوني بروايته السيرة-ذاتية "الشروط المثالية" التي يستعيد فيها حياته من مهرّب مخدرات إلى مقيم في السجون والملاجئ الاجتماعية.
إن الدخول الأدبي في فرنسا هو في الوقت نفسه دخول أدبي بالنسبة إلى القارئ باللغة الفرنسية في الجزائر، فالقارئ الجزائري والمكتبي الجزائري والإعلامي ينتظرون هذا الدخول لمعرفة حضور الأسماء الجزائرية ومدى وزن ما تنشره مقارنة بأسماء أخرى، وكما في فرنسا ينعكس الصراع بين كتاب الدخول الأدبي وكذلك اختيار قوائم الجوائز على حجم المقروئية وتوجهها في الجزائر.
وحين يغيب الكتاب الجزائريون الفرنكوفونيون عن المشهد الأدبي الجديد، ولم يحدث هذا منذ خمسينيات القرن الماضي، أي منذ جيل محمد ديب وكاتب ياسين ومولود معمري وآسيا جبار ومالك حداد، فإن أمراً ما يحدث وإن أفق انتظار القارئ يصاب بنوع من الخيبة والتساؤل في الوقت نفسه.
سؤال وحيرة، هل غياب الكتاب الجزائريين الذين يكتبون باللغة الفرنسية عن الدخول الأدبي في فرنسا 2023 له تفسير سياسي أم ثقافي؟ أم هو محض صدفة قد تحدث في طبيعة الكتابة وتوقيتها لما هي عليه من مزاج وفردية؟
وهل تراجع واقع مستوى اللغة الفرنسية في الجزائر والحملة الأيديولوجية والسياسية التي تريد تعويضها باللغة الإنجليزية لها يد في هذا الغياب؟
في انتظار الموسم المقبل فقد يحمل لنا جواباً آخر!