لا سقف عمرياً للفكر والثقافة والفن، ما دام الجسد يخدم والعقل على استعداد. يستمر الفرنسي إدغار موران في إبداء الآراء وحضور النشاطات، بعدما تجاوز القرن بسنتين. وهذه هي حال الأميركي نعوم تشومسكي، ابن الخامسة والتسعين الذي لا يمانع في النقاش حول قضايا الساعة. على رغم قلتهم وندرتهم، يُنظر إلى هؤلاء المعمرين بدهشة! نتطلع إليهم من ثلاثينياتنا وأربعينياتنا وخمسينياتنا، المتعبة والمستهلكة أحياناً، بإعحاب كبير، متسائلين عن حال أوضاعنا الفكرية والنفسية والصحية عندما نصبح في مثل أعمارهم، وأغلب الظن ان كثراً منا لن يصمدوا.
نجد معمرين في المجالات كافة. لكن، في السينما، مخرج واحد تجاوز المعدل العام، فعاش أكثر من غيره محطماً كل الأرقام القياسية في العيش المديد ليصبح أكبر معمر في تاريخ الشاشة: البرتغالي الظاهرة مانويل دو أوليفيرا (1908 - 2015)، صانع الأفلام الوحيد الذي بدأ في الزمن الصامت واستمر بالعمل في الألفية الثالثة، وحتى آخر سنوات حياته. عاش أوليفيرا ما يمكن اعتباره حياتين، فتحول مضرب مثل. وكان لا يزال يعمل، لا بل يحضر المهرجانات في عمر يكون معظم الناس فيه قد توفوا منذ زمن بعيد. ذات يوم، التقيته في مهرجان البندقية، كان ذلك سنة قبل بلوغه الـ100. شاهدته يمشي بخطى سريعة حاملاً عصاه، على رصيف الواجهة البحرية، وخلفه زوجته التسعينية التي كانت تصرخ "مانويل مانويل مانويل... انتظرني!". أضحى أوليفيرا مع السنوات شاهداً استثنائياً على قرن كامل من تاريخ أوروبا، ومن تاريخ السينما، عاش كل حروب القرن العشرين. حتى آخر أشهر من حياته الغنية، أصر، وهو ضعيف الصحة، أن يقدم أفلامه للجمهور بنفسه، ويقال إنه كان يزعل إذا طرح عليه أي سؤال عن عمره، معتبراً أن هذا موضوع ثانوي لا بد أن يأتي بعد الحديث عن شغله.
لا يمكن الحديث عن السينمائيين الذين تجاوزوا العقد التاسع، من دون ذكر كلينت إيستوود الذي أعلن أخيراً بأنه سينجز فيلمه الأخير، بعنوان "المحلف 2"، (هل سيكون فعلاً الأخير؟) وهو في الثالثة والتسعين، وقد سربت صور له خلال التصوير، إذ بدا منحني الظهر من ثقل السنوات والتجارب. لا يكتفي إيستوود بالإخراج، بل يتولى الإنتاج أيضاً. اللافت أنه صرح بأنه "أراد إنجاز مشروع أخير حتى يتمكن من الانطلاق نحو غروب الشمس ورأسه مرفوع". وعندما وجد المشروع المناسب، قال: "هذا ما كنت أبحث عنه". ويبدو ان شركة "وارنر" التي تنتج الفيلم وجدت الشعار المناسب للترويج له: "فيلم إيستوود الأخير". تدور أحداث "المحلف 2" أثناء محاكمة جريمة حين يدرك أحد المحلفين أنه قتل الضحية في حادثة قيادة متهورة، فيحاول إنقاذ المدعى عليه من دون تجريم نفسه.
بدأ إيستوود، وهو فنان عصامي تعلم الحرفة على بلاتوهات التصوير، حياته المهنية كممثل في منتصف الخمسينيات، حين كان في الخامسة والعشرين، قبل انتقاله إلى الإخراج في عام 1971 مع "سمعني أغنية ميستي". ومنذ ذلك الحين، أخرج 40 فيلماً روائياً طويلاً، قبل ان يصبح أحد أكبر السينمائيين الأميركيين المعاصرين بدءاً من منتصف التسعينيات، الفترة التي قدم فيها أبرز روائعه من "غير مغفور" إلى "جسور مقاطعة ماديسون" مروراً بـ"عالم مثالي" وغيرها من الأفلام الكبيرة كـ"طفلة بمليون دولار" و"ميستيك ريفر" و"غران تورينو" الذي يحاجج البعض بأنه آخر أعماله العظيمة، إذ يعيد فيه النظر في بعض ما كانت تعد مسلماته.
منذ مطلع الألفية، أي بعد تجاوزه السبعين، قدم إيستوود 18 فيلماً، أي ما يقارب فيلماً كل عام. بعضها كان من تمثيله، وقد بدا العمر على كامل تفاصيله. وإيستوود في هذا المجال هو واحد من أكثر السينمائيين الذين وظفوا جسدهم خدمةً لفنهم، إنه أداة كتب بها وعنها. في "كراي ماتشو" (2021) تلمسه فتاة صغيرة خلال غداء لتحاول أن تفهم وتشعر ماذا يعني رجل كبير، وهي في بداية وعيها على عالم الكبار. لقطة، على بساطتها، من شأنها أن تنزع دمعة من المشاهد لشدة جمالها. هناك حياة كاملة وقرن من الزمن بين الطفلة وإيستوود.
تسعيني آخر يعود إلى مهرجان البندقية السينمائي في دورته المقبلة: البولندي الفرنسي رومان بولانسكي. أيام ونكتشف جديده "القصر" الذي شارك في تأليفه سينمائي بولندي آخر أصبح على مشارف التسعين، ونعني به يرجي سكوليموفسكي الذي أعطانا العام الماضي أحد أكثر الأفلام التي تحمل روح الشباب: "إيو" عن حمار يهرب من سيرك ويتعقبه المخرج في مغامراته.
دخول بولانسكي عقده التاسع قبل أيام، واكبه عديد من الجدال والمهاترات التي كانت بدأت في السبعينيات، يوم حوكم في أميركا لممارسته الجنس مع قاصر، في قضية باتت شهيرة منذ ذلك الوقت، ولا تزال تلاحق صاحب "طفل روزماري" أينما حل. وأغلب الظن ان هذا الجدال حول شخصه سيستمر حتى بعد رحيله. ولكن، بعيداً من هذه الأسئلة، وعلى رغم التضييق الحاصل عليه من قبل عديد من المؤسسات والمهرجانات، وعدم قدرته على التحرك بحرية في أنحاء العالم كافة، يواصل بولانسكي عمله على أكمل وجه. فهو لم يكن يوماً في الغزارة التي هو عليها زميله إيستوود، لكن هذا لم يمنعه من أن يقدم أربعة أفلام في العقد الأخير، وهو في الثمانينيات من عمره، وكان آخر أعماله عبارة عن أفلمة لقضية درايفوس الشهيرة، بحيث تجرأ على التلميح إلى تشابه بين الاضطهاد الذي كان ضحية له، والاضطهاد الذي تعرض له الضابط اليهودي في أواخر القرن التاسع عشر، بعد اتهامه بالعمالة وزجه في السجن.
سينمائي آخر شكل ظاهرة، وهو بدوره سيقدم جديده "لائحة طعام ممتعة" في مهرجان البندقية، بعد عام فقط على تقديم عمله الأخير في المكان نفسه. إنه الأميركي المقيم في باريس فردريك وايزمان الذي يعود هذا العام بوثائقي عن مطعم فرنسي حائز نجوم ميشلان. تسنى لي مقابلة وايزمان مرات عدة في مهرجان البندقية، حيث عرض الجزء الأكبر من أفلامه في السنوات الأخيرة. الجلوس إلى وايزمان متعة، على رغم أنه مقل كلاماً ويرد أحياناً على سؤال طويل بكلمة أو بكلمتين، وفي مرات أخرى يستفيض أكثر في الشرح. لا يحب الأجوبة الطويلة من منطلق أن "الجمال لا يحتاج إلى تفسير، يكفي أن تبينه".
كزملاء له يعتاشون من السينما وكرسوا حياتهم وشيخوختهم لها، يكاد لا يمر عام من دون أن يطل علينا بجديد. من مستشفى للأمراض العقلية، مروراً بجامعة أو مكتبة عامة، حول وايزمان المؤسسات الأميركية مادة للتفكيك وإعادة التركيب. يعمل كراهب، بلا كلل أو ملل. يبدأ في التصوير من دون أي تحضير مسبق، فالتقاط المشاهد في نظره مرحلة اكتشاف لا يجوز مقاربتها بيقين مطلق، ثم يجلس لعام كامل في غرفة المونتاج لصوغ فيلمه انطلاقاً من المواد المصورة. في الشتاء، يذهب إلى سويسرا للتزلج. أفلامه طويلة جداً، إذ يسعى من خلالها إلى تبيان العلاقة بين الزمان والمكان، وهذا أهم ما في لغته السينمائية.
أحياء دوماً
معلمون سينمائيون آخرون لا يزالون أحياء ونشطاء في تسعينياتهم على رغم أنهم لم يقدموا أي جديد منذ فترة. من هؤلاء: التشيلي الفرنسي أليخاندرو خودوروفسكي (94 سنة) والأميركيون نورمان جويسون وروجر كورمان وميل بروكس الذين يجمعهم تاريخ ميلاد واحد: 1926. من هؤلاء الثلاثة، تسنت لي محاورة كورمان، الذي أطل في دورة مهرجان كان الأخيرة أثناء حفلة توزيع الجوائز برفقة "تلميذه" كوانتن تارانتينو. يوم قابلت كورمان في لوكارنو، كان تجاوز الـ90 بعام، فحملنا الحوار إلى الحديث عن العمر. روى لي هذه الحكاية: "كنت أتناول أخيراً الغداء مع منتج، فقال لي إنه يتقاعد، عبرت له حينئذ عن استغرابي، معتقداً أنه لا يزال شاباً يافعاً، فقلت له: ربما حان الوقت كي أستقيل أنا أيضاً. فقال شيئاً أتذكره جيداً، لأنني منذ ذلك الحين أدعي أنني أنا الذي قلته. قال: "أنت في عمر لا يسمح لك بالتقاعد”.
أما خودوروفسكي، أكثر العجزة ظرافةً، فقابلته مرتين. في المرة الثانية، كان بدأ يستعين بعصا للمشي (كان في السابعة والثمانين)، وكأي طفل لا تزال هناك أشياء كثيرة تدهشه: الفن، والنساء، والشعر... نصف كأس مياه على الطاولة. يعتبر نفسه يصارع الزمن المتبقي له. خلافاً لآخرين، لم يخرج كثيراً من الأفلام. اكتفى بحفنة منها. مشاريع عدة لم تبصر النور لأسباب تمويلية وظروف معاكسة، ومنها نسخته عن "ديون" الذي أصبح أحد أشهر المشاريع السينمائية غير المنجزة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في إحدى مقابلاتي، سألته: "لا تزال ديناميكياً نظراً لرجل في السابعة والثمانين. ولا تزال مشغوفاً بما تفعله محافظاً على هذا الشغف. ما سرك؟”. رد بالقول: "الفن شغلني طوال حياتي. إنه يمثل كل وجودي على هذه الأرض. كلي شغف تجاهه. السنوات العشرون التي اعتكفت خلالها عن السينما كانت أشبه بالمطهر. تألمت كثيراً”.
اعترف لي خودوروفسكي أن جسده يخاف، يخاف المرض خصوصاً، يخاف أن يأتي أحدهم ليقتله، وأضاف: "جسدي لا يريد أن ينتهي! أما روحي، فكانت يلفها كثير من الخوف، تخلصت منه عبر الزمن”.
رواد مواقع التواصل الاجتماعي، يبالغون أحياناً في الحزن على الذين يغادرون الحياة وهم في التسعينيات من أعمارهم بعدما عاشوها على أوسع نطاق، واختبروا كل شيء، ومعظمهم توقف عن العطاء قبل سنوات. مع ذلك، علي الاعتراف أن الرحيل المفاجئ للمخرج الفرنسي بول فيكيالي عن 93 سنة في مطلع هذا العام، كان مؤلماً. فهو كان لا يزال ناشطاً على رغم عمره، وحتى قبل دقيقة من موته كان يخطط لمشاريع لن ترى النور. لكن العزاء أن معظمنا لن ينجز ربع ما أنجزه في حياته. كثيراً ما كنا نستيقظ صباحاً وأول ما يظهر على "فيسبوك" منشور من منشوراته. أحياناً، كان يغضبنا ويستفزنا، عندما يمرغ في الوحل اسماً من الأسماء السينمائية "المقدسة". ولم يكن يرحم لا الأموات ولا الأحياء، لكنه يأتي دائماً بما لا يخطر في البال وهو في المرحلة الأخيرة من الوجود.