Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشاعر بيار ألفيري تخلى عن أبيه جاك دريدا حتى بالكنية

رحل عن 60 عاما وأسس تجربة كتابية فريدة ودعم القضية الفلسطينية وترجم أسفارا من التوراة

الشاعر بيار ألفيري الإبن البكر لجاك دريدا (دار بول)

ملخص

رحل عن 60 عاما واسس تجربة كتابية فريدة ودعم القضية الفلسطينية وترجم أسفارا من التوراة

رحل الشاعر والروائي بيار ألفيري، الابن البكر للفيلسوف جاك دريدا، رائد التيار التفكيكي، عن ستين سنة، بصمت شبه تام، وقد أعلنت دار "بول" الشهيرة خبر الرحيل بعد أيام على وفاته من دون أن تحدد أسبابها. قد يستغرب قراء دريدا في العالم العربي وهم كثر، بعد تعريب أعماله الأساسية، أن يكون لهذا الفيلسوف الكبير الذي ترك أثراً حتى في الثقافة العربية، أن يكون له ابن من زوجته العالمة النفسانية مارغريت أوكوتورييه، لا يحمل اسم عائلته التي باتت شهيرة، وأن يكون شاعراً وروائياً وفيلسوفاً في بعض نصوصه.

لكن هذا الابن البكر الذي اختار اسم عائلة جدته لأمه كان وفياً لأبيه ولو من بعيد، وقد انفصل عن خطه الفلسفي ومشروعه الكبير، واختار طريقاً مختلفاً تماماً هو طريق الابداع الشعري والروائي والموسيقي والسينمائي، وقد نجح في جمع هذه الأنواع في بوتقة إبداعية خلاقة، مؤسساً مشروعاً فريداً وغير مألوف سابقاً، على رغم انتمائه إلى فضاء التجريب الشعري واللغوي والفني. يقول بيار في إحدى قصائده: "لا أنسى بطاقة أبي البريدية"، في تلميح إلى كتاب دريدا البديع "البطاقة البريدية: من سقراط إلى فرويد وما بعد". ولعله ظل وفياً إلى جزائرية والده، الذي ولد في الجزائر أيام الاستعمار الفرنسي عام 1930، متحدراً من أسرة يهودية سفاردية، عاشت طوال أجيال في الجزائر.

يهودي مع القضية الفلسطينية

ومثلما كان دريدا وفياً للجزائر العربية وللعرب، بدا ابنه بيار غير غريب عن قضايا العرب ولا سيما القضية الفلسطينية، فهو كان واحداً من الموقعين على البيان الصادر في باريس عام 2018 ضد إحياء الموسم الثقافي "فرنسا – إسرائيل" الذي وصفه المثقفون الموقعون بـ"الواجهة" التي تبرز الدولة الإسرائيلية على حساب الشعب الفلسطيني المضطهد. وكان بين الموقعين أسماء كبيرة مثل المخرج السينمائي جان لوك غودار والروائية حائزة نوبل آني إرنو والكاتبان ألان دامازيو وناتالي كوينت. وكان بيار وقّع بيانات وشارك في تظاهرات ضد الحضور الطاغي للشرطة الفرنسية في الساحات والأحياء من أجل مواجهة التظاهرات وقمع المتظاهرين. لكن بيار اليهودي الجذور مثل أبيه جاك (يعقوب) وأجداده، لم يتخل عن الروحانية اليهودية الكتابية، فترجم من التوراة أسفاراً عدة منها: "سفر أشعيا" و"سفر أيوب" و"سفر يشوع بن سيراخ" و"سفر الأمثال". لكنه ترجم أيضاً مختارات من شعر البريطاني الصوفي جون دون الذي ترجم له أيضاً الشاعر إيف بونفوا. وترجم كذلك مختارات من الشعرالبريطاني والأميركي والإيطالي الحديث. وترجم كتاب "ما يبقى من أوشفيتز" للباحث الإيطالي جيورجيو أغامبين وكتاب "الكلام والصور" لماير شابيرو.

ولعل مفاجأة أخرى تتمثل في إنجاب جاك دريدا ابناً ثانياً من علاقة مع الفيلسوفة الفرنسية سيلفي أغاسينسكي، عضو الأكاديمية الفرنسية، وزوجة  ليوينل جوسبان (بالمساكنة)، رئيس الوزراء والنائب والوزيرالسابق. أما ابن دريدا الثاني دانيال فحمل اسم عائلة أمه، ودرس الفلسفة ويدرّسها في جامعات عدة. واللافت في هذا الصدد أن جاك دريدا لم يكتب عن ابنه بيار الذي ترك أعمالاً شعرية وأدبية وحتى فلسفية مهمة، أو لعله كتب ولم تظهر كتاباته.

ولئن درس بيار ألفيري (مواليد 1963) في المعهد العالي الجامعي (إيكول نورمال سوبيريور) في باريس الذي كان يدرّس فيه والده، ونال فيه شهادة الدكتوراه، فإن الرسالة الجامعية التي أنجزها كانت حول فيلسوف ولاهوتي فرانسيسكاني بريطاني هو غيوم دوكاهم (بالإنجليزية: وليام أوف أوكاهم)، ويعد من كبار الفلاسفة واللاهوتيين في القرون الوسطى، وقد نعت بالمهرطق وواجه السلطات الكنسية تبعاً لإخضاعه اللاهوت لقراءة فلسفية وعلمية. كانت هذه الدراسة بمثابة مفاجأة كبيرة، فهي نمت عن معرفة عميقة لدى بيار بالفلسفة واللاهوت، وسرعان ما صدرت في كتاب عن دار مينوي الشهيرة عام 1989. وبعد هذه الدراسة التي كان من المنتظر أن تفتح أمام الشاب طريقاً متفرداً في عالم الفلسفة، راح بيار يبتعد عن المناخ الفلسفي من غير أن يهجره تماماً، مؤسساً منهجاً شعرياً وأدبياً وفنياً فريداً، يتواصل مع "التراث" الشعري الحديث وينقطع عنه في الحين نفسه، ساعياً إلى اختبار ما وصلت إليه الحداثة الشعرية والفنية والفكرية، معتمدا لعبة "التفكيك" والبناء.

مختبر الكتابة الإبداعية

 في معظم أعماله الشعرية شرع ألفيري يختبر الصيغ اللغوية والكتابة الاستبطانية من دون الوقوع في فخ الغنائية القديمة. راح يفكك الجمل ويعيد خلقها -وليس تركيبها- من جديد. بل هو يعتمد ما يسمى "اللعب اللغوي السيمانتيكي"، مخضعاً قصيدة النثر أو شعر النثر بالأحرى، إلى الخلط "الديناميكي"، مقدماً ومؤخراً الأفعال والمفردات وموظفاً الإيقاع البصري والموسيقي، حتى ليصل إلى "التشوش الواضح" (فلو، بالفرنسية). فالنثر في نظر ألفيري، ليس نوعاً أدبياً، ولا هو يخالف الشعر. بل أن الأنواع أو الأجناس تختلط في نصوصه، وتنصهر لتؤلف ما يمكن تسميته الشكل الذي تتم إعادة إبداعه باستمرار، على أن يظل مرتبطاً  بالحياة والعالم وأشيائه وصوره، مع الحفاظ على مسافة نقدية بينهما. ويقول: "همي هو أن أدعم أو أعيد الحياة في كل ما توقف عن الحياة".

يميل شعر ألفيري إلى أن يكون قصيراً ومكثفاً وغير خاضع لنظام رتيب، وغالباً ما يستخدم التقطيع والفواصل السريعة، وكأنه يسعى إلى القول بعدم الوصول إلى حال الإنجاز، ولكن من خلال رفض التقيد بشروط مفترضة.

منذ بداية التسعينيات باشر ألفيري في نشر نصوص تسائل العلاقات بين اللغة والصورة والصوت. وبدت نصوصه التي حملت طابع التجريب كأنها تنوع على "التراسلات" الأدبية، مستلهمة تيار الشعر الملموس (كونكريت) والشعر المموسق. وتركز بعض قصائد بيار ألفيري التجريبية أحياناً على أبعاد "الميديا" في مفهومها الفني، مثل السينما والتلفزيون وحتى الإعلان، إضافة إلى مظاهر الحياة الثقافية العامة. فيأخذ الشاعر القارئ خلالها في رحلة عبر الشوارع والحياة اليومية والسياسة وموسيقى الحياة الحديثة. كأنه هنا يريد أن يؤكد أنه ليس منعزلاً كشاعر، عن الحياة في معناها الحي.

تعدد التجارب

لم يشعر ألفيري بحرج أبداعي في كتابته الرواية والمسرحية والنقد أو التأمل في الأدب وفي التقنيات الأدبية. يقول في أحد حواراته عن تعدد الأنواع الكتابية لديه وتداخلها: "أنا لا أكتب الأنواع المتعددة في وقت واحد. ولا حتى في نهار واحد، ولا حتى في أسبوع واحد ولا في شهر واحد. الأزمنة إذاً هي متعددة... لكنني لا أتوافق مع التوقف عن الكتابة".

ويرى أن الكتابة السردية هي الأصعب والأكثر تطلباً، فهي تفرض البقاء في جاهزية طوال أسابيع وأشهر، وربما سنوات. ويقول إن روايته "كيوي" ظلت قيد الكتابة طوال أربع سنوات. أما كتابة القصيدة برأيه، فتتركز على بضع ساعات مثل إنجاز رسمة. فزمن الكتابة الشعرية زمن شديد الكثافة ويبتلع كل شيء مثل ثقب أسود. ويرى أن البحث عن الجملة هو المعادل الحر والمتطلب لـ"التفكير".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويضيف: "لكنني أدرك بالتالي أن زمن كتابة الشعر يتواصل مع كل شيء، وفي اللحظة نفسها، هذه اللحظة اللولبية، متوجهاً نحو مركز زمني مجهول، وخارج عن مفهوم إيقاع الساعات. لعله الصمت الذي هو شرط كتابة القصيدة". ويقول في هذا الصدد: "مثل الجميع، احتاج دوماً أن أبادر في شأن الزمن كي لا أعاني مروره. أحلم بأن أبطئ حركته، أن أمدده، وأعيد تشكيله. أن أعيد بناءه بدقات منتظمة. هذا يرسخه، هذا يجعل تدفق الأحاسيس أشد نعومة. ولكن هذا يمكن أن يرهق أو يسجن". 

تعاون بيار ألفيري مع فنانين، وموسيقيين ورسامين وشعراء آخرين. شارك مثلاً مع سوزان دوبيلت، المصورة الفوتوغرافية والأستاذة في كلية الدراسات العليا الأوروبية، في تأسيس المجلة الأدبية "تفصيل" (ديتاي). ومع أوليفييه كاديو، أسس "المجلة الأدبية العامة" التي نشرت نصوصاً لكتاب مهمين وحاضرين في المعترك الحداثي. وأدى تعاونه مع النحات جاك جوليان إلى إنتاج أسطوانة "دي في دي". وكتب ألفيري كلمات للممثلة والمغنية جين باليبار، متعاوناً مع رودولف برغر الذي ألف الموسيقى. وتم تحرير مساهماته السينمائية ونشرها في شكل أقراص "دي في دي" بعنوان "سيني- بويم". وهو كان دخل عالم السينما وحقق أفلاماً اختبارية واصل خلالها اكتشافاته الأدبية. وله أكثر من 22 كتاباً  في الحقول المتعددة، شعراً ورواية ونقداً وفلسفة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة