Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفلسفة الألمانية بين الاصطلاحات وعلم الأمور الممكنة

عالم الرياضيات والفيلسوف كريستيان ڤولف سعى الى إثراء اللغة الفلسفية وترسيخ نقلتها من اللاتينية

تجديد اصطلاحات اللغة الفلسفية على مر العصور (موسوعة الفلسفة)

ملخص

عالم الرياضيات والفيلسوف كريستيان ڤولف سعى الى إثراء اللغة الفلسفية وترسيخ نقلتها من اللاتينية

من خصوصية عالم الرياضيات الفقيه القانوني الفيلسوف الألماني كريستيان ڤولف (1679-1754) أنه من الأوائل الذين أسهموا في كتابة الفلسفة باللغة الألمانية، من بعد أن كانت الأعراف الفلسفية الأوروبية تقتضي كتابتها باللغة اللاتينية، أي لغة الثقافة والمعرفة والتخصص العلمي في القرون الوسيطة. بفضل نصوصه الفلسفية، يعثر المرء على المنحوتات الاصطلاحية الفلسفية الأول التي صيغت باللغة الألمانية، ومنها الوعي (Bewusstsein)، والدلالة (Bedeutung)، والانتباه (Aufmerksamkeit)، والشيء في ذاته (an sich). أما فلسفته فتقوم على إنضاج أفكار الفيلسوف الألماني لايبنيتس (1646-1716) وتطويرها تطويراً جعل مؤرخي الفلسفة يتكلمون على الفلسفة اللايبنيتسية-الڤولفية، ذلك بأن تلاميذ ڤولف أذاعوا أفكاره ودافعوا عنها حتى جعلوها تؤثر تأثيراً بالغاً في حركة الأنوار الألمانية. أما اليوم فتضاءل الاعتناء بفلسفته، ما خلا القانونية والأخلاقية منها، بعد أن أيقن معظم الباحثين أن فلسفته الماورائية ظلت أسيرة زمنها.

الفيلسوف الذي امتدحه كانط وڤولتر وناصره لايبنيتس

ولد ڤولف في مدينة برسلاو (مقاطعة سيلزين البروسية قديماً، بولونيا في الزمن الحاضر)، ودرس في مدارسها، ومنها انتقل إلى مدينة يانا من أجل متابعة التحصيل الجامعي، فدرس فيها الرياضيات والفيزياء وتابع بضعة دروس في علم اللاهوت المسيحي، ذلك بأنه نشأ في أسرة بروتستانتية كانت تروم أن ترشده إلى دراسة اللاهوت وخدمة الكنيسة. أما دكتوراه الفلسفة فنالها في جامعة لايبتسيش في عام 1702، مجتهداً بواسطتها في أن يجعل الفلسفة العملية تستثمر المنهج الرياضي من أجل استجلاء تصوراتها وعرض آرائها. استرعى تألقه العلمي انتباه لايبنيتس، فأوصى به خبيراً بعلم الرياضيات لكي يحصل على كرسي تدريس هذه المادة وتدريس الفلسفة أيضاً في جامعة هاله في عام 1707.

بسبب جرأته الفلسفية، اتهمه بعض اللاهوتيين المحافظين بالإلحاد، إذ شيعوا عنه، في سياق محاضرته عن كونفوشيوس، قولاً منسلخاً عن سياقه يؤكد فيه أن الأخلاق يمكن أن يبنيها العقل المستنير من دون العودة إلى الله. فإذا بإدارة الجامعة تقيله من منصبه التدريسي في عام 1723، بأمر من السلطات السياسية البروسية التي كانت تهدده بالشنق العلني. فاضطر إلى التماس التدريس الجامعي في مدينة ماربورغ التي حصل فيها على مطلبه، فمارس التعليم حتى عام 1740. غير أن ملك بروسيا فريدريش الثاني (1712-1786) الذي نعته الناس بالمستبد العادل، أوعز إليه بالعودة إلى جامعته الأصلية في هاله، وأعاد تنصيبه في كرسيه الجامعي حتى زمن وفاته في عام 1754. في عام 1716 تزوج ابنة مدير المؤسسة الكنسية في هاله كاتارينا ماريا برانديس التي أنجبت له عدة أولاد، لم يبق منهم على قيد الحياة سوى ابن واحد.

جمع في عمارته الفكرية مكتسبات الفلسفة الوسيطية السكولاستيكية، وبعضاً من تعاليم لايبنيتس والفيلسوف الإنجليزي جون لوك (1632-1704). فأنشأ أنظومة فلسفية مطبوعة بالعقلانية الصارمة. أما غايته فإنارة العقل البشري بالاستناد إلى التفاؤلية العقلانية التي اتصف بها عصر الأنوار الأوروبي. تجدر الإشارة هنا إلى أن ڤولف أسهم في بناء تصور ألماني أدرك عصر الأنوار إدراكاً يختلف عن التصور الفرنسي. في عام 1710 كان قد عين عضواً في المجتمع الملكي اللندني (Royal Society)، وفي عام 1711 عضواً في أكاديميا العلوم (برلين). في العام نفسه التقى عالم الصينيات الراهب اليسوعي البلجيكي فرانسوا نويل (1651-1729) الذي أطلعه على خصوصيات الحضارة الصينية وفرادة تصوراتها. فإذا به، بعد 10 سنوات، يستثمر المعارف الثمينة هذه ليحاضر في روحية كونفوشيوس وأخلاقياته غير المستندة إلى الرؤية اللاهوتية المسيحية.

لم يطلع على جميع أعمال توما الأكويني (1225-1274)، بل اكتفى بما يسرته له الأوساط الألمانية الجامعية البروتستانتية. أما التأثير الأعظم فكان مصدره لايبنيتس الذي راسله طوال 14 سنة يتعلم منه فن التفكير ويناقشه في المسائل المستعصية، لا سيما تقويم المساهمة الجليلة التي أتى بها جون لوك.

تأثر كانط بعمارة ڤولف الميتافيزيائية، أو بالأحرى بمنهجه الدقيق في بناء الأنظومة الميتافيزيائية الكلاسيكية، فأعلن أن الاقتداء بهذا الفيلسوف فضيلة فلسفية، إذ عده أعظم الفلاسفة الميتافيزيائيين الكلاسيكيين الذين رفعوا البناء الفلسفي إلى مرتبة العلم الدقيق، ذلك بأنه كان عميقاً في فكره، مقتصداً في تشييد مبادئه، واضحاً في صوغ مفاهيمه، دقيقاً في سوق براهينه. لا ريب في أن جميع هذه الصفات جعلته، في نظر كانط، الفيلسوف الألماني الأقدر نظرياً على منح الميتافيزياء طابع العلم الرصين. غالباً ما كان كانط يؤكد أن ڤولف، لو استطاع أن يفوز بحدس النقد الضروري الذي يتحرى طبيعة العقل، وهو الشرط الوحيد في نجاح فلسفته الماورائية، لكان تفوق على جميع الفلاسفة في مسعاه التأصيلي هذا. وصفه ڤولتر (1694-1778) بمعلم الألمان الفكري وسيد فلاسفتهم.

الفلسفة علم الأمور الممكنة

اعتنى ڤولف بجميع حقول الفلسفة، فأنشأ الأبحاث المقتضبة في المنطق والأونطولوجيا والكوسمولوجيا (علم الكون) والبسيكولوجيا العقلية. فانتشرت كتبه انتشاراً واسعاً في الأوساط الفلسفية الألمانية، إذ أخذ معلمو الفلسفة يستندون إليها في تدريسهم، ويتكلون على خصائصها الفريدة، وفي مقدمتها الوضوح والدقة والإحكام الموضوعي. من المجحف أن يظن بعضهم أن ڤولف كان خاضعاً لسلطة لايبنيتس، تتماهى فلسفته بفلسفة الموناد (Monade) الشهيرة. على رغم القربى الفكرية فإنه لم يكن مجرد تلميذ تابع أمين على أنظومة معلمه، بل استمد فكرته الرياضية من فلسفة دكارت (1596-1650) العقلانية. تجلت آثار فلسفة الرياضيات في أطروحة الدكتوراه التي أعدها قبل أن يتعرف إلى لايبنيتس. الحقيقة أن عقلانيته مختلفة عن عقلانية لايبنيتس، إذ إنه لم يعتمد فكرة المونادات أو الجواهر الروحية البسيطة، ولم يستحسن تصور التناغم الكوني الأصلي، ولم يؤيد فكرة الانتقال من الممكنات المعلقة إلى الموجودات المتحققة. يمكننا أن نقرب فلسفته من فكر العصور الوسيطة، لا سيما فكر الراهب اليسوعي الفيلسوف الإسباني فرانثيسكو سواريز (1548-1617) الذي صرح مراراً بأنه يؤيد مذهبه العقلاني الإيماني المتأثر بتوما الأكويني. ومع ذلك، لا بد من الاعتراف بأن عقلانيته ما برحت قريبة من عقلانية لايبنيتس الجوهرانية المبنية على الاستنباط، والمستندة إلى مبدأ العلة الكافية وما يستتبعه من حتمية ضابطة وتفاؤلية كونية شاملة.

يعرف ڤولف الفلسفة بأنها "علم جميع الأمور الممكنة، وعلم إمكانها وغايتها". الفلسفة، في نظره، أنظومة مبنية على الأونطولوجيا أو مبحث كينونة الكائنات. اقتداءً بنهج لايبنيتس، تستند هذه الأنظومة إلى مبدأين: مبدأ العلة الكافية، ومبدأ عدم التناقض. يقضي المبدأ الأول المأخوذ عن أرسطو (384 ق.م.-322 ق.م.) وتوما الأكويني أن يكون لكل معلول علة (nihil est sine ratione)، أي أن يكون لكل أمر سبب ينشئه ويسوغه. أما المبدأ الثاني المستقى أيضاً من منطق أرسطو، فيلزمنا أن نسند إلى الكلمة الواحدة معنى واحداً. بتعبير آخر، يستحيل علينا أن نصف أمراً وصفاً صريحاً وأن نبطل هذا الوصف في الوقت عينه وفي قرائن الإسناد عينها. ومن ثم، يرسم ڤولف أن الأونطولوجيا التي هي العلم العقلي النظري الأول يجب أن تستوضح الأصول التي يقوم عليها مبدأ عدم التناقض.

في موازاة عمل الأونطولوجيا هذا، تعتني الميتافيزياء أو علم ما وراء الطبيعة بمسائل الله والنفس والعالم، فتنشئ في الله علم اللاهوت العقلي، وفي النفس علم النفس العقلي، وفي الكون الكوسمولوجيا العقلية أو علم الكون العقلي. غير أن الفلسفة، في نظر ڤولف، ينبغي أن تنظر في الأمور الممكنة وتستجلي الأسباب التي تجعل هذه الأمور ممكنة. لذلك يخالف ڤولف توما الأكويني وأيضاً ابن رشد (1126-1198) اللذين يوكلان إلى الفلسفة النظر في الموجودات من أجل الاستدلال على أصل الوجود.

حقول الفلسفة وأقسامها

من جراء الحس التربوي الرهيف، أكب ڤولف يستجلي الحقول التي ينبسط فيها التفكير الفلسفي. فإذا به يقسم الفلسفة ثلاثة أقسام: المنطق، والفلسفة النظرية، والفلسفة العملية. من الواضح أن مثل هذا التقسيم أثر تأثيراً بالغاً في توزيع حقول البحث الفلسفي حتى زمننا الحاضر. إذا كان المنطق يبحث في أصول الفكر ومبادئه وأحكامه وقواعده، فإن الفلسفة النظرية تنطوي على حقلين اثنين: الميتافيزياء والفيزياء. أما الميتافيزياء فتشتمل على الأونطولوجيا (مبحث الكينونة)، والكوسمولوجيا (مبحث الكون)، والبسيكولوجيا العقلية (مبحث علم النفس)، والتيولوجيا العقلية (مبحث اللاهوت).

استناداً إلى تعريف الفلسفة، ينظر كل حقل من هذه الحقول في ما هو ممكن، سواء في الكائنات أو في الكون أو في النفس الإنسانية أو في الطبيعة الإلهية. أما الممكن فيعرفه ڤولف بالاستناد إلى مبدأ عدم التناقض: الممكن هو كل أمر منزه عن التناقض الذاتي. ومن ثم يقترن الممكن بالمبادئ المنطقية. فلا يجوز القول إن الممكن هو ما يمكن أن يوجد. الإمكان الحق مبني على سلامة البنية المنطقية الذاتية، لا على احتمالات الوجود المتحقق في المادة. من خلاصات هذا التعريف أن الحقيقة ترتبط بمعقولية الأمور، أي بخضوعها لقواعد المنطق الصارمة. ليس كل ما يفترضه الناس في الوجود يراعي أحكام المعقولية المنطقية. لا يجوز أن يكون معيار الحقيقة ما هو موجود، بل ما هو ممكن بحسب مقتضيات السداد المنطقي.

مبادئ المنطق مقياس الوجود

خلافاً لأرسطو وتوما الأكويني اللذين ينسبان مبدأ عدم التناقض إلى الكينونة عينها، يؤكد ڤولف أن هذا المبدأ، وهو في نظره الأسمى في الفكر الإنساني السليم، منغرس في بنية الاختبار العقلي النظري. فهل عدم التناقض لصيق بالأشياء والكائنات والموجودات أم ناشب في بنية الفكر الإنساني؟ من الواضح أن المذهبين الأرسطي والتوموي يميلان إلى ربط عدم التناقض بطبيعة الكائنات والكينونة، في حين أن ڤولف يعاين المبدأ في صميم العقل الإنساني. لا بد، والحال هذه، من العودة إلى الفيلسوف الإغريقي الفجري بارمنيذيس (توفي في عام 460 ق م) الذي رسم أن الكينونة والفكر واحد، أي إن أحكام الكينونة هي عينها أحكام الفكر، والعكس صحيح.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أما المبدأ المنطقي الثاني الذي يعتمده ڤولف، فيملي عليه أن يكون لكل معلول علة، أي لكل أمر سبب. في هذا السياق، يعترف أن لايبنيتس سبقه إلى مناصرة هذا المبدأ، ولكنه يأخذ عليه أنه لم يأت بالدليل العقلي المقنع الذي يبرهن صحته. المشكلة أن مبدأ العلة الكافية من المسلمات العقلية التي اعتمدها الفكر الإنساني منذ أقدم الأزمنة. غير أن ڤولف ادعى أنه قادر على برهنته، في حين أن المسلمات هذه أشبه بمصادرات تقوم على الاقتناع بسداد القول النظري من غير الإتيان بدليل عقلي متقدم مقنع. إذا تحرينا برهان ڤولف، وجدنا أنه يفسر الماء بالماء، إذ يستنجد بمبدأ عقلي آخر هو مبدأ عدم التناقض لكي يبرهن مبدأ العلة الكافية، وقد ميزه من مبدأ العلية أو السببية الأرسطية. بموجز العبارة، يرسم ڤولف أننا إذا صرحنا بأن هذا الأمر أو ذاك لا علة له، افترضنا ضمنياً أن العدم سببه المنحجب، ولكن القول بالعدم سبباً للموجودات يعني أن العدم موجود. وهذا أمر خلف، مستحيل الوقوع.

من الواضح أن مثل هذه البرهنة لا تسهم في إنضاج الفكر الفلسفي، إذ إنها تبني حجتها على مبدأ آخر يحتاج أيضاً إلى برهنة. فتتراكم المصادرات العقلية، إذ يفترض المرء حقيقة القضية قبل أن يسوق الدليل على صحتها. وهذا عين المصادرة! فالقول إن هذا الأمر أو ذاك لا سبب له، لا يستتبع أن العدم سببه المنحجب، ذلك بأننا نفترض في أصل هذا القول أن كل أمر له سبب. وهذا ما يحتاج إلى البرهان قبل أن نعتمده فرضية مكتومة في مصادرتنا المنطقية. فهل كل الأمور لها أسبابها في الحياة؟ لم يحسم الفلاسفة هذا الأمر، لا بل اقتنع بعضهم بالانتقاد الحاسم الذي اعتمده الفيلسوف الاسكتلندي ديڤيد هيوم (1711-1776) حين أبان لنا أن تعاقب حدثين تعودنا أن نعاين تجاورهما وتلازمهما لا يعني أن الأول علة الثاني.

في إثر الاستبانات البرهانية هذه يخلص ڤولف إلى بناء ميتافيزياء متسقة الأطراف مكتملة العناصر، تتصور الكينونة في هيئة الإمكانات التي تنحجب فيها وتنتظر تحققها في معترك الواقع. من خصائص هذه الميتافيزياء أنها تولي الإمكان مقام الصدارة، وتربط الكينونة به ربطاً سببياً. أما الإمكان الناشب في الكينونة فيتصوره ڤولف في هيئة الماهية اللصيقة بجوهر الكائنات. الماهية تتقدم على الوجود، بحيث يتحدد الإمكان بالاستناد إليها، خلافاً لتصور توما الأكويني الذي يحدد الإمكان بالاستناد إلى الوجود.

أما الكينونة الأسمى فتتحقق في الكائن الإلهي الذي يستثير فينا رغبة التوفيق بين العقل والوحي، حتى نستطيع أن نستجلي آثار حضوره في الكون والعالم والتاريخ. في كتاب اللاهوت الطبيعي (Theologia naturalis) الذي وضعه ڤولف عام 1737، نهج سبيل التوفيق بين الكينونة المتعالية والكينونة التاريخية، مبيناً أن العقل يحتاج إلى النصرة الإلهية حتى يستبصر ملكوت الله. في هذا السياق، كان ڤولف يؤيد فكرة المملكة الفلسفية (Philosophenkönigtum) التي ناصرها أفلاطون (428 ق م - 348 ق م) وجعل فيها الفيلسوف ملكاً وحيداً وحاكماً حكيماً.

صدارة القانون الطبيعي على القانون الوضعي

يحرضنا ڤولف على انتهاج سبيل الكمال في الأخلاق، بحيث نعمد إلى السلوك مسلكاً يقربنا من الكمال، ويبعدنا من النقص والعجز والتخلف، ذلك بأن غاية الفلسفة العملية إنعاش الكائن الإنساني في جميع أبعاده الوجودية حتى يستطيع أن يحقق ملء كيانه وقوامه. أما السبيل إلى ذلك فالأخلاق والقانون، وكلاهما يستند إلى الأصول التي تضعها الفلسفة. لا بد للقانون الوضعي من أن يستند إلى القانون الطبيعي المزروع في بنية الكائنات. الدليل على حاجة الإنسان إلى الكمال ما يقوله لنا علم النفس الذي كان ڤولف من أبرز مؤسسيه الحديثين. لا ريب في أن استقصاءات هذا العلم تظهر لنا حاجات الإنسان الأساسية، وتستجلي كذلك طبيعة الحقوق الجوهرية التي لا يجوز على الإطلاق مسها أو التصرف بها أو تبديلها.

لا يحتاج المرء إلا إلى المعاينة الدقيقة التي تستكشف جوهر الطبيعة الإنسانية وأغوار النفس حتى يستدل على بعض الحقوق الطبيعية اللصيقة بالكائن الإنساني والمتصفة بالكمالية والإطلاقية. في المجلدات التسعة التي اشتملت عليها موسوعة ڤولف في القانون الطبيعي (Jus Naturae) وقانون الأمم (Jus Gentium)، يرسم أنه لا يجوز لأي مشرع أن يتهاون في هذه المسألة، فيتغافل عن حقوق الإنسان الأصلية أو يهملها أو يفسرها تفسيراً خاطئاً. كل تشويه يصيبها يستلزم الانتفاضة والعصيان والثورة. ومن ثم، أكب يؤصل الحقوق الأساسية هذه، ويبنيها على قاعدة الطبيعة الإنسانية عينها، من دون الاستناد إلى أي تسويغ ميتافيزيائي. خلافاً لفلاسفة العقد الاجتماعي من أمثال هوبس (1588-1679) ولوك (1632-1704) وروسو (1712-1778) الذين كانوا يتخيلون الحال الأصلية البريئة التي استوت عليها الطبيعة البشرية، آثر ڤولف استثمار مفهوم الخير العام وما ينطوي عليه من ضرورات صون الحياة وتعزيز المساواة وتوطيد الحرية، وذلك كله بالاستناد إلى القانون الواحد العادل.

أخلاق الكمال الممكن

بفضل تأصيل حقوق الإنسان على قاعدة الدعوة الجوهرية اللصيقة بطبيعتنا البشرية، يعلن ڤولف أن المثال الإنساني المنشود ليس الكمال الخارجي في الهيئة الجسدية أو المادية، بل السعادة الكيانية التي تستولد في النفس وفي الجسد حيوية التطور والارتقاء حتى يصعد الكائن الإنساني في مراتب الكمال ويبلغ ذروتها على تخوم التسامي الإلهي.

بما أن غاية الفلسفة تهذيب النفس الإنسانية، فإن الميتافيزياء التي أنشأها ڤولف تفضي حتماً إلى تصورات عملية ترشد المسلك الإنساني، سواء في حقل القانون أو الأخلاق أو السياسة. لذلك غالباً ما كان يصر على القول إن غاية السياسة الأسمى أن ينعم الناس بالهناء الكياني والرفاهية والسعادة.

الأثر الفلسفي المنقطع النظير

ليس من باب المغالاة القول إن الفلسفة الألمانية في منتصف القرن الثامن عشر كانت ممهورة بميتافيزياء ڤولف ومذهبه الأخلاقي في الكمال. كانت أفكاره محل إكرام وتقدير في الأوساط الثقافية الأوروبية، حتى إن عدداً من المجلات الفلسفية، ومنها مجلة "الكتابات الأسبوعية الأخلاقية" (Moralische Wochenschriften)، كانت تذيعها وتبسطها وتدافع عنها. زد على ذلك أن الجامعات الألمانية البروتستانتية كانت مولعة بأفكار الفيلسوف المتألق هذا حتى زمن بزوغ نجم كانط الساطع. فإذا بها تميل رويداً رويداً إلى فيلسوف النقد.

اللافت أن إعراض الأوساط البروتستانتية عن ڤولف رافقه اهتمام فلسفي كاثوليكي تجلى في إقبال الآباء اليسوعيين على أعماله، لا سيما القانونية والأخلاقية منها، في الجامعات الكاثوليكية الألمانية والنمسوية والبولونية والإيطالية. من العلامات الدالة على ذلك أن الراهب اليسوعي الفيلسوف الإيطالي لويدجي تابارلي دازيليو (1793-1862)، ناحت اصطلاح العدالة الاجتماعية الحديث ومؤسس المجلة الكاثوليكية الشهيرة (Civiltà Catholica)، استلهم في بحثه القانوني (Essai théorique de droit naturel) أفكار ڤولف استلهاماً مغنياً جعل البابوين ليون الثالث عشر (1810-1903) وبيوس الحادي عشر (1857-1939) يوصيان باعتمادها في رسائلهما البابوية التعليمية.

علاوة على هذا الانتشار، اجتهد الفلاسفة الموسوعيون الفرنسيون، ومنهم ديدرو (1713-1784) ودولباك (1723-1789)، في ترجمة بضعة من أبحاثه ونقل أفكاره إلى الأوساط الثقافية الفرنسية. أما ڤولتر فأصغى إلى نصيحة ملك بروسيا فريدريش الثاني الذي امتدح نبوغ الفيلسوف الألماني، واقتدى بما انعقدت عليه تصوراته من الحس الإنساني السليم والفهم الحياتي الصائب. لا بد، في الختام، من التذكير بأن القانون الدولي المعتمد في القرنين الـ18 والـ19 كان صورة أمينة تعكس أنظومة ڤولف الفلسفية، بحيث استعاد المصنف القانوني (Droit des gens) الذي أعده رجل القانون البروسي-السويسري إمر دڤاتل (1714-1767) جميع الأفكار والاجتهادات التي استودعها ڤولف موسوعته القانونية الشهيرة، ذلك بأن عصر الأمراء الأوروبيين المستبدين المستنيرين، وفي مقدمتهم ملك بروسيا فريدريش الثاني وإمبراطور النمسا يوزف الثاني (1741-1790) وأمير توسكانا ليوبولدو الثاني (1797-1870)، استند في مدوناته التشريعية إلى التصورات القانونية التي وضعها فيلسوف الميتافيزياء العقلانية الشاملة كريستيان ڤولف.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة