Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لحظة وصول "طالبان" ومعهم الموت إلى كابول تطاردني منذ سنتين

الحصيلة النهائية المفجعة للإخفاء القسري والتعذيب والإعدام غير محتسبة ويبقى في الذاكرة مشهد جثة على جانب الطريق أبرزت مأساة انسحاب الغرب المخزي من أفغانستان والثمن الذي يدفعه شعب البلاد

إجلاء كابول في عام 2021 (غيتي)

ملخص

مرت سنتان على الانسحاب الأميركي الدراماتيكي من أفغانستان وتسلم "طالبان" السلطة فيها. لم يؤد ذلك إلى استقرار الوضع في تلك البلاد، بل يستمر شعبها في دفع ثمن تلك اللحظة.

من بين كل المشاهد المفجعة لتلك المأساة البشرية وسط سعي الناس اليائس والمستميت إلى الهرب من حركة "طالبان" في أعقاب سقوط كابول، يؤرق الذاكرة يوم حزين بشكل خاص.

في ظل قيظ لا تلطفه أي نسمة هواء، وتحت أشعة الشمس الملتهبة سمعنا صرخة مدوية، أثناء وجودنا وسط مئات الأشخاص المحتشدين في طريق ضيق خارج المطار. خرجت إحدى السيدات متعثرة من بين صفوف المحتشدين، وارتسم الخوف على محياها خلال بحثها عن وجه مألوف بين الناس. حاولت أن تنطق لكن الكلام لم يخرج من فمها، ثم وقعت على التراب، رافعة يدها كأنما في دعاء أو تضرع.

لقد ماتت السيدة. كانت الأولى بين خمس سيدات وافتهن المنية خلال الساعات التالية، على طريق مملوء بالحفر والركام. قدرت الوفيات التي وقعت في محيط "مطار حامد كرزاي الدولي" جراء أسباب متعددة، بـ12 وفاة خلال الـ24 ساعة تلك، لكن، من شبه المؤكد أن الرقم الحقيقي أعلى بكثير.

توجهت نحوي فتاة صغيرة من قومية الهزارة يناهز عمرها الثامنة، وكانت تبحث عن أمها. رفعت ذراعيها وهمست لي "أنا خائفة، ليس لدي أحد". كانت إحدى ذراعيها بلا يد. وعلمنا لاحقاً أن السبب هو انفجار قنبلة سابقة.

لم نتمكن من رؤية الأم. لازمتني الفتاة فيما رحت أسأل جنود القوات البريطانية الذين حاولوا فرض نوع من النظام في ظل الفوضى، وسرعان ما انخرطوا أيضاً بالبحث عنها [الأم]، لكنهم لم يجدوها.

لقد غطيت جثث السيدات بقماش أبيض ممزق، وسجيت قرب أحد الجدران. سارت الفتاة باتجاه المكان. حاولت، أنا وجندي من كتيبة المظليين، أن نصل إليها ونبعدها عن الموقع، لكنها رفعت طرف أحد الأكفان قبل أن نبلغها ورأت أمها. وانهارت باكية.

قضيت فترة طويلة، أنا وأمثالي من المراسلين الذين نقلوا أخبار تلك الأيام الأخيرة لانسحاب الغرب من أفغانستان، في تغطية النزاع. قصدت تلك البلاد عشرات المرات على امتداد عقدين من الزمن. رأينا كمية لا يستهان بها من الموت والإصابات جراء القنابل والرصاص، لكن وفيات المطار، المؤلمة التي لا داعي لها، تسببت بنوع خاص من الأذى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد شكلت المعاناة التي حصلت آنذاك إدانة كبيرة لانسحاب دول الغرب، وذلك الخروج المخزي الذي فرضه قرار جو بايدن بسحب كافة القوات وتحديد مهلة للإجلاء. تحمل الشعب الأفغاني ذلك كلفة القرار، بعد أن قدم له الرؤساء الأميركيون ورؤساء الوزراء البريطانيون المتعاقبون ضمانات بأنه سيكون بأمان.

والآن، باتت فتاة الهزارة الصغيرة رفقة عائلتها في مكان آمن. سجن أحد أقاربها، وهو مسؤول حكومي، ثم قتل في باميان على يد القائد المحلي لـ"طالبان". اندرج [قريب الفتاة] ضمن ضحايا كثيرين للحكام الجدد الذين أكدوا لنا خلال مؤتمر صحافي عقدوه بعد أيام من استيلائهم على البلاد أنهم لن يقتصوا من خصومهم. وكذلك تعهدوا في المناسبة نفسها، احترام حقوق النساء، بما في ذلك إمكانية التعليم والعمل.

كشفت السنتان التاليتان كذب تلك الوعود جميعها. لا تزال حصيلة الذين اختفوا قسراً وعذبوا وأعدموا في ارتفاع، فيما عزلت النساء داخل المنازل، وحرمن شيئاً فشيئاً من الحياة التي عرفنها قبل ذلك. ولا يزال آلاف المعرضين لخطر متزايد بسبب علاقاتهم مع الحكومات الغربية، ومنها المملكة المتحدة، عالقين داخل البلاد، وتطاردهم "طالبان".

حدث كل ذلك في فترة لاحقة، بعد الإجلاء. لقد تصرف الجنود البريطانيون الذين أنيطت بهم مهمة الإجلاء بطريقة مثالية، وأبدوا حساسية وتعاطفاً مع الحزن الذي رأوه حولهم، وحاولوا أن يصطحبوا معهم أكبر عدد ممكن من الأفراد.  

كان بعض الجنود يافعين جداً، وهذه علامة التغير في الجيش بعد انتهاء حربي العراق وأفغانستان. أخبرني أحدهم، "توقعت أن أرى جثثاً لكن ليس هذا. لم أتوقع هذا". أتى عريف وربت على كتفه، ثم أخبره "أنا أخدم في الجيش منذ 12 عاماً وما يحدث هنا أسوأ ما حصل خلال خدمتي"، ثم أطرق. ونظر إلى حشد الأشخاص الذين يلوحون بوثائقهم بشكل هستيري، وإلى مقاتلي "طالبان" الموجودين عند نقطة تفتيش وراء حاجز من حاويات النقل. أضاف بهدوء "سوف يسوء الوضع كثيراً هنا، أليس كذلك؟".


فجأة، ارتفعت أثناء حديث الجنود صيحات "انبطحوا أرضاً. ابقوا على الأرض". كان إنذاراً أمنياً، إذ شوهد رجل يحمل جهازاً مشبوهاً. وتناقل الجنود الإنذار التالي "إنه رجل يلبس دشداشة بيضاء ويعتمر قبعة حمراء ويحمل حقيبة زرقاء". أخرجت أجهزة تشويش متخصصة في حال ثبت أن القنبلة معدة للانفجار إلكترونياً [بمعنى أن الأجهزة تستطيع التشويش على الأداة الإلكترونية للتفجير]. اختفى الرجل، واستنتجنا أنه إنذار خطأ.

بعد أسبوع، فجر انتحاري نفسه في نقطة أبعد على الطريق نفسه. لقي 183 شخصاً في الأقل مصرعهم في التفجير، من بينهم 170 مدنياً أفغانياً و13 جندياً أميركياً. ظهرت آثار الرصاص على عدد كبير من الجثث التي تكدست في المشرحة. ولم يتضح عدد الأفراد الذين أصيبوا بالرصاص وسط إطلاق النار الكثيف والعشوائي بعد الانفجار. تبنى تنظيم "داعش"، فرع خراسان، عمليات القتل.  

ورداً على هذا الهجوم، نفذ الأميركيون ضربة بطائرة مسيرة، وأفادوا أن الهدف منها القضاء على المفجرين. قتل 10 مدنيين قرب موقع التفجير بينهم سبعة أطفال. عمل بعض الذين لقوا مصرعهم مع منظمات دولية، وحملوا تأشيرات دخول إلى الولايات المتحدة لكنهم عجزوا عن اللحاق بالرحلات الجوية. وزعم البنتاغون وقوع انفجارات ثانوية داخل إحدى المركبات التي ضربت، ما شكل مؤشراً إلى أنها كانت تحمل متفجرات، لكن لم يعثر على أي دليل قاطع على ذلك، باعترافه.

كذلك أكدت الحوادث التي تلت انتهاء عمليات الإجلاء الجوي، أسوأ مخاوف الأفغان. قبل يوم واحد من دخول "طالبان" إلى كابول، أخبرتني شقيقة صديقي، أفسانه أنصاري "نظرت إلى نفسي في المرآة هذا الصباح وفكرت بأن عمري 20 عاماً والآن ستنتهي الحياة التي أردتها لنفسي. أردت أن أصبح فنانة تمزج بين الفن الأفغاني والغربي. وأنا ناشطة حقوقية، بحسب ما تعرف. ولدت في العام الذي سقطت فيه حركة طالبان، ولم نعتقد يوماً أنهم قد يعودون بهذه الطريقة. إنها كارثة. ما الذي سيحل بنا؟".  

جلب المستقبل إلى أفسانه مغادرة سريعة لمنزل العائلة في منطقة "وزير أكبر خان" داخل العاصمة، كي تسكن في منزل جدتها في الضواحي. قلق والداها من احتمال تزويجها بالقوة لعنصر في "طالبان"، نظراً لأنها عزباء.

خالفت أفسانه رغبة والديها وشاركت في تظاهرات نسائية يومية احتجاجاً على القوانين العقابية التي فرضها النظام الجديد. وشملت هذه القوانين إخراج النساء من المدارس والجامعات ومنعهن من العمل وإلزامهن ارتداء البرقع. طاردها عناصر "طالبان" فهربت مرة جديدة نحو مزار الشريف في الشمال، وبعدها إلى باكستان.

لجأت أفسانه إلى كندا. وأخبرتني خلال آخر حديث دار بيننا "في الأقل، أنا على قيد الحياة، وقد بدأت حياة جديدة هنا. كثيرون غيري لم ينجوا. أتأمل أن يتذكرهم الناس، ويتذكروا ما حدث لهم".

استكمالاً، لم تكن رحيمة، 26 عاماً، أحد معارف أفسانة، من الناجين. عمل زوجها أحمد الذي يحمل شهادة في علم الاقتصاد، لدى الأمم المتحدة والبنك الدولي وشركة بريطانية نفذت مشاريع لصالح الحكومة البريطانية ترتبط بالإدارة الأفغانية.  

قبل سقوط كابول بأيدي "طالبان" بيومين، تقدم أحمد بطلب إجلاء بموجب برنامج سياسة إعادة توطين الأفغان ومساعدتهم، ودعمته شركته البريطانية. جاءه رد من وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث والتنمية، ورد فيه أنها تلقت طلبه وسوف "نسعى للرد عليكم بأسرع وقت ممكن". لم يصله أي شيء من الوزارة بعد ذلك.

غادرت العائلة منزلها، لمعرفتها بأنها مهددة. عادت رحيمة إلى المنزل برفقة أخيها في إحدى الليالي لإحضار بعض الملابس والوثائق. رآهما أحدهم.

أتى عناصر "طالبان" إلى المنزل لكن رحيمة رفضت أن تخبرهم عن مكان زوجها بعدما سألوها عنه. أطلق عنصر غاضب من "طالبان" النار من رشاش كلاشينكوف الذي يحمله وأصابها في رأسها. أخذت بسرعة إلى أقرب مستشفى لكن المجموعة نفسها من عناصر "طالبان" أتت إلى المستشفى وأمرت الطاقم الطبي بعدم معالجتها. أخذتها عائلتها بعد ذلك إلى مستشفى خاص، حيث أجرى لها طبيب تعرفه العائلة عملية طارئة، لكن، سرعان ما توفيت رحيمة.

بعد ذلك، شكلت التصفية مصير أفغان كثيرين قاتلوا إلى جانب الحلفاء الغربيين ضد الإسلامويين. بعد اعتقالهم، أحضرت جثثهم التي حملت في غالب الأحيان آثار إصابات فظيعة، إلى منازلهم، أو رميت إلى جانب الطرقات.


خلال الأسبوع الأخير الذي سبق استيلاء "طالبان" على البلاد، ذهبت إلى ولاية هرات غرب أفغانستان، برفقة مقاتلين تابعين للقائد العسكري المخضرم إسماعيل خان. بدا أداؤهم جيداً. خاطر عنصر من "طالبان" بنفسه وقصد مدينة هرات التي تسيطر عليها الحكومة، كي يشرح وجهة نظر "طالبان". ظهر عليه الهدوء والضعف بعدما تعرض الجانب الذي ينتمي إليه لانتكاسات كبيرة. وبحسب كلماته، "لا نخشى سوى شيئين، الله والغارات الأميركية". 

ومع ذلك، وقعت هرات بيد حركة "طالبان" بعدها بيومين. في تلك الأثناء، عدت إلى كابول. وأوضح لي مقاتل من "طالبان" في اتصال هاتفي أنه وزملاءه لا يعلمون ما حدث. "دخلنا ببساطة، ولم نضطر حتى إلى إطلاق رصاصة واحدة، فقد غادر الحكومة ورجال إسماعيل خان المكان".

ثم بدا أن الغارات الأميركية انتهت. طاردت "طالبان" عدداً كبيراً من رجال إسماعيل خان وقتلتهم. في المقابل، تمكن بعضهم من الفرار عبر الحدود الإيرانية، فيما قرر آخرون الاستمرار في القتال، فانضموا إلى "جبهة المقاومة الوطنية" قاتلت في وادي بانشير، المعقل السابق لـ"تحالف الشمال".

وتولى قيادة جبهة المقاومة الوطنية أحمد مسعود، نجل أحمد شاه مسعود، قائد المجاهدين الذائع الصيت الذي اغتاله تنظيم "القاعدة" قبل 11 سبتمبر (أيلول)، فتخلصت بالتالي من خصم لا يستهان به كان ليعين الولايات المتحدة وحلفاءها في العملية العسكرية التي باتت متوقعة عقب الهجمات على الولايات المتحدة. 

تكلم معنا أحمد مسعود الابن في كابول، عن الوقت الذي قضاه كطالب عسكري في "كلية ساندهيرست" وخلال دورة دراسات حربية في "كينغز كولدج" في لندن، لكن تبين في النهاية أن مستقبله في السياسة. ورث الآن عباءة الحرب من أبيه. وصحيح أن المقاومة التي يقودها ضد نظام "طالبان" حققت بعض النجاحات، لكنها منيت بخسائر فادحة كذلك.

يشكل الأعضاء السابقون من قوات الأمن الأفغانية النواة المتمرسة في القتال ضمن "جبهة المقاومة الوطنية". يمثل أحد أفراد تلك النواة، أكبر آغا غول، القائد الأفغاني السابق الذي قاتل إلى جانب الأميركيين في قندهار والبريطانيين في هلمند. انضم الرجل إلى القوات التي أنيطت بها مهمة الدفاع عن كابول حينما فر رئيس البلاد في ذلك الوقت، أشرف غني، ومعظم أعضاء حكومته، وتركوهم عالقين فيها. بعدها، اختبأ في منزل أحد أبناء عمومته في بلدة باغمان والتحق بالمقاومة في أعقاب إقدام حركة "طالبان" على إعدام 22 من زملائه الذين استسلموا في فارياب، غربي أفغانستان. وبعد أشهر من القتال العنيف الذي شارك فيه، أصيب وهرب إلى إيران كي يعالج.

حاضراً، يريد غول العودة إلى الجبهة، ما يثير استياء عائلته. "علينا أن نحارب لاستعادة أفغانستان، ونقاتل دفاعاً عن كرامتنا. إذا لم نفعل ذلك، من سيدافع عن شرف أمهاتنا وأخواتنا؟"، ثم يسأل "يعرف الجميع ما يدور من همجية. وواجبنا كجنود أن ننقذ بلادنا".

تنوعت قدرات القوات الأمنية الأفغانية عبر الوقت، لكن من رافقهم في العمليات العسكرية مثلنا شهد أمثلة على شجاعة وتضحيات عظيمة. قتل بين 70 و90 ألفاً من بينهم في المعارك خلال العقدين الماضيين.

حتى اللحظة، تبدو فرص نجاح المقاومة في الإطاحة بنظام "طالبان" ضئيلة. لن تأتيها أي مساعدات بناءة من الولايات المتحدة والغرب في أي وقت قريب. وعلى رغم التعهدات التي يقطعونها، لن يتمكن أكبر ورفاقه من المقاتلين من الإطاحة بنظام "طالبان" المدعوم من باكستان، من دون مساعدة خارجية.

لا يزال الانسحاب الشائن من أفغانستان يلقي بظله القاتم على رئاسة بايدن. لقد أجرت إدارته في أبريل (نيسان) من هذا العام مراجعة عن ذلك الأمر، وحاولت أن تحمل فيها دونالد ترمب الذي وقع الاتفاق مع "طالبان" في الدوحة، مسؤولية الحوادث التي وقعت في البلاد بعدها، لكن السيد بايدن أكد مرات عدة على مدار الحملة الانتخابية الأميركية في 2020، أنه لن يعود عن قرار الانسحاب. 

وبعد وصوله إلى البيت الأبيض، لم يتحرك أبداً بغية التصدي لانتهاكات "طالبان" المتكررة للاتفاق، على رغم كون تلك الانتهاكات تقدم للولايات المتحدة فرصة في إعادة تقييم موقعها الخاص. وفي المقابل، تراجعت إدارة بايدن عن قرارات أمنية أخرى اتخذها ترمب. ومثلاً، علقت أمر ترمب بسحب أكثر من ربع القوات الأميركية، أي ما يعادل 12 ألف عنصر، من ألمانيا.

قبل خمسة أسابيع من سقوط كابول، تذمر بايدن من سؤاله عن التقدم الذي تحرزه "طالبان" في أفغانستان خلال مؤتمر صحافي عقد يوم الرابع من يوليو (تموز). ووفق كلماته آنذاك، "يا رجل، أريد التحدث عن أمور مفرحة". بعد خمسة أيام، أعلن رداً على سؤال آخر عن أفغانستان "من المستبعد جداً أن تستولي "طالبان" على كل شيء وتضع يدها على البلاد برمتها".

© The Independent

المزيد من آراء