Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ثقافة الكراهية أولا… "أمركة" أميركا بالمجازر!

وصل الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض بسلاح الخوف

تشييع أحد ضحايا مجزرة آل باسو في 9 أغسطس (أ.ف.ب)

في كتاب "صدام الحضارات" وضع صموئيل هنتنغتون صراعات الأمم في إطار الثوابت والحتميات. كانت العوامل المتعددة والمتغيرة للصراعات مجرد وقائع في خدمة نظرية رفضها الأكاديميون وتحمس لها الأصوليون، الذين أصروا على تقسيم العالم إلى "فسطاطين". ولم يكن لدى المؤلف استعداد لنظرة ثانية إلى التاريخ، الذي أكد أن الحضارات لا تتصادم بل تتكامل وأن العنوان الواقعي هو "صدام العصبيات والمصالح".

وفي كتاب "من نحن؟"، نقل هنتنغتون نظريته الكونية إلى الداخل الأميركي. إذ اعتبر "أن التحدي الوحيد الداهم والأخطر لهوية أميركا التقليدية يأتي من الهجرة المستمرة من أميركا اللاتينية وخصوصاً من المكسيك". ورأى "أن المكسيكيين يشعرون مع تكاثر أعدادهم بأنهم مرتاحون إلى ثقافتهم الخاصة وقادرون على ازدراء الثقافة الأميركية". ثم أعلن بوضوح عنصري أنه ليس هناك "حلم أميركانو بل حلم أميركي وحيد خلقه المجتمع الأنكلو بروتستانتي".

وقبل هذا الكتاب وارتفاع موجة الحديث عن "تفوق العرق الأبيض" مع رئاسة دونالد ترمب، دعا الإعلامي الذي عمل في البيت الأبيض وترشح للرئاسة كمستقل باتريك بيوكانان إلى "أمركة" أميركا، وطالب بمنع الهجرة لمدة عشر سنين.

وفي هذا السيناريو جاءت مجزرة آل باسو التي ليست صاعقة في سماء صافية. فالشاب الأبيض الذي ارتكب المجزرة ضد أميركيين من أصل مكسيكي كان يعمل ضمن تصور سجّله في "مانيفستو". ولولا ضغوط الانتخابات الرئاسية والحاجة إلى الأصوات لما أعلن ترمب للمرة الأولى إدانة "العنصرية والتعصب ونزعة تفوق العرق الأبيض". غير أن "العلاج" الذي لجأ إليه ترمب هو إصلاح قوانين الصحة العقلية بدل قوانين السلاح. وهو أيضاً التصرف كأن مجازر "الإرهاب الأبيض" أعمال فردية وليست نابعة من "ثقافة الكراهية".

وليس ذلك من المفاجآت. فلا رئيس ولا كونغرس ولا حاكم ولاية يجرؤ على مواجهة "لوبي الأسلحة" القوي والعمل الجدي على ضبط التسلح كما فعلت رئيسة وزراء نيوزيلندا بعد مجزرة المساجد. ولا شيء بعد صدمة كل مجزرة سوى وضع قيود شكلية على شراء السلاح، مع أن الظروف والأسباب تغيرت منذ نص الدستور على "الحق" في امتلاك السلاح وحمله. فالعنف نوع من "الجينة" في أميركا. إذ هي ولدت بالعنف وتوسعت بالعنف ولا سيما ضد المكسيك. عنف ضد الهنود الحمر. عنف ضد السود رمزه منظمة "كوكلوكس كلان". وعنف بين المهاجرين البيض أنفسهم في الصراع على الأرض والذهب والماء. حتى بعد الاضطرار قبل عقود لإعطاء الذكور السود حق التصويت في الانتخابات، فإن إعطاء الحق كان مشروطاً بإجادة القراءة.

ومن النماذج المشهورة لامتحان القراءة أن لجنة الامتحان أعطت لعجوز أسود صحيفة صينية وقالت له: ماذا يقول عنوان الصحيفة؟ رد الرجل بسخرية: العنوان يقول إني لا أستطيع الاقتراع. هل هذا في الماضي فقط؟ روايات توني موريسون، الحائزة جائزة نوبل في الأدب والتي توفيت مؤخراً تصور الحاضر من خلال الماضي، ولو في القرن التاسع عشر مثل رواية "محبوبة". وهي ترى في كتاب "أصل الآخرين" أن "المصادر المتاحة للتواصل مع بعضنا بعضاً قليلة، لكنها قوية: اللغة، التصور، والتجربة".

يقول سكوت فيتزجرالد "إن فرنسا بلد، بريطانيا شعب، وأميركا فكرة". وفي البدايات بعد حرب الاستقلال، فإن ألكسندر هاملتون رأى أن "أميركا تجربة يراقبها العالم ليرى إن كان يمكن تأسيس مجتمع على مبادئ الحرية بدل الخوف".

والواقع أن آخر مكان في العالم يستطيع التفريق بين الشعوب هو أميركا. فالشعب الأميركي خليط من كل شعوب الأرض. وليس هناك، خلافاً لبلدان أوروبا وآسيا، مواطن أصيل وآخر غير أصيل، وإن كان الهندي الأحمر الذي أبيد تقريباً هو المواطن الأصلي. وإذا كان المهاجرون الأوربيون الأوائل هم الذين بنوها وحكموها بصفتهم "الواسب"، وهي كلمة مركّبة تشير إلى البيض الأنغلوساكسون البروتستانت، فإن بقية المهاجرين ساهموا في ازدهارها وقوتها. وهؤلاء الآن هم نصف السكان، وبينهم 56.5 مليون أميركي لاتيني معظمهم من المكسيك. فأي جنون هو الحديث عن التخلص من هؤلاء؟ وأي وهمٍ يصاحب الذين يريدون تأسيس مجتمع على الخوف كتجربة بديلة من تجربة التأسيس على مبادئ الحرية التي تحدث عنها هاملتون وكانت ناجحة؟

ترمب وصل إلى البيت الأبيض بسلاح الخوف: تخويف البيض من بقية الألوان، وتخويف كل الأميركيين من الآخرين في العالم بحجة أنهم يشفطون المال الأميركي ويتمتعون بالسلام والرفاهية تحت مظلة الحماية الأميركية. ومنع الهجرة أو التضييق عليها ما عاد مجرد دعوة بمقدار ما صار واقعاً. ولا مجال للخطأ في قراءة ما تقود إليه العنصرية والعصبيات وثقافة الكراهية والموت و"الإسلاموفوبيا" الذي لا يقل خطورة عن ثقافة التكفير والإرهاب: الجمع بين السلاح وثقافة الكراهية وصفة لارتكاب مجازر. والجمع بين الأيديولوجيا المتخلفة والتكنولوجيا المتقدمة يقود إلى مجازر أفظع بالسلاح المتطور. ألم يقل تولستوي "تصوروا جنكيزخان مع هاتف؟".

أبسط تعليق على مجزرة أل باسو قول كاتلين بيلو من جامعة شيكاغو "لا يكفي رفض القتل الجماعي كشيء خارج إرادتنا، يجب أن نفهم معناه ونواجه الحركة التي تعتمد على المجازر". والتحدي أمام الجميع هو الجرأة على مواجهة ثقافة الكراهية وما وراء "الإرهاب الأبيض".

المزيد من آراء