ملخص
كانت هذه الفنون القتالية حكراً على الرجال لفترة طويلة في العراق وشهدت الأعوام الأخيرة إقبالاً غير مسبوق من قبل النساء من كل الأعمار بهدف الدفاع عن النفس
لم تعد رياضة الكاراتيه الـ "كيوكوشنكاي" حكراً على الرجال في العراق، إذ بدأت الفتيات في الالتحاق للتدريب على هذا الفن القتالي لتخطو بعضهن خطوات نحو الاحتراف والتتويج في بطولات محلية وعربية، ومنهن من يطمحن إلى الحصول على ألقاب عالمية.
أحزمة تتنوع ألوانها ما بين الأبيض والأزرق والأسود تردتديها الفتيات في سعيهن الدؤوب إلى الاستمرار في تحقيق أحلامهن التي تتخطى المجتمع وعاداته، وكلمات باللغة اليابانية تسمع على ألسنة اللاعبات أثناء التدريب، فرياضية الـ "كيوكوشنكاي" تعود بأصولها لـ "ماس أوياما" الذي ينحدر من كوريا الجنوبية وجاء إلى العاصمة اليابانية وهو ابن 13 سنة بغية الالتحاق بمدرسة الطيران العسكرية، حيث تعلم مبادئ الجودو والملاكمة قبل أن يلتحق بمدرسة فوناكوشي لتعليم الفنون القتالية العسكرية وهو في الـ 15.
وبعد أعوام من التدريب نجح أوياما عام 1953 في فتح ناد في طوكيو لتعليم الفنون القتالية قبل أن يصدر كتاباً بعنوان "ما هي الكاراتيه؟" عام 1958 يشرح من خلاله طريقة القتال الخاصة به، والتي كونها من جميع الفنون القتالية التي مارسها واختار لها اسم "الكيوكوشن" وتعني باليابانية "الحقيقة النهائية"، أما اللاحقة "كاي" فأضيفت في ما بعد لتفيد ارتباطها بالكاراتيه.
وصنفت رياضة الـ "كيوكوشنكاي" ضمن الرياضات الفردية الأكثر عنفاً، مما جعلها بعيدة من دورات الألعاب الأولمبية، لكن ذلك لم يحد من انتشارها ووجود بطولات عالمية خاصة بها.
النجاح يتواصل
"أؤمن أن ما نقوم به ليس مجرد فن قتالي بل هو أسلوب للحياة يعتمد على كيف يتعامل اللاعب مع نفسه ومع المجتمع"، هذا ما يقوله آصف محمد وهو مؤسس إحدى أكاديميات الفن القتالي، فقد بدأ حلمه في قاعة صغيرة للتدريب على هذا الفن القتالي لتصبح الآن أكاديمة معترفاً بها من قبل الاتحاد العراقي للـ "كيوكوشنكاي" والاتحاد الدولي، لتفتح بعد أعوام قليلة ثلاثة فروع لها في بغداد باتت تضم 1000 لاعب و30 مدرباً و15 حكماً معتمدين في الاتحاد العراقي للـ "كيوكوشنكاي".
ويؤمن محمد بقدرة الفتيات على النجاح في هذا الفن القتالي، وهذا الإيمان دفعه لأن تكون أكاديميته لها الريادية في تدريب الفتيات، فهي أول أكاديمية اعتمدت على منهج تدريب حديث يختلف عن الطرق الكلاسيكية لتشق طريقها بنجاح وتحقق ميداليات عدة في البطولة العربية التي أقيمت في بيروت أخيراً، وهنا يقول "شاركنا بخمس لاعبات وحصلنا على ميداليات ذهبية وفضية".
فن يتعدى الضرب واللكمات
ويرى محمد آصف أنه غالباً ما تتعرض المرأة في مجتمعنا لحالات التحرش والاعتداء والمضايقات، فغالبية اللاعبات يسعين إلى تعزيز الثقة بالنفس من خلال الالتحاق بالتدريب على هذا الفن الدفاعي، ومنهن من يكون لهن الشغف ليصبحن لاعبات محترفات يسعين إلى تحقيق الإنجاز والميداليات من خلال الاشتراك في البطولات.
وفي هذا الشأن توضح اللاعبة الحائزة على الميدالية الذهبية في بطولة العرب التي أقيمت في بيروت في سبتمبر (أيلول) 2022 والمرشحة لبطولة آسيا والعالم التي ستقام في بولندا في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، جنات ثائر قائلة "كنت أرغب أن أتعلم شيئاً جديداً وتحمست للالتحاق بالأكاديمية وكنت أتساءل هل هي مجرد لكمات وركلات؟ وإن كانت كذلك لماذا أطلق عليها فن؟ ومع المواظبة على التدريب وجدت أنها تمثل القوة البدنية والذهنية والسيطرة على النفس واستعمال كل هذه الأشياء فقط في حالات الدفاع، فكل ما أبحث عنه موجود في هذا الفن الرياضي".
الحزام الأسود
وتقسم الأحزمة في رياضة الـ "كيوكوشنكاي" وتتدرج من اللون الأبيض فالبرتقالي والأزرق والأصفر ثم الأخضر والبني والأسود، وهذه الألوان تمثل المراحل التي وصل إليها اللاعب في التمرين، وهي ليست مقداراً للقوة بل تعنى المدة الزمنية التي خاضها اللاعب في التمرين، وفي هذا السياق توضح ثائر أنه "بعد أن بدأت أفهم خبايا هذه اللعبة ازداد طموحي للمضي قدماً لتحقيق مستويات متقدمة، وعرفت بأن هناك ترقية من خلال الأحزمة فجربت الاختبار الأول ونجحت، وبعد حصولي على الحزام الأزرق الذي يعني الوصول إلى مرحلة مساعد المدرب قمت بتدريب أربعة أطفال، وأنا الآن أحمل الحزام البني وأتطلع للحصول على الحزام الأسود الذي يعني الانتقال من مرحلة مساعد مدرب إلى مدرب"، وتمكنت جنات ثائر من تدريب 1000 طفل من طلاب المدارس خلال أربع أعوام.
تحتاجها الفتيات أكثر
اللاعبة رسل صلاح التي بدأت التدريب عام 2017 والحاصلة على دبلوم في الفنون الجميلة، ترى أن هذه الرياضة هي فن حالها حال الفن الذي درسته في أعوام المعهد، موضحة أن هذه الرياضة تحتاجها الفتاة أكثر من الشباب، "إن الرياضة تجعل الفتاة بأن تكون حاضرة الذهن أمام أي موقف يتطلب منها الدفاع عن نفسها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وترى صلاح أن "ما يواجه المرأة في مجتمعنا دفع بكثير من الفتيات للالتحاق بدورات لتعلم هذا الفن القتالي، والإقبال المتزايد جعلنا نستحدث قاعات جديدة بكادر تدريب نسوي لمن ترغب من الفتيات المحجبات بالالتحاق والتمرن على يد مدربة".
وفي السياق نفسه ترى ثائر أن "المرأة الآن تعمل لساعات طويلة وقد يتطلب عملها السفر لوحدها، فليس من المعقول أن تعتمد في كل تنقلاتها على مرافقة الأب أو الأم، لذا لابد من أن تتعلم مواجهة المخاوف لوحدها والقدرة على التصرف في أي موقف يتطلب منها الدفاع عن نفسها".
القتال الأعزل
وتوصف الـ "كيوكوشنكاي" بأنها كاراتيه الاتصال المباشر، إذ يقترب المتباريان من بعضهما أكثر مما يحصل في الفنون القتالية الأخرى، مما يعطي عاملي الصلابة وقوة الضربات الدور الأكبر في ترجيح الكفة.
والقتال الأعزل أحد الفنون القتالية التي من الممكن أن يتعلمها من يرغب في هذا النوع من القتال، ويقول آصف محمد "يشترط على من رغب في التدرب على هذا النوع من القتال أن يتعدى عمره الـ 12 سنة، وعادة ما تلجأ الفتيات اللاتي يعملن في الوزارات الأمنية للتدريب على هذا النوع من الفن القتالي".
لكمة بوجه المستحيل
وفي ما يتعلق بشرط العمر يقول آصف إن "الفنون القتالية لا ترتبط بالعمر أو الوزن بل هي تعتمد على المهارة والتكنيك والمواظبة على التدريب، فهناك من يتعلم هذا الفن القتالي وهو تحت سن الـ18، كما تضم الأكاديمية فئة الماستر لمن هم فوق 38 سنة".
ومنهم من استلهم الشغف بهذه الرياضة من الأبناء، وهذا ما توضحه تولاي محمد إبراهيم التي بدأت التدريب بعد التحاق ابنها بالأكاديمية، "بدأت التدرب مع ابني بهدف الحفاظ على اللياقة الجسدية وتقوية الأعصاب والتخلص من ضغوط الحياة"، مؤكدة أنها لا تطمح للدخول في بطولات والحصول على الألقاب، بل ما تسعى إليه هو بناء الثقة بالنفس.
الاستثمار في مجال الرياضة
وتنضوي أكاديمية آصف تحت الاتحاد العراقي للـ "كيوكوشنكاي"، وعلى رغم الاعتراف المحلي والدولي بها إلا أنها تعاني قلة الدعم المالي، ففي البطولات المحلية تقوم الأكاديمية بدفع كلف إيجار القاعة التي تكون من الاشتراكات الشهرية التي يدفعها المتدربون وتقدر بـ 50 ألف دينار عراقي (38 دولاراً أميركياً).
وفي هذا السياق يوضح آصف أن "الاستثمار في المجال الرياضي في العراق غير مجد، ولدي أمل في أن يكون لنا مكان خاص وقاعات تستوعب المتدربين كافة".
الطريق إلى الميداليات
ويعتمد الاتحاد العراقي للـ "كيوكوشنكاي" على أسس صارمة لاختيار اللاعبات اللواتي يمثلن العراق في البطولات العربية، فاللاعبة يقع عليها الاختيار أولاً من قبل المدرب ومن ثم يقوم الاتحاد العراقي بتنظيم بطولة على مستوى العراق لجميع الأندية، والفائزة سيختارها الاتحاد ويخصص لها مدرباً وخبيراً لتهيئتها للبطولات خارج العراق. ويكشف آصف عن "أن الاختيار يعود لأسباب فنية من ناحية قدرة اللاعبة على تحمل التعب الجسدي وأن تكون قوية نفسياً لتحمل الخسارة".
وفي السياق ترى اللاعبة رسل صلاح "أن اللاعبة العراقية ومن خلال تجربتنا بالمشاركة في البطولات تمثل رقماً صعباً، وهذا يعود لقوة التدريب الذي نحظى به".
وصلاح الحائزة على لقب بطلة العراق في البطولة الاحترافية والمركز الأول في بطولة العرب تطمح إلى الحصول على لقب عالمي، قائلة "يحتاج هذا الحلم لكثير من الوقت والتدرب ولكنه ليس مستحيلاً".
وفي كل فوز لها تهدي فوزها لذكرى والدها، "كل ميدالية أحصل عليها أقدمها لذكرى والدي الراحل الذي كان المشجع الأول لي للاستمرار في هذه الرياضية وتخطي كل العقبات".
للنساء نصيب من التحكيم
وأكدت لاعبات رياضة "كيوكوشنكاي" قدرتهن على الفوز وإحراز ألقاب عربية مهمة وأن طموحهن لا حدود له، إذ طالبن الاتحاد العراقي بالدخول إلى عالم التحكيم، وحول هذه النقطة تقول جنات ثائر "نشارك في بطولات ولدينا أندية في العراق، فطالبنا بأن ندخل معترك التحكيم".
وفي السياق نفسه يوضح آصف محمد أن "هناك دورات لإعداد الحكام تلتحق فيها الفتيات للتعريف بالمصطلحات والجوانب الفنية، وبعد اختبار مهارة اللاعبة وقدرتها على التحكيم من قبل الاتحاد العراقي تحصل على الصفة الرسمية كحكم، ولدينا لاعبات حكمن في مباريات للرجال ولم تعد هذه الرياضة بكل تفاصيلها حكراً على الرجال".
الانتصار على الإرهاق الذهني
"لا تقف حدود رياضة ’كيوكوشنكاي‘ على تطوير المهارات القتالية الذاتية، بل هي تنتصر على الإرهاق الذهني وتعيد تنظيم الحياة"، هذا ما توضحه اللاعبة ريتاج محمد قائلة "مع الانتظام على هذه الرياضة تمكنت من تنظيم روتيني اليومي ونجحت في خلق التوزان بين دراستي والرياضة"، أما اللاعبة كوثر كاظم فتتحدث عن الدعم النفسي الذي حظيت به خلال تجربتها الفن القتالي قائلة إن "الالتحاق بهذه الرياضة عمل على مكامن الضعف في نفسيتي، فقد كنت أخشى كثيراً من الأشياء لكن الآن تبددت مخاوفي ولم أكن أعلم أن هذه الرياضة ستسهم في دعمي نفسياً".
ويقدر عدد ممارسي "كيوكوشنكاي" عالمياً بـ 12 مليوناً ضمن أكثر من 120 دولة عبر القارات الخمس، ولعل ما يفسر أسباب انضمام كلا الجنسين إلى هذه الرياضة أنها تحقق الصفاء الذهني فتتناغم حركات الجسد مع ما يحقق السلام النفسي.