Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ملائكة وشياطين"... أي حياد للعلم تحت عباءة الدين؟

مؤيدون يذهبون إلى "تديين" البحث وتقييده بالقيم الاجتماعية ومعارضون يرون أن الفصل بينهما مكسب لكليهما

ثمة انقسام في شأن العلم والدين في المجتمع العربي  (موقع ساينس)

ملخص

تؤكد المؤسسات الدينية المعاصرة ورجالاتها أن العلم والدين وجهان لعملة واحدة إلا أن تشجيع اليوم لأسباب سياسية أو لإيمانهم الحقيقي بأهمية العلم قد يتحول تحذيراً أو ترويعاً أو تقبيحاً للبحث العلمي غداً في حال تغيرت الوجوه وتبدلت الأوضاع

صراع وعداء؟ تناغم وتعاون؟ شد وجذب؟ أم تاريخ تطور في جزء من العالم فأصبح الدين حكراً على دور العبادة والبيوت والنفوس، وبقي على حاله في جزء آخر حيث الدين شأن عام في الدولة والحكومة ومقر العمل والباص والمقهى والمصعد وقاعة الامتحان ومركز البحث العلمي بدءاً بالفكرة مروراً بالخطوات وانتهاء بالتطبيق؟

تطبيق معايير معينة واتباع قواعد أخلاقية منصوص عليها في مراكز البحوث العلمية أمر مفروغ منه. لكل مركز قواعده، ولكل دولة مواثيقها، وهناك من القواعد والمواثيق ما يتسم بالعالمية.

الغالبية المطلقة من هذه القواعد لا تخرج عن قيود تتعلق بالقيمة الاجتماعية والحياتية للبحث والصلاحية العلمية وحساب الأخطار والفوائد والمراجعة المستقلة للنتائج والموافقة المكتوبة للمشاركين، وقائمة طويلة جداً من القواعد الأخلاقية "الدنيوية" التي تجمع عشرات الدول وآلاف المراكز البحثية وسط اختلاف المفردات مع تطابق المعاني.

الدين مكون رئيس

اختلاف المفردات مع تطابق في المعنى في مقابل الجمع بينهما في الآن ذاته هما النسبة الغالبة من المراكز البحثية العلمية في الدول العربية، حيث الدين مكون رئيس في تفاصيل الحياة الصغيرة والكبيرة وما بينهما، والبحث العلمي ومراكزه ومعامله جزء منها، والفروق بين الدين والتدين من جهة والعلم والبحث العلمي من جهة أخرى غير موجودة لأنهما متماهيان.

الكاتب ومؤلف كتاب "300 ألف عام من الخوف" جمال أبو الحسن يقول لـ"اندبندنت عربية" "العلاقة بين الدين والعلم مركبة ومتداخلة من الناحية التاريخية. لفترة طويلة جداً من التاريخ البشري المكتوب، كان الدين والعلم شيئاً واحداً تقريباً، بل إن العلوم بمعناها القديم وقبل ظهور العلم الحديث، ظهرت وازدهرت في كنف المؤسسات الدينية، مثل الكنائس في فترة العصور الوسطى في أوروبا. لكن الثورة العلمية منذ القرنين الـ16 والـ17 ارتبطت على نحو واضح ببداية الانفصال، وأحياناً كثرة الصراع، بين العلم والمؤسسة الدينية".

يضيف أبو الحسن أن العالم الإسلامي لم يشهد هذه المعركة المهمة في التاريخ الإنساني، ولهذا ما زالت العلاقة بين العلم والدين، أو بالأحرى بين البحث العلمي والمؤسسة الدينية يشوبها بعض الالتباس.

ويوضح، "نعرف من التاريخ أن إعطاء (سلطة ما) الحق في التحكم بمسارات البحث العلمي ينتهي حتماً بتقييد التقدم العلمي وتراجعه. وليست مصادفة أن التقدم العلمي في عصرنا الراهن مرتبط بالعلمانية، أي فصل الدين عن الدولة، بصورة واضحة".

 

 

المعاني والعناوين العربية دائماً تضع كليهما في السلة نفسها. التصريحات الصادرة عن المؤسسات الدينية الرسمية وعلماء الدين، وكذلك القائمين على أمر الجامعات والمراكز البحثية والباحثين تضمن استدامة الزواج الكاثوليكي بين البحث العلمي والدين. وهي كما في علاقات الزواج التقليدية تقوم على أساس الراعي والرعية بحيث الدين هو الراعي المسؤول عن صلاح الرعية، وبينها البحث العلمي والباحثين وواجب الدين أن يرعى البحث العلمي ويراقبه ويرصده وينظمه ويتأكد من صلاحه ويسيطر على صلاحيته.

صلاحية هذه العلاقة المزمنة في تداخلها والمتشابكة في خيوطها غير محددة المدة على ما يبدو. فمثلاً، ابن تيمية الذي ولد عام 1263 ميلادية حرم الكيمياء وكفر من يعمل بها واعتبرها أشد حرمة من الربا. وحين يسأل رجال الدين حالياً عن هذا التحريم والتكفير، فإن معظم الردود تأتي مدافعة ولا تخرج عن سياقين لا ثالث لهما، وهو أن جانباً من الكيمياء في عصره كان يستخدم في أعمال السحر، أو بغرض خلط أنواع من المعادن مع بعضها بعضاً وبيعها باعتبارها ذهباً، وأن التحريم والتكفير كانا بغرض إغلاق باب السحر والنصب. أما السياق الدفاعي الثاني، فيدور في فلك اختلاف العصر وتغير الزمان، وأن ما بدا حراماً أو كفراً قبل ثمانية قرون ربما ثبت أنه علم وله فائدة في العصر الحالي.

الطريف أن العصر الحالي له قوائمه الخاصة من تحريم ما تسفر عنه البحوث وتكفير ما تتفتق عنه الأذهان من مبتكرات كذلك، لكنها لم تخضع بعد للسياقين نفسهما، الاستخدام في السحر والنصب، وعدم الإلمام بقيمتها العلمية وفائدتها الإنسانية. لماذا؟ لأن من يكفرونها على قيد الحياة، ولأن العلماء والباحثين الذين ابتدعوها لم يحصلوا على موافقات مسبقة من رجال الدين قبل المضي قدماً في التفكير والابتكار والبحث.

التراكم الحضاري

الكاتب والطبيب خالد منتصر يتحدث عن مصادماته الفكرية مع إسلاميين (المؤمنين بمزج الدين مع الدولة والسياسة والحياة) حول الدولة الدينية ومكانة العلم والعلماء والبحث العلمي فيها. يقول إن الإسلاميين يباهون بالدولة الدينية التي أفسحت الطريق على حد قولهم لعلماء المسلمين الذين أنجبتهم الخلافة الدينية، مثل جابر بن حيان والرازي وابن سينا والخوارزمي وغيرهم.

يشير منتصر إلى أن هؤلاء العلماء وغيرهم كانوا مكروهين، بل مكفرين من قبل الشيوخ والفقهاء قبل قرون. ويضيف أن التاريخ يحفل بعلماء آخرين كذلك، ولكن الدولة الدينية لم تصنعهم، بل صنعهم التراكم الحضاري لبلادهم وفهمهم الصحيح للإسلام الذي يحض على السعي في الأرض والتفكير والتدبر بدليل الحرب الشعواء التي مارسها ضدهم فقهاء ومشايخ هذه العصور.

يوضح، وإليكم غيض من فيض مما قيل في تكفير العلماء المسلمين، كفر الفقيه ابن تيمية العالم جابر بن حيان وهو من علم أوروبا الكيمياء، وأصدر فتوى في هذا الشأن جاء فيها "أهل الكيمياء من أعظم الناس غشاً! وهم أهل ذلة وصغار. والكيمياء محرمة باطلة! ولم يكن بين أهل الكيمياء أحد من الأنبياء أو علماء الدين أو الصحابة أو التابعين. والكيمياء أشد تحريماً من الربا.

يتابع منتصر، أما ابن سينا الموجود تمثاله أمام بوابات أعرق كليات الطب في أوروبا فقال عنه ابن القيم في "إغاثة اللهفان" هو "إمام الملحدين الكافرين بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر". وقال عنه الكشميري في "فيض الباري"، "ابن سيناء الملحد الزنديق القرمطي". وقال الشيخ صالح الفوزان إنه "باطني من الباطنية، وفيلسوف ملحد". وما قيل عن أبو بكر الرازي لا تكفيه مجلدات. كفروا هذا الطبيب والعالم والفيلسوف العبقري. قال عنه ابن القيم "الرازي من المجوس، وإنه ضال مضلل". وقال ابن تيمية عن محمد بن موسى الخوارزمي، "العلوم الشرعية مستغنية عنه وعن غيره". وقالوا عن ابن الهيثم إنه كان من الملاحدة الخارجين عن دين الإسلام، وكان سفيهاً زنديقاً كأمثاله من الفلاسفة. وقائمة التكفير والتحريم طويلة، وفق منتصر.

 

 

لكل عصر مواصفاته

لكن لكل عصر مواصفاته ولكل زمن مقومات الضبط والربط، أو حتى الردع الخاصة به والمناسبة له. العبارة العربية السحرية المعاصرة هي أن الدين، لا سيما الإسلام بحكم أنه دين الغالبية العددية عربياً، يرحب بالبحث العلمي الملتزم بالضوابط والأخلاق.

أما من يضع الضوابط ومن يعرف الأخلاق، فهم في معظم الأحوال علماء الدين ويستعينون ربما في ذلك بعلماء العلوم المختلفة التي هي موضوع البحث العلمي بغرض الاسترشاد بينما يضعون القيود ويخطون المواثيق، ويستعين بهم ربما الباحث نفسه اختيارياً بحكم النشأة والتوجه والاختيار، وليس بالضرورة الاضطرار.

أستاذ الشريعة الإسلامية في كلية دار العلوم جامعة القاهرة محمد نبيل غنايم قال في لقاء إعلامي إن الإسلام يرحب بالحرية العلمية ويفسح المجال أمام الخبراء في مختلف المجالات لتحقيق الإنجازات العلمية شرط توظيفها لتحقيق الخير للبشرية.

وأضاف أن "الإسلام يرحب بكل إنجاز علمي يستند إلى الأخلاق ويتفق مع توجهات الأديان"، محذراً من أن "بعض مجالات البحث في الهندسة الوراثية والتخليق الجيني عليها ملاحظات من علماء الشريعة"، وأشار إلى أنه "يجب على المؤسسات العلمية ومراكز البحوث الطبية العربية أن تقف على حدود الحلال والحرام بغرض التدخل في البحوث المحظورة شرعاً، مؤكداً أن عليها (المراكز البحثية العربية) أن تتبع الأساليب الأخلاقية في البحث العلمي حتى تسير بحوثها وإنجازاتها العلمية في الطريق الصحيح".

الطريق الصحيح

تعريف الطريق الصحيح يبقى قيد شد وجذب في مناطق عدة من التي صنعت لنفسها مكانة في صدارة البحث العلمي. المراتب من واحد إلى 10 بقيت من دون تغيرات تذكر على مدى أعوام. الولايات المتحدة الأميركية والصين وألمانيا وبريطانيا واليابان وفرنسا وكندا وسويسرا وكوريا الجنوبية وأستراليا بحسب أكثر من جهة معنية بالتصنيف، والأمر لا يختلف في تصنيف العلماء الأكثر إنتاجاً ومشاركة في بحوث علمية تنجم عنها اكتشافات علمية. فقائمة الجنسيات متطابقة مع قائمة الدول، لكن بين العلماء نسبة غير قليلة من ذوي الأصول الإسلامية والعربية.

الأزهر الشريف أصدر قبل أعوام دليلاً عنوانه "دليل أخلاقيات وضوابط البحث العلمي"، وجاءت الترجمة الإنجليزية له (Directory of Ethics and Controls of Scientific Research) بحيث استخدمت كلمة "كونترول" بمعنى التحكم وليس الضبط.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الدليل أكد غير مرة على سمو مكانة الدول عبر العلم والمعرفة، وهو ما يتحقق عبر الاهتمام بالبحث العلمي الذي يقدم حلولاً لمشكلات الاقتصاد والبيئة والسياسة والطب وغيرها. لكنه أشار أيضاً إلى أن البحث العلمي ليس غرضاً في حد ذاته، لكنه وسيلة لارتقاء المجتمع وتنميته، شرط أن تتوافر في البحث والباحث مجموعة من القيم والمبادئ الأخلاقية.

كما أشار إلى قيم مثل الصدق والأمانة ومراعاة حقوق الآخرين، لكنه أسهب في ضرورة تنمية ملكتي الاجتهاد والاستنباط لدى الباحثين وإعدادهم بشكل يجعل منهم قادرين على الفتوى بضوابطها الشرعية وإجراء البحوث الشرعية التي تعالج قضايا شرعية وقانونية واقتصادية وطبية ومشكلات حقيقية يواجهها المجتمع. كما ينص على إخراج الثروة العلمية التي تركها العلماء السابقون.

النجاة من قبضة رجال الدين

العلماء السابقون منهم من نجا ببحوثه واكتشافاته من براثن هيمنة تفسيرات دينية متشددة أو غارقة في ثقافة العصر الذي ظهرت فيه، ومنهم من وقع في قبضتها فواجه اتهامات بالكفر أو الزندقة أو الإلحاد، وهذه النوعية من الاتهامات ليست ذائعة في العصر الحالي، في الأقل على الملأ، هي فقط من نصيب كتاب ومفكرين يخرجون عن الخطوط المرسومة أو القيود الموضوعة.

وعلى رغم ذلك، فإن قبضة رجال الدين تهيمن بشكل أو بآخر على البحوث العلمية، والدين إما يفرض نفسه عضواً في مجلس إدارة البحث العلمي أو يتم استدعاؤه عبر لجوء الباحث إليه "حتى يطمئن قلبه" أثناء البحث. فهل حان وقت تحييد الدين في البحث العلمي؟

وقت التحييد

يجيب الكاتب خالد منتصر في حديث خاص إلينا، "نعم حان وقت التحييد ولا بد من أن يتم هذا التحييد لأن تعريف العلم والدين يقتضي ذلك. العلم دائماً يبحث في النسبي والدين هو المطلق وليس انتقاصاً من كليهما أن يكون لكل منهما منهجه. ولذلك على النصوص الدينية أن تقف عند حدود المعمل ولا تدخله. بداية البحث والتجريب العلمي هو قراءة الواقع وليس قراءة النص الديني". ويشير إلى أن هذا الفصل حدث في زمن غاليليو حين حدد وضع الأرض والشمس، ومن يدور حول الآخر بالتليسكوب لا بالنص الديني.

ويضيف، "مسألة الخلط أو دخول النصوص الدينية إلى المعمل كان من نتيجتها تأجيل قانون زراعة الأعضاء، فتاوى عن الختان ومنها ما صدر عن الأزهر نفسه قبل أعوام، والتدخل في عمليات تحويل الجنس التي لها بروتوكل في الأمراض النفسية واضح وصريح لكن تقابله عقبات بسبب الآراء الدينية، رؤية الهلال وغيرها. وكان من نتيجة الإصرار على الزج بهذا في ذاك تأخر العلم وإلحاق الضرر بالدين. ولو هرولنا وراء التفسيرات والإعجازات العلمية في الدين سنجد أن المؤمن قد يتشكك في ما يلقن به من قبل حين يتطور العلم والبحث العلمي ويكشف ويكتشف ما لم يكن معروفاً سلفاً".

جنس الجنين

ويضرب منتصر مثالاً بالتفسير الذي كان سائداً في الماضي للآية الكريمة "ويعلم ما في الأرحام" بأنها تعني أن الله سبحانه وتعالى وحده من يعلم جنس الجنين، لكن بعد التقدم والسونار وغيرها أصبح تحديده سهلاً.

ويرى أن "الإصرار على تفسيرات جامدة تضر الدين"، مضيفاً أن الضرر يلحق كذلك بالعلم الذي يفترض أن تكون نقطة بدايته قراءة الواقع وليس محاولة ليّ النصوص لتحقيق ما يسمى (الإعجاز العلمي) مثل تخصيص أطروحة دكتوراه عن السبع تمرات أو الحجامة وهي ممارسات مرتبطة ببيئتها وزمانها ومكانها، وإن كان يعالج بها المسلمون وكذلك المشركون. إذاً لا مفر من التحييد".

على الحياد

الحياد أمر بالغ الصعوبة، لا سيما حين يخرج رجال دين لهم قاعدة جماهيرية كبيرة ليعلنوا عبر وسائل الإعلام المختلفة أن التبرع بالأعضاء حرام، سواء كان ذلك من متبرع ميت إلى حي، أو من حي إلى حي، وذلك بعد مرور عقود على لجوء الملايين إلى التبرع بالأعضاء لإنقاذ حياة وبعد أعوام من صدور قوانين تنظم علميات التبرع.

أستاذ الشريعة الإسلامية في الأزهر مبروك عطية قال غير مرة إن "بدن الإنسان حياً أو ميتاً ليس ملكاً له أو لورثته أو لأي مخلوق آخر. هو ملك الله عز وجل، ومن يتبرع أو يعلن عن تبرعه بشيء من أعضائه بعد وفاته يتبرع بشيء لا يملكه".

الأمر نفسه يذهب إليه أستاذ الشريعة الإسلامية والفقه المقارن أحمد كريمة بالقول إنه لا يجوز التبرع بالأعضاء من أحياء إلى الأحياء أو من موتى إلى أحياء، وإن هذا ممنوع ومحرم ومخالف للشريعة الإسلامية.

وعلى رغم ذلك أجازت دار الإفتاء التبرع ولكن بقواعد وضمن قيود، لكن هناك من يعتبر ما ينطق به شيخ ما أقرب ما يكون إلى المقدس ولا مجال لاتباع عكسه.

 

 

المنديل أم صعود القمر؟

المثير أن أحاديث وفيديوهات وآراء الشيخ محمد متولي الشعراوي، الملقب بـ"إمام الدعاة"، وعلى سبيل المثال لا الحصر، قال إن من اخترع المناشف الورقية (منديل الزكام) ومن اخترع رغيف العيش أفضل ممن صعد إلى القمر.

كما ربط الشعراوي بين شرب الماء والامتناع عن المعاصي، فقال إن على من يريد أن يمنع نفسه عن المعاصي أن يشرب الماء على ثلاث مرات وفي كل مرة يبدأ الرشفة بقول "بسم الله" ثم ينهيها بـ"الحمد لله"، وإن فعل ذلك فلن تحدثه نفسه بارتكاب معصية أبداً ما دام هذا الماء في جسده!

الهوى الديني

الهوى الديني في عدد من المجتمعات أمر شخصي. يراه بعضهم طيباً، ويخشى الآخر من أن زيادته على الحد وطغيانه على الأجواء قد يلحق الضرر بها، حتى لو عن غير قصد. وعلى رغم التأكيدات المعاصرة للمؤسسات الدينية ورجالاتها على أن العلم والدين وجهان لعملة واحدة وأن الدين يشجع ويدعم ويطالب بالبحث العلمي، إلا أن تشجيع اليوم لأسباب سياسية أو لإيمان حقيقي بين علماء الدين بأهمية العلم مثلاً قد يتحول تحذيراً أو ترويعاً أو تقبيحاً للبحث العلمي غداً في حال تغيرت الوجوه وتبدلت الأوضاع.

 

 

يقول خبير الدراسات السكانية والمهتم بشؤون البحث العلمي أيمن زهري إن "العلم شيء والدين شيء آخر مغاير تماماً، حتى إن تطابقت الرؤى في بعض المواضيع. العلم عمل تجريبي بحت ينطلق من الشك وإعمال العقل والمعايير البحثية التجريبية التطبيقية ولا مجال فيه للهوى. أما الدين فإيمان بالغيبيات وهو جزء لا يتجزأ من الدين (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ)، لذلك أتعجب من منح رجال الدين درجات علمية بحثية كالماجستير والدكتوراه إذ إن أبحاثهم لا تتجاوز مؤلفات تصنيفية أو دراسات مقارنة لا يمكن توقع فرضيات علمية قبل إجرائها، ثم البحث لإثباتها أو نفيها".

خسارة الدين والعلم

ويرى زهري أن الدين خسر كثيراً وأن رجال الدين خسروا أكثر بمحاولة "حشر أنوفهم" في نتائج البحث العلمي ونسب كل الإنجازات العلمية للدين ومحاولة ليّ عنق النصوص الدينية المقدسة وتطويعها لتفسير أمور عالمية أو علمانية أو مدنية بحتة تخضع للتجربة والقبول والرفض وتتغير مع تغير الزمن. الخاسر هو العلم والدين معاً.

وفي حال ثبتت الخسارة فعلاً، هل يمكن علاجها؟ يقول زهري "أعلم أنه من الصعب في المجتمعات التي أصابها التطرف الديني وتغلغل في عقلها التفسير المتشدد للنصوص المقدسة والتي لا ترى أي مجال للبحث خارج نطاق هذه النصوص التي تعتبرها كافية لحاجات كل مسلم أن تتغير. لكن المؤكد أنه كلما انتشر هذا الإصرار على تدخل الدين في العلم، اتسعت الهوة بين المنهجين المختلفين وكلما كان التصادم بينهما حتمياً".

البحث العلمي وروح العلم في العالم العربي في مفترق طرق. ومكانة البحث العلمي ليست في أفضل حالاتها. وإذا كانت الغالبية المطلقة من الجامعات العربية ومراكزها البحثية تفاخر بعدد البحوث التي يتم نشرها في دوريات علمية مختلفة، فإن العبرة بخواتيم البحوث ألا وهي الاكتشافات والابتكارات وليس التفرغ للتنقيب عن الاكتشاف الذي توصل إليه آخرون في الكتب المقدسة أو تفسيره في ضوء الدين.  

تعارض وتكامل وضوابط

كثيرون يؤمنون بأن الدين والعلم لا يتعارضان، لكنهما في الوقت نفسه لا يمتزجان لأن كلاً منهما يختلف عن الآخر. الإمام والخطيب في وزارة الأوقاف نشأت زارع يقول لنا، "كثيراً ما يجري تحييد آراء الفقهاء للمصلحة العامة. فمثلاً فقهاء كثيرون يقرون ختان الإناث وهو ما يصطدم مع العلم، لذا تم تحييد آرائهم وفتاواهم لمصلحة الفتيات. وكذلك زواج القاصرات وهو معترف به فقهياً، لكن غير معترف به إنسانياً وطبياً وعلمياً، فتم تحييد آراء الفقهاء وتفسيراتهم للمصلحة العامة. وهذا يحدث في قضايا عدة شرط عدم الوقوع في قضايا أخلاقية".

يضيف زارع أن على اللجان والآراء الدينية التي تجد نفسها ضالعة في القضايا العلمية أن تدعم القضايا والمواضيع النافعة للبشرية حتى تخرج إلى النور لتنفع الجميع.

ويشير إلى وجود "قضايا وابتكارات علمية ضارة بالبشرية مثل أسلحة الدمار الشامل والأسلحة الكيماوية وغيرها مما يجب معارضته إنسانياً ودينياً، وذلك على العكس من القضايا والابتكارات ذات النفع العام مثل مكونات ثورة الاتصالات والبحوث العلمية التي تؤدي إلى زيادة الإنتاج وتنمية المجتمعات والذكاء الاصطناعي فالدين متصالح معها تماماً".

التصريحات الصادرة عن المؤسسات الدينية الرسمية وعلماء الدين وكذلك القائمين على أمر الجامعات والمراكز البحثية والباحثين تضمن استدامة الزواج الكاثوليكي بين البحث العلمي والدين، وهي كما في علاقات الزواج التقليدية، تقوم على أساس الراعي والرعية حيث الدين هو الراعي المسؤول عن صلاح الرعية وبينها البحث العلمي والباحثين وواجب الدين أن يرعى البحث العلمي ويراقبه ويرصده وينظمه ويتأكد من صلاحه ويسيطر على صلاحيته.

وفي حين تذهب تصريحات بعض المؤسسات الدينية والجامعية إلى أن العلاقة بين العلم والدين تقوم على أساس الراعي والرعية يرى آخرون أن الصراع بين الدين والعلم حكر على الغرب. وهذا يبدو صحيحاً، وهو صراع دارت رحاه في عصر النهضة، وتم حسمه بعد أعوام طويلة لمصلحة فصل كليهما عن الآخر. أما صراع العلم والدين في المنطقة العربية، فلم يحسم بعد لسبب بسيط، وهو أن الصراع لم يبدأ بالأساس، إذ إن النسبة الغالبة مرتاحة إلى تدخل هذا في ذاك وسطوة ذاك على هذا.

المزيد من تحقيقات ومطولات