Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محطات الوقود وتحت الجسر.. نزهات مستحدثة في مصر

تعتمد على زبون الطوارئ وتحذيرات من عدم التزام معايير السلامة والانفصال عن حاجات المواطنين الملحة

تحولت محطات الوقود وتحت الجسور في عدد من المناطق بمصر إلى ما يشبه المول التجاري (مواقع التواصل)

ملخص

إلى أي مدى سدت تلك المشروعات فراغاً كان يحتاج إليه المواطن؟

ضجت وسائل التواصل الاجتماعي قبل أيام بواقعة جرت في شمال شرقي القاهرة تتعلق بـ"جزار المونوريل"، ليس فقط لغرابة تصرفه حين قام بتعليق اللحوم لبيعها أسفل كوبري قطار المونوريل الذي لا تزال مراحله قيد الإنشاء، ولكن نظراً إلى أن العقاب جاء رادعاً وسريعاً وغير مسبوق، حيث تكبد غرامة مالية تقدر بـ112 ألف جنيه (ما يعادل نحو 3700 دولار) بتهمة إتلاف الممتلكات العامة.

هذا المبلغ الباهظ كان يعبر ببساطة عن رسالة واضحة، وهي أنه لا تهاون على الإطلاق في ما يتعلق بإفساد خطط البناء، ولا عودة للوراء في ما يتعلق بسياسة التعامل مع مساحات الفراغ تحت الكباري بمصر. وقد تجلى هذا في الانتفاضة الواسعة التي ترتبت هذا التصرف خلال إجازة عيد الأضحى، إذ أصدرت الهيئة القومية للأنفاق أكثر من بيان يتضمن متابعة متواصلة وحثيثة لمجريات الحادثة، فبخلاف أن المتهم ورفاقه سيدفعون مبلغاً كبيراً عقاباً على الإتلاف والتعدي على الممتلكات العامة، هناك أيضاً شق جنائي، حيث تتولى النيابة التحقيق في الملابسات.

كل هذا مرتبط بالتغيير الهائل لما يحدث أسفل الكباري العلوية في البلاد، وبينها أعمدة قطار المونوريل التي تحولت تدريجاً إلى مساحة إعلانية مدفوعة الأجر، ولم يعلن حتى الآن هل سيتم الاكتفاء بذلك، أم ستدخل مستقبلاً في قائمة المنشآت التي تتحمل إنشاء مطاعم ومحال ترفيهية وصيدليات أسفلها، لتتحول بالتالي إلى مقصد للجلسات القصيرة بين الأصدقاء، مثل بعض محطات الوقود التي أصبحت نقطة تستقطب منشآت تجارية ضخمة وعلامات تجارية شهيرة لتنضم إلى قائمة نزهات المصريين المستحدثة.

40 ألف كوبري

بالعودة إلى واقعة أعمدة المونوريل، وهو قطار كهربائي أحادي الخط بنظام السكك الحديدية يهدف لربط القاهرة الكبرى بالمدن الجديدة، فقد تمت متابعها على أعلى مستوى بين جهات عدة، وبحسب بيان رسمي فقد جرى "التنسيق بين وزارة النقل وشرطة النقل والمواصلات، حيث قامت الشرطة بالقبض على الجزار مرتكب الواقعة لاتخاذ الإجراءات القانونية تجاهه".

سلوك التعدي واجه هجوماً واسعاً من رواد "السوشيال ميديا" الذين يرفضون عودة المظهر القديم لما تحت الكباري العلوية، والذي كان شديد السوء بالنسبة إلى جميع الفئات، بل وتحول بعضها إلى أوكار لمتعاطي المواد المخدرة واللصوص والقمامة ومكان لتجمع عصابات أطفال الشوارع، وفي حين تم رفض هذا التصرف العشوائي ببيع اللحوم من قبل جزار دون العودة لأية مؤسسة، فإن هناك تنسيقاً بين جهات رسمية عدة لبيع اللحوم أيضاً أسفل بعض الكباري الرئيسة، ولكن تحت مظلة الخضوع لإشراف مؤسسات عدة بينها وزارة الداخلية، فتلك المنافذ مرخصة وتلتزم سياراتها المجهزة الشروط المتفق عليها.

تمتلك البلاد بطولها وعرضها نحو 40 ألف كوبري، بحسب إحصائية أصدرها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء قبل عامين، وكل هذا العدد من الكباري يجري استغلال أسفله في ما يسمى "الأكشاك الحضارية"، وعلى ما يبدو فقد تم التركيز على وصف "حضارية" للتذكير بمظهر هذه المساحات قبل تلك الخطط والمشروعات، فقد ظلت على مدى عقود مستغلة عن غير وجه حق من قبل فئة جعلتها رمزاً للرعب والأهوال وعدم النظافة.

وبحسب المعلن فتلك الأراضي التي لم يعد كثير منها فارغاً، إذ يقدر عدد المحال المجهزة بنحو 15 ألفاً تتبع الجهاز الإداري لكل محافظة، وتطرح على الملأ لتكون ضمن الاستثمارات التي تسهم في تحسين المنظر، وأيضاً خلق فرص عمل، والملاحظ أن معظمها يندرج تحت بند المطاعم والكافيهات.

بالحديث مع أحدث المستأجرين في أحد أحياء مدينة الجيزة أشار إلى أن قيمة الإيجار الشهري تتحدد بحسب المساحة، وبالنسبة إليه فهو يدفع ما يعادل نحو ألف دولار، وهو مبلغ ليس بقليل على مساحة صغيرة تقع أسفل كوبري وتطل على زحام السيارات عادة ومشاحنات السائقين، والأمر لا يخلو كذلك من روائح العوادم.

من يعشق الضجيج؟

لكن هل يصلح تناول الطعام والمشروبات في هذه الأماكن؟ وما الذي يجعل الجمهور يترك المطاعم التقليدية والمقاهي التي تتخذ أماكنها بعيداً من الضجيج والعوادم ليجلس أسفل كوبري؟

يوضح المتخصص في مجال العمارة والتخطيط العمراني إسلام رأفت في البداية أبعاد تلك المساحة الواقعة أسفل الكباري، معرفاً إياها بأنها عبارة عن فراغ بيني، أي قطعة أرض تعد جزءاً من الشارع، ولكنها ليست واقعة فيه، وهي من دون جدران، وفي الوقت نفسه لها سقف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وحول تقييمه للتجربة التي لا تزال في بدايتها، أشار إلى أنه لا يمكن إنكار أن هناك تغييراً إيجابياً للشكل العمراني بعد استغلال تلك المساحات بالقدر الذي أزال عنها صفة العشوائية، حيث كانت المظاهر تحت الكباري لا تسر أبداً، لكنه يؤكد أن العبرة في الاستمرارية والنجاح هي في مدى ملاءمة طبيعة النشاط للسكان المحيطين به، مشيراً إلى أن هناك تنوعاً في المشروعات الواقعة في هذا الفراغ الذي تحول إلى أكشاك ومحال ترفيهية أو تجارية أو خدمية.

ويشدد رأفت على أن فكرة تحويل مساحات من هذا الفراغ لأماكن انتظار سيارات تعد ناجحة للغاية نظراً إلى الحاجة الشديدة لتلك الخدمة بشكل مقنن. ودعا إلى دراسة حاجات كل منطقة وتشييد المحال بناءً على ذلك لضمان تحقيق الاستفادة القصوى، مشيراً إلى أنه ليس من العيب إقامة مراجعات كل فترة واستبدال خدمات ضعيفة الإقبال بأخرى تلبي تطلعات المواطنين، كما دعا إلى استغلال قطع الأرض هذه وتحويلها إلى خدمة توافق حاجة السكان، فإذا كانت المنطقة تضج بمحال الأكل والمقاهي فمن غير الطبيعي أن يترك المواطن هذه المطاعم ويذهب للجلوس هناك، و"من سيذهب لتناول فنجان قهوته الصباحي في قلب الصخب وأصوات أبواق السيارات هو المضطر إلى ذلك لأنه لم يجد تلك الخدمة حوله في مكان اعتيادي، وفي هذه الحال سيكون هذا المقهى المستحدث قد سد بالفعل نقصاً يعانيه المترددون على المكان"، لكن قد يكون الإقبال من باب تجربة شيء مختلف، وأيضاً لتمتع تلك المساحات بتنسيق جاذب للنظر، إذ يعتبر ماهر سالم، الذي يعمل من بعد في إحدى مؤسسات التعليم والنشر، أن جلسته اليومية في مقهى من مقاهي "تحت الكوبري" فرصة للتغيير، فعلى رغم أن هناك انتشاراً لمقاهٍ كثيرة حوله، فإنه يفضل تلك الجلسة لأنه يهوى مشاهدة حركة الشارع، كما أن هناك هدوءاً نسبياً على عكس المتوقع يوفره الزجاج العازل، إضافة إلى أنه يفضل الجلوس في مكان لا يتمتع بشعبية كبيرة وبعيداً من زحام الزبائن، وأيضاً لضمان مستوى الخدمة، ويعتبر أن أسعار المقهى لا تختلف كثيراً عن نظيرتها خارج تلك المساحة، بل قد تكون أقل.

حق المواطن

لكن، ألم يكن من الأفضل أن تكون الأسعار تنافسية حتى تجذب جمهوراً أكبر؟ هذا السؤال تجيب عنه أسعار الإيجارات التي تبدو قريبة جداً من نظيرتها في المقاهي الاعتيادية، إذ تتراوح بين 800 و2000 دولار للمناطق الأكثر إقبالاً وتميزاً، إذاً فكيف يمكن تصنيف وتقييم هذا النوع من الاقتصاد؟ وهل سيعود بالنفع بالفعل على الجهات القائمة عليه والمستأجرين؟

يعتقد المتخصص في الأسواق المالية والشأن الاقتصادي وائل النحاس أن من الصعب للغاية أن نصل إلى نسب وأرقام محددة ورؤية اقتصادية شاملة حول تلك المشروعات، مضيفاً "في الأقل يجب الانتظار 20 عاماً حتى يتسنى للمتخصصين تقييم التجربة التي يمكن أن تكون ناجحة ويسهم العائد منها بالفعل في تغطية بعض الكلف الإنشائية لتلك الكباري".

ودعا النحاس أيضاً إلى ضرورة الاستفادة من الأخطاء وتعديلها بأسرع وقت، كي لا يتم إهدار تلك المساحات على مشروعات غير ذات جدوى ولا تلائم البيئة المحيطة بها، فالأمر مرتبط بمدى توافر السلعة أو الخدمة حول الكوبري، فكلما عالج هذا المشروع الجديد نقصاً ارتفعت عوامل نجاحه.

الطفرة التي حدثت في ما يتعلق ببعض الأماكن غير المعتادة التي تتحول شيئاً فشيئاً إلى أماكن جذب تبدو مقدرة للغاية ومرحباً بها، بخاصة أن هناك مناطق عدة لم تكن مخططة في الماضي بشكل جيد، وما يحدث الآن هو إعادة تنسيقها بالقدر المتاح، كما أن من الذكاء استغلال قطع الأراضي الفارغة بما يدر عائداً معقولاً، ولكن من الضروري أيضاً مراعاة ترك مساحة فارغة بلا مقابل، هو أمر ينادي به كثيرون، نظراً إلى حق المواطن غير القادر على الدفع في أن يكون له نصيب من المساحة العامة، وهو ما ينادي به المتخصص في التخطيط العمراني إسلام رأفت، مشيراً إلى أنه لا ينبغي النظر إلى كل تفصيلة في تلك المشروعات من منظور تجاري بحت، بل يمكن ترك بعض الفراغات لتصبح مساحة خضراء بلا أسوار أو حتى متنزه مجاني.

زبون الطوارئ

من الجانب المجتمعي تروق هذه التجربة للبعض، ولكنها مرفوضة من الأساس لدى آخرين، منهم ندا راضي التي تعمل في مجال التسويق للأدوية، وهي تشير إلى أنها لم ترغب أبداً في الجلوس على أحد تلك المقاهي يوماً، لأنها تريد مكاناً هادئاً بعد يوم عمل شاق، ولا ترغب بأن تجد نفسها في قلب الشارع وضجيجه، بالتالي من غير الملائم لها أن تكون جلستها أسفل الكوبري حتى لو كان المقهى أنيقاً.

مع ذلك اضطرت ندا إلى خوض تلك التجربة، إذ تقول "بحكم مهنتي أذهب من شارع إلى آخر، ومن حي إلى غيره، وقد لا تتوافر في تلك المناطق دورات مياه عمومية ملائمة، لكن بوجود مقهى أسفل الكوبري يمكن دوماً الدخول واستعمال دورة المياه، وهذه بالنسبة إلى ميزة أساسية لتلك المشروعات، حتى لو كانت مكاناً غير مناسب للجلوس".

ما قالته ندا يؤكد أن اعتماد هذه المقاهي يكون عادة على زبون الطوارئ بتقديم خدمة سريعة للمارة، وهو أمر ليس سيئاً، ولكن بحسب آراء المتخصصين فإن الأكثر استمرارية هو اختيار نوع الخدمة، سواء كان مقهى أو مطعماً أو صيدلية أو سوبر ماركت، أو غيره، وفقاً لما تفتقده المنطقة، ومع ذلك أكد أكثر من عامل في تلك الأماكن أن هناك حال رواج معقولة، لافتين إلى أن أسعار الخدمات لا يمكن تصنيفها على أنها رخيصة، ولكنها أيضاً أقل بعض الشيء من مثيلتها في محال منافسة، كما أن رواتب العمال أيضاً أقل.

بالعودة إلى الزبون العابر فقد تحققت الفكرة من قبل وأثبتت نجاحها، بخاصة في ما يتعلق بالمقاهي الملحقة بمحطات الوقود، حيث كانت مواقعها مختارة بعناية لتقديم المشروبات والمأكولات السريعة، وكذلك دورات المياه، لكن الأمر أصبح له وجه آخر تزامناً مع فترة حظر فيروس كورونا.

يقول علي عمرو، الذي يعمل في مجال الهندسة الكهربائية، إن محطات البنزين كانت المكان الوحيد المفتوح في الليل والنهار ولا تنطبق عليها قواعد الإغلاق المبكر، متابعاً "كنت أقابل أصدقائي هناك للاستفادة من تلك الميزات، وكنا نلتزم ظاهرياً بارتداء الكمامات ونشتري بعض المشروبات ونجلس في سياراتنا، أو حتى نقف داخل المتجر الملحق بالمحطة، وفيما بعد وجدنا أن تلك النزهة السريعة تلائمنا، سواء في ما يتعلق بالأسعار أو عدم التكلف، وكذلك يمكننا من خلال متجر البنزينة شراء السجائر بسعرها العادل من دون زيادات، حيث إن الرقابة على الأسعار تكون صارمة هناك بعكس باقي الأكشاك الموزعة في الشوارع".

لقاء في البنزينة

لا يتضايق هذا الشاب وأصدقاؤه من روائح العوادم أو وقود السيارات، ولا يجدونها مؤثرة في مدى استمتاعهم بالصحبة والتسامر، ومثلهم كثيرون يمكن مشاهدتهم حول محطات الوقود التي تحولت في عدد من المناطق إلى ما يشبه المول التجاري، حيث تتمحور حولها محال ما بين مطاعم ومقاهٍ ومراكز تجارية لبيع مستلزمات المنزل ولعب الأطفال ومساحيق التجميل.

المول الذي لا تحده أسوار يقع هنا في قلب الشارع تماماً ويقدم سلعاً متنوعة ومتباينة، فأذواق الجمهور متباينة وما لا يلائم البعض يعد مثالياً للآخرين، لذا ينبغي التركيز على نقاط أخرى متعلقة بهذا الجيل الجديد.

يشدد المتخصص في الأسواق المالية وائل النحاس على أن هناك بعض عوامل الخطر التي ينبغي الانتباه لها، بخاصة في ما يتعلق بالمقاهي التي تسمح بالتدخين وتقع بالقرب من محطات الوقود، كما ينبغي أيضاً الاهتمام بعزل المقاهي الواقعة أسفل الكباري، حيث إن بعضها ظهرت به تسريبات من مياه الأمطار التي تعرضت لها القاهرة في الشتاء الماضي.

أما المتخصص في مجال العمارة والتخطيط العمراني إسلام رأفت فيرى أن معايير السلامة ينبغي أن تكون مضاعفة في منافذ البيع المحيطة بمحطات الوقود على وجه التحديد، وأن يتم الابتعاد عن المواد الخشبية قدر الإمكان في تنفيذها، لأن معاملات انتقال الحرائق هناك تكون أكبر بكثير. واللافت أن هناك إقبالاً كبيراً على تلك الجلسات على رغم أن عدداً منها لا يتضمن أماكن انتظار سيارات، بل يقع في مناطق مزدحمة ومتخمة تماماً بالمحال بمختلف أنواعها، ومع ذلك تستهوي تلك المراكز التجارية والمنافذ الزبائن من مختلف الفئات.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات