ملخص
أطلق بريكست مارد التضخم في بريطانيا التي باتت تعاني تدهوراً اقتصادياً يفوق ما تشهده دول أوروبا.
وصلتنا جميعاً في الأيام الأخيرة أخبار سيئة كثيرة تخصّ معدلات الرهون العقارية، لكن الوضع سوف يسوء كثيراً قبل أن يعود إلى التحسّن.
فلنستخدم المصطلحات التقنية الاقتصادية، لنشير إلى الوضع المزري لمعدلات التضخم الأخيرة في المملكة المتحدة. فبدل أن يتراجع التضخم بسرعة باتجاه تحقيق الهدف الذي حددته الحكومة عند 5 أو 6 في المئة مع حلول نهاية العام، ولنتحاشى الحديث عن هدف "بنك إنجلترا" المركزي بتثبيته عند 2 في المئة على المدى المتوسط، انتقل التضخم من كونه معقداً وثابتاً ليصبح عالقاً عند 8.7 في المئة سنوياً.
من المحتم أن كثيرين شعروا بالإحباط والقلق حينما اطّلعت الخزانة والبنك المركزي على الأرقام. إذ تواصل الأسعار الارتفاع بسرعة، فيما يقارب التضخم الـ20 في المئة، وهذا النوع من الغلاء لا يتذكره الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن الستين. لا شك في أن هذه الحالة مقلقة بالنسبة لمن لم يعشها من قبل، لكنها مرعبة بالنسبة لمن اختبروها من قبل، ويعانون منها من جديد الآن.
إذ يعلّمنا التاريخ أنّ ضبط التضخم ترافقه آلام تفوق ما يتوقعه الجميع، ويستغرق وقتاً أطول من التوقعات كلها. إنه وحش يغذي نفسه بنفسه، ويقضي على المدخرات ويشوّه [يقوض] الاقتصاد ويجعل البلاد أشد فقراً. وإذ لا تعرف الأسواق كيف تحدد الأسعار، فلا عجب بالتالي أن ترتفع معدلات الرهون ارتفاعاً صاروخياً.
نستطيع إلقاء اللوم على "بنك إنجلترا" أو الخلل الذي حدث بعد الجائحة أو حرب بوتين في أوكرانيا أو ريشي سوناك. لقد أدى كلٌّ من تلك العوامل دوراً في توليفة المشكلة التي وقعنا فيها. وكذلك يمثّل بريكست عاملاً سيئاً، مهما خالفت تلك الكلمات الذائقة الشعبية، ويشكل أيضاً محنة خاصة ببريطانيا.
والآن، بات باستطاعتنا بوضوح رؤية أنّ معدلات التضخم في المملكة المتحدة أعلى من الاقتصادات المماثلة لها، بل بات ذلك حالنا منذ بعض الوقت. ووفقاً لحسابات كاثرين مان، الخبيرة الاقتصادية البارزة التي تشارك كعضو مستقل في لجنة "بنك إنجلترا" المعنية بالسياسة المالية، فقد أسفر بريكست عن رفع الأسعار بـ4 في المئة أكثر مما يفترض أن تكونه، بالمقارنة مع اقتصادات شبيهة ببريطانيا، وذلك بفضل الآثار التراكمية لقرار استفتاء 2016 على عضوية الاتحاد الأوروبي، ولأسباب ليس أقلّها أنّه "ما من بلد آخر اختار أن يفرض من تلقاء نفسه حواجز جمركية على أقرب شركائه التجاريين".
وعلى نحوٍ منطقي، أدّى الخلل اللاحق بسلاسل التوريد من وإلى الاتحاد الأوروبي، إلى مفاقمة الإجراءات البيروقراطية وفترات التأخير والتكاليف. كذلك أثّر بريكست على سهولة التدفق الدائم للمهارات الضرورية ومختلف أنواع العاملين بموجب نظام حرية الحركة القديم. ويرجع ذلك إلى أن بريكست استبدل نظام السوق الحرة المرن [في الاتحاد الأوروبي] بنظام بطيء وعشوائي ومسيّس مستند إلى النقاط. وفي المقابل، يختار عدد أكبر من الأشخاص أن يتقاعدوا مبكراً، ويعاني مزيد من الأشخاص أمراضاً مزمنة بسبب آثار كوفيد الطويلة الأمد.
وتتضافر هذه العوامل لتخلق نقصاً في اليد العاملة وترفع الأجور (وبالتالي تكاليف الأعمال)، وقد انتقلت [تلك العوامل] إلى مجالات أخرى. وأدت تلك الأمور إلى نوع من تقليص الأرباح (بالنسبة إلى الاستثمارات). لا يمكن للاقتصاد أن ينمو إذا افتقر إلى اليد العاملة.
وبعد محاولة الحفاظ على المستويات المعيشية والأجور في ظل تراجع قدرة الاقتصاد على توفير السلع والخدمات (بسبب نقص اليد العاملة)، أصبح التضخم أمراً محتوماً. وليس استخدام معدلات الفائدة ورفع الضرائب أفضل السبل لتقليصه، لكنها تمثّل السبل الوحيدة التي تملكها السلطات، إلا إذا ارتفعت معدلات الهجرة بشكل كبير.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في فبراير (شباط) 2023، طَرَحَتْ مان السؤال التالي "هل تظهر نقطة تحوّل في البيانات؟ نعم، بالنسبة إلى الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، أما بالنسبة إلى المملكة المتحدة، فلربما استمرت على حالها".
لقد كانت مان متفائلة. إذ يمثل ما يُسمّى بـ"التضخم الأساسي" أحد الأرقام الأشد إثارة للكآبة. إذ لا يأخذ ذلك الرقم في الاعتبار العناصر الأكثر تقلباً مثل أسعار السلع الغذائية والطاقة، ومن المفترض أنه يعطي إشارة مشجعة بأكثر مما تفعله المعدلات الكلية للتضخم. لكن، في الوقت الحالي، يسير ذلك الأمر في الاتجاه المعاكس. ويقدّم ذلك دليلاً فعلياً على نسبة التضخم "النابعة من الداخل"، التي تتلخّص إجمالاً بتكاليف الأجور ونقص اليد العاملة، وقد فاقم بريكست تلك المعطيات كلها.
واستطراداً، ارتفع معدل التضخم الأساسي على نحو يصعب تحمّله، وبات يسجلّ 7.1 في المئة، ويزداد بوتيرة متسارعة. تُستخدم توقعات معدلات التضخم حالياً في المفاوضات لزيادة الأجور [بين الحكومة والموظفين والعاملين]، على غرار ما نراه من خلال موجة الاعتصامات الراهنة. وحتى في هذه المرحلة للأسف، تستسهل المتاجر، كذلك المورّدين، تحميل الأسعار كل تلك الزيادة في التكاليف.
واستكمالاً، عادت دوامة الأجور والأسعار المخيفة [ارتفاع الأسعار يليه زيادة الأجور ثم ارتفاع الأسعار وهكذا دواليك] التي اعتقدنا أننا خلّصنا الاقتصاد منها في أوائل التسعينيات من القرن العشرين. وما يزيد الأمر سوءاً أنّ سوناك أضاف هدفاً سياسياً ثانياً لا داعي له وغير رسمي للتضخم، قد يجعل البنك المركزي يخاف لا شعورياً، ويرفع معدلات الفائدة، ما يهدد بانهيار سوق الإسكان وركود على نطاق أوسع.
إذا أسعفتني الذاكرة، فسوف يتطلب الأمر معدلات أعلى بكثير من تلك التي تُحتسب الآن من أجل إخراج التضخم من النظام الاقتصادي لأن أثرها مركّز جداً الآن على شريحة سكانية ضئيلة.
وبالاستعادة، ففي أوائل ثمانينيات القرن العشرين وتسعينياته، كانت الرهونات العقارية التي تتضمن أسعار الفائدة المتغيرة، أصغر حجماً مما هي عليه الآن، بل توزّعت آنذاك على السكان بشكل أوسع. وحاضراً، تدنّى عدد الأشخاص الذين لديهم رهن عقاري، بينما ارتفعت في صفوفهم نسبة من يحوزون رهونات عقارية بمعدلات فائدة ثابتة.
في سياق متصل، إن المقترضين في لندن والجنوب الشرقي ومناطق ثرية أخرى تبلغ قيمة العقارات فيها مستويات خيالية، ولا سيما من يحاولون إعادة رهن منازلهم تحت ضغط قروض سكنية ضخمة، يجدون أنفسهم أمام فواتير إضافية تبلغ قيمتها آلاف الجنيهات سنوياً. وتتشكل تلك الشريحة غالباً من أُسر أفرادها في الثلاثينيات من العمر، وسوف يتحملون الوزر الأكبر في محاربة التضخم. وبالنسبة إليهم، فقد يعانون ألماً لا يطاق.
© The Independent