Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حصاد الغرقى المتعاظم... عندما يصبح البحر درب الناجين وقبر المفقودين

71 ألف مهاجر وصلوا إلى سواحل أوروبا منذ مطلع العام الحالي والموتى أضعاف بعمق البحر

أكثر من 71 ألف مهاجر وصلوا إلى إيطاليا وإسبانيا واليونان ومالطا وقبرص عبر البحر المتوسط منذ بداية العام (أ ف ب)

ملخص

عادت مراكب المتوسط تتصدر نشرات الأخبار لحصاد القتلى وتقدير أعداد الناجين في ضوء المتاح من معلومات مصادرها أهل وأقارب، ومعاييرها "تقريباً" و"نحو"، مع كثير من تبادل اللوم وقليل من درء أخطار المستقبل وإنقاذ أرواح مهاجري الغد.

عادت مراكب المتوسط تتصدر نشرات الأخبار لحصاد القتلى وتقدير أعداد الناجين في ضوء المتاح من معلومات مصادرها أهل وأقارب، ومعاييرها "تقريباً" و"نحو"، مع كثير من تبادل اللوم وقليل من درء أخطار المستقبل وإنقاذ أرواح مهاجري الغد ومنهم أطفال لم يولدوا بعد.

من سبقوهم في الخروج إلى النور يحكون قصصاً وحكايات، بعضهم يحكيها أهل مكلومون أو رفاق طريق ممن كتبت لهم النجاة من لحظة التعاقد مع سماسرة الأحلام إلى لحظة غرق "الجمل بما حمل" في عرض البحر الأبيض.

حال المتوسط

حال عرض المتوسط حتى منتصف الشهر الجاري، بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يقول إن مجموع من وصل شمال البحر المتوسط قادمين من جنوبه نحو 73 ألف شخص، أكثر من 71 ألفاً وصلوا بحراً إلى إيطاليا وإسبانيا واليونان ومالطا وقبرص، وذلك منذ مطلع العام، في حين بلغ عدد القادمين من الجنوب إلى الشمال العام الماضي نحو 159 ألفاً، وفي عام 2021 كانوا 123 ألفاً. أما القتلى والمفقودون فقدرت أعدادهم بنحو 2500 شخص في 2022 و3231 في عام 2021.

قبل أسابيع قليلة خرجت "منظمة الهجرة الدولية" لتحذر من أن الربع الأول من العام الحالي كان "الأكثر دموية" لمهاجري البحر المتوسط، وذلك منذ بدأت المنظمة تحشد الاهتمام والدعم العالميين للالتفات إلى كارثة "مراكب الهجرة قبل نحو ستة أعوام".

الكارثة أقدم من ذلك بكثير، فالهجرة عبر البحر المتوسط قديمة قدم التاريخ، لكن الهجرة عبر مراكب الصيد وغيرها من المراكب البدائية غير المخصصة لعبور البحار محملة بأعداد غفيرة من البشر، والتي يصفونها بـ"غير الشرعية" أو يفضلونها "غير نظامية" أو "غير موثقة"، يمكن تأريخها على مدى العقود الخمسة الماضية.

الدراسة الصادرة عن "منظمة الهجرة الدولية" في عام 2017 تحت عنوان "أربعة عقود من الهجرة غير الموثقة عبر المتوسط إلى أوروبا" تشير إلى أن منطقة المتوسط شهدت عبور ما يزيد على 2.5 مليون شخص من جنوب المتوسط إلى شماله بين السبعينيات وعام 2016، وهو العدد الذي قفز قفزات كبيرة في السنوات القليلة الماضية مع تصاعد أحداث وحوادث جنوب المتوسط الطاردة للمهاجرين من الجنوب صوب الشمال.

المسار القاتل

ويكفي أن ما يزيد على 26 ألف شخص لقوا حتفهم أثناء محاولة العبور منذ عام 2014، أغلبهم على طول طريق البحر الأبيض المتوسط الوسطي، المصنف "أكثر مسارات الهجرة فتكاً في العالم".

قبل ساعات، فتك المتوسط بالعشرات، وفي أقوال أخرى بالمئات، الأعداد الفعلية وكذلك التقريبية تبقى حبيسة طرفين لا ثالث لهما: الضحايا (سواء كانوا موتى أو مفقودين أو بقوا على قيد الحياة) وسماسرة التهريب أي العصابات.

السلطات اليونانية انتشلت 79 جثماناً قبالة شبه جزيرة بيلوبونيز وهي إحدى أكثر مناطق المتوسط عمقاً، والحصيلة مرشحة للزيادة، وفي حال لم يرتفع الرقم فإن عدد المفقودين سيرتفع، أما الناجون فعددهم 104 أشخاص، وهو العدد الوحيد المؤكد لأنهم أحياء يرزقون في أحد المرافئ اليونانية.

المعلومات الأولية - لكن غير مؤكدة - تشير إلى أن مئات الأشخاص نحو 750 شخصاً بينهم نساء وأطفال إضافة إلى الرجال استقلوا قارب صيد يبلغ طوله بين 25 و30 متراً من طبرق الليبية، على أمل التوجه إلى إيطاليا في إحدى رحلات "الهجرة" التي تعاود الزيادة هذه الآونة بعد أشهر من الخفوت.

رفض المساعدة

المركب المكدس بحمولته البشرية بدأ يتعرض لمصاعب في عرض البحر بعد ظهر الثلاثاء الماضي، وإحدى الطائرات التابعة لـ"وكالة مراقبة الحدود الأوروبية" (فرونتكس) رصدت القارب وتعطله، وأكدت السلطات اليونانية أن "المهاجرين" رفضوا المساعدة.

البعض يتعجب لهذا الرفض، لكن العالمين ببواطن "مراكب المتوسط" يعرفون أنه حتى وقت قريب، حين كانت الوجهة إيطاليا، فإن تغييرها أو تقديم المساعدة حتى في حالة الغرق دونها الرقاب، وظلت القوانين الإيطالية في شأن الهجرة وكذلك تعامل السلطات مع المهاجرين "الأكثر ليونة" بين دول المقصد، كما تظل معدلات تقنين أوضاع العمال المهاجرين غير النظاميين الأعلى بين أقرانها الأوروبيين، حتى وإن كانت منخفضة.

 

 

رفض المهاجرون المساعدة وفي الساعات الأولى من صباح اليوم التالي، غرق المركب بمن عليه، وكان على بعد نحو 80 كيلومتراً من مدينة بيلوس الساحلية جنوب اليونان، وعمليات إنقاذ ما يمكن إنقاذه جرت على قدم وساق عبر دوريات ومروحيات وسفن يونانية واصلت البحث، لكن آمال العثور على مزيد من الأحياء شبه معدومة.

السلطات اليونانية تقدر عدد المفقودين بنحو 200، لكن تظل كلمة "نحو" التقريبية سيدة الموقف في مثل هذه الأحوال، وتقول ناطقة باسم سلطات الموانئ اليونانية "لن نكون متأكدين أبداً من العدد الحقيقي".

القاع المبهم

العدد الحقيقي يظل سراً لا تعرفه إلا أعماق المتوسط، وهو ليس السر الوحيد، فهذا العام وحده الذي لم يمض منه سوى ستة أشهر، بلغ عدد المفقودين في عرض البحر المتوسط 1037 شخصاً، وفي كل عام لا يقل عددهم عن بضعة آلاف تتراوح بين 1500 وثلاثة آلاف، وإن كان عام 2016 سجل عدداً قياسياً للمفقودين ألا وهو 5096 مفقوداً.

في أبريل (نيسان) الماضي، أعرب مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان فولكر تورك عن قلقه البالغ حيال الأوضاع المحفوفة بالمخاطر التي تواجه طالبي اللجوء والمهاجرين الذين يحاولون عبور وسط البحر الأبيض، مطالباً ببذل جهود متضافرة لضمان إنقاذهم السريع ومعالجة طلباتهم في أماكن آمنة وبشكل كريم وفعال وشامل. ووصف من ينتهجون المسار الأكثر خطورة، ألا وهو وسط المتوسط، بـ"الأشخاص اليائسين الذين يعرضون حياتهم لخطر جسيم".

عام مشتعل

الخطر الجسيم الذي تترجمه معدلات وأرقام مفزعة منذ بداية العام الحالي، والذي أظهر وجهاً بالغ القبح بحادثة الغرق التي وقعت الأربعاء الماضي ينبئ بأن 2023 لن يكون عاماً هادئاً بل مشتعلاً في ما يختص بمراكب الموت التي تمخر عباب المتوسط، ففي الربع الأول من العام، أي قبل وقوع هذه الحادثة وغيرها في الأسابيع الماضية، كان الأكثر تسجيلاً للوفيات منذ ستة أعوام، بحسب المنظمة الدولية للهجرة، كما أن عدد من وصلوا عبر المتوسط إلى الشواطئ الأوروبية وعلى رأسها إيطاليا بلغ 28 ألف شخص، وهو ثلاثة أضعاف العدد المسجل في الفترة نفسها من العام الماضي.

ويبدو أن المفقودين في الحادثة الأخيرة بينهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال، والناجون الذين سمحت حالاتهم الصحية والنفسية بالحديث قالوا إن القارب كان به عدد كبير من الصغار والنسوة، لكن جميع الناجين رجال 47 منهم سوريون، و43 مصريون إضافة إلى 12 باكستانياً وفلسطينيين اثنين.

أوضاع متشابهة

اختلفت الجنسيات وتراوحت المصائر لكن تبقى الدوافع المتسببة في اتخاذ قرار الهجرة، وبمعنى أدق الانتحار المحتمل أو شديد الاحتمال، متشابهة، بين أوضاع معيشية صعبة وتطلعات لا يقيدها إلا اليأس والإحباط وضغوط نفسية بسبب صعوبات المعيشة والبطالة وفقدان أمل في غد أفضل أو ربما تعجل الغد الأفضل في مكان آخر، والقائمة تطول لكنها تتشابه.

سوريا تحتل المرتبة الرابعة في قائمة الجنسيات الأكثر ارتياداً لمغامرة عبور المتوسط، وتضع قائمة 2023 تونس في مرتبة الصدارة للأكثر وصولاً إلى أوروبا بحراً وبراً منذ 2021 وحتى يوم 11 يونيو (حزيران) الجاري، فنحو 37 ألف تونسي وصلوا أوروبا مشكلين 20 في المئة من مجموع "المهاجرين"، يليهم المصريون وعددهم نحو 35 ألفاً بنسبة 18.7 في المئة من المجموع، ثم بنغلاديش تلتها سوريا بـ17.8 في المئة، فيما كانت ساحل العاج 17.6 في المئة، وأفغانستان 13.6 في المئة، ثم غينيا بنسبة 13.4 في المئة، إضافة إلى باكستان بنحو 9.4 في المئة وإريتريا 6.6 في المئة، وجنسيات أخرى بنسبة 9.1 في المئة.

الصدارة ليبية

واقع الحال يشير إلى أن كلاً من تونس وليبيا هما نقطتا الانطلاق الرئيستان من جنوب المتوسط صوب شماله، لكن الصدارة للسواحل الليبية، فلا تمر بضعة أسابيع من دون أن تتواتر أخبار من ليبيا عن إحباط محاولات تهريب مهاجرين أو ترحيل آخرين قدموا إليها بطريقة غير شرعية بغرض الهجرة على متن قوارب، لكن تظل الأعداد التي تكلل جهودها "غير الشرعية" بالنجاح، في الأقل حتى تصل إلى ركوب قارب صيد أو مركب مطاطي يفترض توجهه صوب السواحل الأوروبية أكبر.

منظمة "أطباء بلا حدود" تشير إلى "مستويات مروعة من العنف" تتعرض لها الغالبية العظمى ممن يحاولون عبور المتوسط من ليبيا، بما في ذلك الخطف والتعذيب والابتزاز، والمحاولات الأوروبية للقضاء على الهجرة التي تسبب لها صداعاً اقتصادياً وسياسياً وأمنياً واجتماعياً عادة تؤدي إلى وقوع حجم أكبر من الضرر على المهاجرين.

ورقة المهاجرين

إنها كرة الاتهام التي يجري تقاذفها بين الفريقين، دول أوروبا وجهة المهاجرين، إذ تطالب الدول التي يأتي منها المهاجرون بمزيد من الضبط والربط وإغلاق أبوابها على نفسها وعدم تصدير مشكلاتها إليها، والدول المصدرة للمهاجرين "غير النظاميين" أو "غير الشرعيين" – سواء كانوا من مواطنيها أو من المهاجرين لديها قادمين من دول أخرى ضربتها حروب أو أصابها الاقتصاد في مقتل، تارة تحاول إغلاق أو في الأقل مواربة هذا الباب، وتارة أخرى تحاول بذل الضغوط من أجل الحصول على حزم مساعدات للتعامل مع ملفاتها الصعبة، وأحياناً يتم التلويح بورقة فتح "صنبور" الهجرة أو إغلاقه كورقة ضغط سياسية.

وعلى سبيل المثال، استخدمت تركيا هذه الورقة خلال السنوات القليلة الماضية عبر التهديد بالسماح لملايين المهاجرين لديها بالتوجه إلى أوروبا، وذلك على سبيل بذل مزيد من الضغط على الدول الغربية للحصول على دعم أكبر في ما يختص بالنزاع السوري، أو للحصول على مزيد من الدعم المالي من الدول الأوروبية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقبل أيام عرض الاتحاد الأوروبي على تونس قرضاً بما يزيد على مليار يورو (نحو 1.07 مليار دولار) بدعم اقتصادها المتعثر ولكن بشروط، وكذلك للتعامل مع أزمة الهجرة، كما تلقت عرضاً بمساعدة قدرها نحو مليون يورو لمساعدتها في إدارة الحدود ودعم عمليات البحث والإنقاذ ومكافحة التهريب وإعادة اللاجئين.

"إعادة اللاجئين" أو المهاجرين مربط الفرس في سجال شمال المتوسط وجنوبه، لا سيما في ظل الزيادة المطردة الحالية لمعدلات محاولات الهجرة، و"أطباء بلا حدود" وغيرها من المنظمات المدنية والجمعيات الحقوقية تقول إن ما تقوم به الدول الأوروبية من إجراءات لحماية حدودها الوطنية من "أخطار" الهجرة وتعزيز مراكز الاحتجاز خارج حدودها غالباً تدفع كثراً إلى الارتماء في أحضان عصابات التهجير وتهريب البشر.

يعبرون الحدود ويجتازون نقاط التفتيش ويخترقون السياج ويخرجون من سجون ومراكز احتجاز ليصلوا في النهاية إلى قارب تتعادل احتمالات وصوله شمالاً مع احتمالات غرقه.

موت لا أكثر

"هي موتة ولا أكثر" و"هنا ميتين (موتى) وهناك ميتين" وغيرهما من عبارات يرددها المقدمون على مغامرة عبور المتوسط على متن قارب تعكس الأسباب وتشرح العوامل. القرى المعروف عنها انتشار فكرة الهجرة غير الشرعية صوب أوروبا، وتحديداً إيطاليا، تموج بمثل هذه الأيديولوجيا "ضربوا الأعور على عينه قال خسرانة خسرانة"، أي إن من يعاني قدراً كبيراً من المشكلات والأزمات لن يضيره أن يغامر، فإما ينجح ويحل مشكلاته وإما يخفق وتضاف مشكلة جديدة إلى حمولته.

عديد من القرى المصرية في محافظات المنوفية وكفر الشيخ وأسيوط وغيرها معروفة بأنها قرى المهاجرين لإيطاليا، وعادة تتحول القرية إلى قرية مهاجرين بقصة نجاح "سيد" الذي سافر إلى إيطاليا بتأشيرة سياحية ثم بقي هناك وعمل بكد وجد وتمكن من إرسال مبالغ مالية كبيرة لأسرته مما حقق لها نقلة نوعية، أو "فتحي" الذي تزوج من سائحة وسافر معها وصنع إمبراطورية مطاعم وصار لاسمه "شنة ورنة" في القرية، وفي السنوات القليلة الماضية تحولت دفة قصص "النجاح" صوب سماسرة السفر وعصابات التهريب، وأغلبها يمر بليبيا.

مساعدة سمسار

تقارير المنظمات العاملة في مجال الإنقاذ في المتوسط تشير إلى أن التحديات والمخاطر التي يواجهها الراغبون في الهجرة بمساعدة سمسار أو عصابة تبدأ بضياع "تحويشة العمر" لسداد مصروفات الرحلة، وتمر بعدم وجود مأوى سواء خلال أسابيع وربما أشهر والبعض يتحدث عن سنوات انتظار الرحلة، وتنتهي إما بالعبور ومواجهة السلطات غير المرحبة أو المرحلة لهم من حيث أتوا أو بالاستقرار في قاع المتوسط.

حرية وديمقراطية

الجمعيات الحقوقية تصر على أن معدلات الهجرة غير النظامية وإلقاء الناس لأنفسهم في التهلكة سببه خروقات حقوق الإنسان في بلدانهم وبحثهم عن الديمقراطية وحرية التعبير، ومنها ما أشار في سنوات سابقة إلى الهرب من التجنيد الإجباري أو الإجبار على القتال في صفوف جماعات مثل "داعش".

إضافة إلى الصراعات وتدهور الأوضاع الأمنية التي تدفع كثراً إلى الهرب من نيران الصراع الداخلي إلى مياه البحار والمحيطات، فإن دوائر الفقر ونقص فرص العمل وتعاظم الأزمات الاقتصادية تضمن استمرار مسارات الهجرة غير الشرعية مفتوحة.

وإذا كانت حرب روسيا في أوكرانيا والأزمة الاقتصادية الطاحنة التي ألمت بأغلب دول العالم أبعدت الأعين والاهتمام عن مسارات هذا النوع من الهجرة، فإن خفوت حدة القتال في ليبيا أعطى إحساساً كاذباً بهدوء الأحوال مما وفر أجواء عمل مناسبة لعصابات التهريب و"الوكلاء" من سماسرة في الدول المجاورة، كل ما سبق مضاف إليه تصاعد الأزمات الاقتصادية في الدول الأكثر تصديراً للمهاجرين غير الشرعيين وتعقد الأحوال المعيشية مع توافر أحلام الخلاص وآمال تكلل "الرحلة البحرية" بالنجاح تعيد فتح أزمة مراكب المتوسط على مصراعيها.

أحلام غارقة

الأم التي فقدت ابناً في عرض البحر بعد أن باعت منقولات البيت لتوفر رسوم "سمسار الموت"، ثم هرعت لبيع ما لديها من مشغولات ذهبية لتجهز الابن الثاني لتكرار المحاولة لن يجدي معها نفعاً التحذير من مخاطر الرحلة، والأب الذي لا يرى حوله سوى البيت الذي بناه جاره "عوض" من أموال ابنه الذي هاجر إلى إيطاليا أو جهاز العروس الذي اشترته أسرة "أمين" من مدخراته التي أرسلها لابنته لن يتابع بحزن بالغ أو فزع دامغ ما جرى على ظهر المركب الغارق بالبحر الأبيض.

 

 

ما يجري في عرض المتوسط وقاعه يسلط الضوء على جهود عديدة تبذلها منظمات أممية وأخرى أهلية تركز على المشروعات التنموية، إضافة إلى التوعية بمخاطر الهجرة غير الشرعية في عديد من الدول الأكثر عرضة ليهاجر أهلها هجرة غير نظامية، هذا التسليط يستدعي كذلك تقييماً للجهود المبذولة على مدى سنوات، إذ ربما الجهود تحتاج إلى مراجعة أو التوجيه في حاجة إلى إعادة ضبط.

تنظيم وتشدد

في تلك الأثناء وقبل غرق المركب المأسوي بأيام وافقت دول الاتحاد الأوروبي الكبرى على مشروع الإصلاح الشامل لإجراءات اللجوء وملف الهجرة، وهو المشروع الذي طال نقاشه والخلاف حوله سنوات، أما الدول الصغيرة في الاتحاد فامتنعت عن الموافقة، ونقاشات الاجتماعات تشي بكثير، لكن التوجه العام هو رفض أو تقليص أو مقاومة أو منع تدفق المهاجرين من دول جنوب المتوسط.

الإجراءات الجديدة تنص على فرز طلبات طالبي اللجوء الذين لا تستدعي أوضاعهم طلب الحماية في غضون 12 أسبوعاً فقط كحد أقصى، ثم العمل على ترحيلهم، ويتم تطبيق هذا الإجراء على مواطني الدول التي يقل معدل الاعتراف بالقادمين منها كلاجئين في دول الاتحاد الأوروبي عن 20 في المئة مثل باكستان وألبانيا وبعض الدول الأفريقية.

وبحسب القواعد الجديدة أيضاً، سيكون في الإمكان إعادة أصحاب طلبات اللجوء المرفوضة إلى بلدانهم الأصلية أو إلى بلد ثالث، وستتمكن دول مثل اليونان وإيطاليا من أن تقرر بنفسها إذا كانت الأوضاع في الدول التي يتم الترحيل إليها مناسبة أم لا، أي إنه سينتهي العمل بالقائمة الموحدة للدول الآمنة التي كان أقرها الاتحاد الأوروبي وكانت تنطبق على الجميع.

إجراءات قاسية

هذه الإجراءات التي يراها كثر قاسية أو متشددة في حق المهاجرين وطالبي اللجوء ستطبق كذلك على الأطفال والقصر غير المصاحبين لذويهم.

هل ستؤثر هذه القواعد الجديدة وغيرها على معدلات الهجرة غير الشرعية فتقلصها؟ الإجابة "لا" في الأقل على المدى القريب، ففي عام 2019 قال 20 في المئة من المواطنين في عدد من الدول العربية عبر استطلاع للرأي أجرته شبكة "الباروميتر العربي" إنهم يرغبون في الهجرة، وارتفعت نسبة الراغبين فيها إلى 52 في المئة بين الشباب في الفئة العمرية من 18 إلى 29 عاماً، وجاءت نسبة المستعدين للسفر إلى دول أوروبية من دون أوراق رسمية (هجرة غير شرعية) مرتفعة إلى حد ما، إذ بلغت 43 و18 و12 في المئة، في السودان والأردن ولبنان على التوالي.

وفي العام الماضي أظهر تقرير آخر لـ"الباروميتر العربي" (جهة بحثية) ارتفاعاً جديداً في نسب الراغبين في الهجرة من الدول العربية، فجاءت كل من الأردن والسودان وتونس على رأس القائمة، إذ عبر نصف المستطلعة آراؤهم عن رغبة في المغادرة، وهيمنت الأسباب الاقتصادية على أكثر من 90 في المئة من الأسباب، وعن خيار الهجرة من دون أوراق رسمية، جاءت النتائج صادمة أيضاً، إذ رصد التقرير زيادة في نسب المستعدين للهجرة غير الشرعية مقارنة بسنوات سابقة، إذ بلغت النسبة 53 في المئة بالمغرب، وفي كل من تونس والسودان وليبيا والعراق قال أربعة بين كل 10 إنهم مستعدون للهجرة غير الشرعية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات