Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

طلعت حرب مؤسس "استوديو مصر" ودوره في نهضة بلاده اقتصاديا وفنيا

أدرك باكراً أهمية السينما وأرسل مصريين ليتلقوا علومها في المدارس الأوروبية

مشهد من فيلم "وداد": أم كلثوم في البداية (موقع الفيلم)

ملخص

أدرك باكراً أهمية السينما وأرسل مصريين ليتلقوا علومها في المدارس الأوروبية

من بين الشخصيات التنويرية والنهضوية العديدة التي عرفتها الحياة المصرية خصوصاً خلال النصف الأول من القرن الـ20، من المؤكد أن رجل الاقتصاد والمعرفة طلعت حرب يتفرد بكونه لا يغيب عن الذاكرة إلا ويعود لها، ولا سيما في أيامنا هذه من خلال نشاطات يغلب عليها الطابع السينمائي. ففي كل مرة ولد فيها مشروع كبير في هذا المضمار، يستعيد العارفون نشاطات طلعت حرب ولا سيما تأسيسه استوديو مصر ومبادرته إلى تيسير ولادة الفن السابع حتى وإن غاب عن الأذهان تنوع نشاطات طلعت حرب الأخرى التي سنعود إليها بعد أسطر. فمثلاً حين أسس السينمائي العراقي انتشال التميمي مع الأخوين سويرس ما اعتبر أهم مهرجان سينمائي معاصر في منتجع الجونة على البحر الأحمر، قورن المشروع بمبادرات طلعت حرب، وحين انطلقت المبادرات السينمائية في السعودية كان طلعت حرب في البال... بل روى لنا الراحل يوسف شاهين كيف أنه حين "أغرى الزعيم اللبناني رفيق الحريري" بخوض لبنان سياسة إنتاج سينمائي جدي أوائل القرن الجديد، استخدم مثال طلعت حرب في حديثه معه مما أثار حماسة الحريري يومها وهو الذي كان يطربه أن يشبه عمرانه لبنان بعمران طلعت حرب لمصر. لكن المؤسف اليوم أن عدداً من سينمائيي الجيل الجديد تساءلوا عـ"من يكون طلعت حرب هذا؟" لمناسبة الحديث عنه عبر كتاب عن "المرأة مستقبل السينما العربية"، صدر أخيراً في مالمو السويدية ضمن نشاطات مهرجانها السينمائي للأفلام العربية!

زمن التنوير

ومن المؤكد أن طلعت حرب لم يكن حدثاً عابراً وعادياً في الحياة المصرية، فالرجل كان من قلة من رجالات الاقتصاد العرب الذين آمنوا بأن العمل الاقتصادي الحقيقي لا يمكن أن يكون مكتملاً إن لم يتضافر مع نهضة اجتماعية وثقافية تلازمه وترفده. وإذا شئنا أن نورد مثلاً بسيطاً على هذا حسبنا أن نذكر تأسيس طلعت حرب لـ"استوديو مصر"، ذلك الصرح الفني والثقافي الكبير الذي افتتحه في عام 1935 إيذاناً ببلوغ السينما المصرية سن النضج، هي التي كانت قبل ذلك مجرد خطوات أولية وجهداً فردياً مغامراً. مع طلعت حرب تبدلت الأمور. أدرك الرجل أهمية السينما وعظمتها وأنها لم يعد بإمكانها أن تنتج من عمل حرفي يتسم بطابع "الفهلوة" الشهير، بل لا بد لها أن تنطبع بعمل ونهج علمي. وهو انطلق من ذلك ليعطي للسينما المصرية أول اندفاعة حقيقية في تاريخها، اندفاعة كانت هي التي جعلت لمصر سينما وحياة سينمائية تضاهي في بعض الأحيان ما ينتج في أعظم عواصم السينما العالمية، من الناحية الكمية على الأقل.

جولة أوروبية

طلعت حرب، الذي كان منذ بداية سنوات الـ30 أدرك أن السينما يمكنها أن تكون مشروعاً اقتصادياً وثقافياً وحضارياً في الوقت نفسه، سافر إلى أوروبا ليطلع عن كثب على حالة الاستوديوهات الألمانية والفرنسية، وهو عاد من هناك مقتنعاً بالفكرة. ومنذ بداية عام 1934 بدأ إنشاء استوديو مصر في منطقة الجيزة، وفي الوقت نفسه ولإيمانه بالعنصر البشري وبالدراسة العلمية، أوفد طلعت حرب بعثتين لدراسة السينما: أحمد بدرخان وموريس كساب لدراسة الإخراج في باريس، ومحمد عبدالعظيم وحسن مراد لدراسة التصوير في ألمانيا. وإضافة إلى هؤلاء اتصل خلال وجوده في فرنسا وألمانيا بعدد من المصريين الذين كانوا يدرسون السينما هناك، مثل ولي الدين سامح ومصطفى والي ونيازي مصطفى وراح يدعمهم، ناهيك بإعلانه التعاقد معهم ما إن يعودوا إلى مصر بعد انتهاء دراساتهم وتدريباتهم أسوة بآخرين، وهكذا ما أن حلت نهاية 1934 حتى كانت الأسس العلمية والبشرية ترسخت. وفي أكتوبر (تشرين الأول) من العام التالي 1935 جرى افتتاح استوديو مصر رسمياً في حفلة صاخبة دعي إليها ما يزيد على 500 شخص من وجوه الفن والمجتمع والسياسة والاقتصاد، وكان ذلك الحفل إيذاناً بولادة السينما المصرية حقاً.

نجاح "وداد"

ولم يكن من قبيل الصدفة أن يكون أول منتج للاستوديو فيلم "وداد" من بطولة وغناء سيدة الغناء أم كلثوم الذي حقق من النجاح ما أقنع طلعت حرب بصواب نظرته، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف استوديو مصر عن الإنتاج، لاعباً دوراً أساسياً في تاريخ السينما المصرية، وخلال الفترة السابقة على إنشاء القطاع العام في أوائل سنوات الـ60، وهو القطاع الذي أنتج أفضل أفلام عرفتها مصر في تاريخها، ظل استوديو مصر المكان الذي يجرب فيه المخرجون حظهم في إنتاج أفضل الأفلام وأصعبها من "سلامة في خير" لنيازي مصطفى، إلى "طار الليل" لعزالدين ذو الفقار، ومن "العزيمة" لكمال سليم، إلى "الصقر" لصلاح أبو سيف و"لحن الخلود" لهنري بركات، مروراً بأفلام استثنائية مثل "لاشين" لفريتز كرامب و"السوق السوداء" لكامل التلمساني و"النائب العام" لأحمد كامل مرسي. وإضافة إلى إنتاجه الكبير والمميز في مجال الأفلام الروائية الطويلة نذكر أن استوديو مصر أنتج عشرات الأفلام التسجيلية القصيرة، ناهيك بأعداد متواصلة من "جريدة مصر السينمائية".

باختصار لعب استوديو مصر في عهد طلعت حرب، ثم بعد رحيله، دوراً أساسياً عجزت حكومات كثيرة عن لعبه، وهو لا يزال حتى اليوم صرحاً أساسياً في تاريخ الحياة السينمائية المصرية، على رغم أن دوره تقلص كثيراً منذ تأميمه في عام 1963، وبقي لفترة طويلة محور صراعات ومعارك ثقافية وفكرية تخاض في سبيل الحفاظ عليه، ويجري الحديث بين وقت وآخر عن تصفيته وبيعه، وربما تحويل أراضيه إلى عقارات ومرائب للسيارات!

أكثر من سينمائي

غير أن طلعت حرب لم يكن كما نوهنا مجرد مؤسس لاستوديو مصر وللسينما المصرية الأكثر جدية، فإذا استثنينا اسمي سعد زغلول وجمال عبدالناصر من المؤكد أن الاسم الذي يخطر في البال ما أن يجري الحديث عن نهضة مصر في القرن الـ20، التي جعلته لفترة من تاريخه المعاصر في الأقل في صف الدول المتقدمة مادياً حيناً ومعنوياً حيناً آخر، هو اسم طلعت حرب كرجل اقتصاد علمي كبير، إذ ساهمت جهوده منذ بدايات القرن الماضي في إخراج مصر من حال التخلف التي كانت تعيشها. فهو وكما سبق أن أشرنا إليه في مناسبة سابقة ولا بأس من العودة للإشارة هنا، المثل الساطع على أن في وسع الأفراد في بعض الأحيان أن يلعبوا في تاريخ أممهم دوراً يفوق دور الجماعات والأحزاب، وبخاصة إذا تلاقت لديهم إرادة العمل بإمكاناته والنزعة الوطنية بالانفتاح على العالم وعلى ما يحدث فيه. ولكن لئن كان الأفراد لعبوا دوراً كبيراً في تاريخ أممهم عن طريق تزعم الثورات أو الانقلابات العسكرية أو الخطب النارية والسعي السياسي في سبيل الاستقلال، فإن الطريق التي اتبعها طلعت حرب كانت طريقاً مغايرة تماماً: طريق الاقتصاد والتنمية، ومن هنا أهميته وفرادته في تاريخ مصر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صعود متدرج

وتقول لنا سيرة طلعت حرب التي لا بأس من التذكير بها دائماً أنه تخرج من كلية الحقوق في 1889 وعين حال تخرجه مترجماً، ثم دخل من خلال عمله في الترجمة لدى بعض الشركات الأجنبية عالم الاقتصاد والإدارة، مما مكنه من تسلم إدارة بعض الشركات الصغيرة، حتى 1908 حين أسس شركة ستلعب دوراً كبيراً في حياته، وفي حياة مصر هي "شركة التعاون المالي". غير أن مصر لن تعرفه من خلال إدارته لتلك الشركة، بقدر ما ستعرفه من خلال وضعه لكتاب "قنال السويس" (1910) الذي كان أول تعبير مصري علمي عن معارضته مشروع "امتياز شركة قناة السويس البريطانية - الفرنسية". كانت معارضته عنيفة، لكنها لم تنجح إلا في أن تكشف له عن أن مصر لن يمكن أن تقوم لها قائمة إن لم تحصل على استقلالها الاقتصادي الذي اكتشف أنه يفوق في أهميته أي استقلال سياسي. وهكذا دعا إلى إنشاء بنك وطني مصري، لكن دعوته عورضت من القصر كما من الإنجليز، وظلت موضع معارضة حتى كانت ثورة 1919 التي فتحت أمام المصريين آفاقاً جديدة للتحرك الوطني، وخففت بعض الشيء من خنق الإنجليز لهم خارج نطاق السياسة على الأقل، وهكذا قيض لطلعت حرب أن يؤسس "بنك مصر" في 1920. ومن المعروف أن تأسيس "بنك مصر" كان مقدمة لتأسيس عديد من المشاريع الاقتصادية التي كان طلعت حرب يشرف عليها بنفسه ويحتضنها وكأنها فلذات كبده، ومنها كما أشرنا إليه أول هذا الكلام المشروع السينمائي، الذي أدرك حرب أهميته منذ بداياته المبكرة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة