ملخص
البروفيسور جيمس موريارتي المجرم الأشهر في سجلات دويل الذي كان من أشرس خصوم هولمز لم يكن سوى الاسم المستعار للمجرم الحقيقي آدم وورث
على رغم أن مختلف تقارير رجال شرطة لندن، ولا سيما منها الصادرة عند نهايات القرن الـ20، تؤكد بكل فخر أن معدلات الجريمة قد انخفضت بشكل لافت ولا سيما في الأحياء اللندنية الموبوءة بفضل استتباب الأمن في العهد الفيكتوري، فإنه كان من "حظ" الطبيب الكاتب آرثر كونان دويل أن جرائم كثيرة حدثت في زمنه وأخرى كانت ذكراها لا تزال ماثلة في الأذهان حين بدأ ينصرف إلى كتابة الروايات البوليسية مستلهماً الواقع الملموس في تلك الحكايات التي غالباً ما كان يرويها أناه الآخر الدكتور واطسون عن التحري الألمعي شرلوك هولمز. ومن هنا لن يكون صعباً على الباحثين أن يعثروا على أصول عديد من المغامرات الهولمزية في الوقائع الأمنية الحقيقية، بحيث إن ترتيباً تاريخياً للحكايات كما رواها واطسون يمكنه أن يشكل نوعاً من كرونولوجيا للحياة الأمنية في لندن وربما في غيرها أيضاً من الضواحي والمدن الإنجليزية عند نهايات القرن الـ20، بل يمكننا أن نجد في عديد من الحكايات أشباح مجرمين حقيقيين عاشوا هناك في تلك الأزمنة ولو بتغيير في أسمائهم.
من موريارتي إلى قاتلة الأطفال
وهكذا على سبيل المثال من المعروف أن البروفيسور جيمس موريارتي، المجرم الأشهر في سجلات دويل والذي كان من أشرس خصوم هولمز بل قاتله ولو لزمن، لم يكن سوى الاسم المستعار للمجرم الحقيقي آدم وورث الذي ملأ لندن رعباً وجرائم في زمنه، وكما حال وورث هذا يمكننا أن نلتقي شبح جاك السفاح في المغامرات التي دونها كونان دويل، ناهيك بعدد من المجرمات الحقيقيات اللاتي انتهى الأمر بمعظمهن إلى الإعدام بعد أن عشن إجراماً، فاستعارهن دويل ليشكلن جزءاً من عالمه الروائي وخطوات على مسار هولمز - واطسون البحثي، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ومن أبرزهن بالطبع، إيميليا إليزابيث داير المربية التي اعتبرتها العدالة مسؤولة بصورة مباشرة عن مقتل ما بين 200 و400 طفل عهد بهم إليها، وماري آن بريتلند التي شنقت لكونها سممت ابنها وزوجها وعشيقة صاحبها في وقت واحد، وأرملتا ليفربول السوداوان كاترين فلاناغان ومرغريت هيغنز اللتان شنقتا لقتلهما ما لا يقل عن أربعة أزواج لمجرد الحصول على تأمين هؤلاء على الحياة.
بدلاً من السياسة والتاريخ
وطبعاً يمكن لهذه اللائحة أن تطول بالنظر إلى أن الواقع الحقيقي، وبعيداً من تقارير الشرطة التي حاولت أن تزرع لدى الإنجليز طمأنينة مزيفة، هو ما استلهمه الكاتب الشهير كي يؤلف عشرات القصص وعدداً من الروايات التي خلدت اسمه في عالم الأدب البوليسي بعد أن كان يريد أن يكون كاتباً سياسياً يؤرخ للحروب التي عايشها في زمنه بل شارك في بعضها، لكن الأهم من هذا وذاك، وهو أمر لم يلق على أية حال اهتماماً كافياً من مؤرخي حياة كونان دويل وكاتبي سيرته، يكمن في مكان آخر، في كونه هو نفسه، وربما لكي لا تتفاقم غيرته من بطله شرلوك هولمز، وهي، كما نعرف، غيرة وصلت به يوماً إلى التخلص من بطله بقتله على يد البروفيسور موريارتي، وتمكن في مرات عدة من أن يثبت جدارته ومهارته كتحر بدوره، وليس فقط كمتابع لما يشتغل عليه تحريه الخاص. بكلمات أخرى: حدث في مرات عديدة أن اتصلت الشرطة بل حتى أطراف لا علاقة لها بالشرطة بآرثر كونان دويل، لتكليفه بالتحري حول جرائم أو أحداث غامضة استعصى الوصول إلى حلول لها من طريق الشرطة، فرأى المعنيون بها أنه لعل في إمكان سيد الرواية البوليسية التشويقية أن يوصل حلولها إلى بر الأمان، ولئن كانت الاستعانة به عند نهايات حياته للاستفادة من خبرته للعثور على خليفته في زعامة كتابة الروايات البوليسية آغاثا كريستي حين اختفت عن الأنظار عام 1926 غير تاركة أية إشارة تنم عما حدث أو يحدث لها، فكان تدخله سريعاً وغير مجد على أية حال، فإن ثمة حالات أخرى كان دويل فيها عوناً كبيراً للمحققين، ومن تلك الحالات ما يسمى في سجلات القضاء البريطاني بـ"قضية إيدالجي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قضاء عنصري
حدث ذلك عام 1903 حين حكمت المحكمة على المدعو إيدالجي مذنباً بتهمة بعث رسائل تهديد من ناحية، كما بتهمة قطع أطراف قوائم أحصنة من ناحية أخرى، وكان إيدالجي هذا شاباً ولد لأب من أصل هندي وأم إنجليزية، وهو ما إن صدر الحكم في حقه حتى راح يصرخ معلناً أن في الأمر خطأ قضائياً جسيماً ناتجاً عن مواقف عنصرية وقعها المحلفون ضده لمجرد أنه من أصول هندية، ولقد اتبع إيدالجي قضيته باللجوء إلى الكاتب الشهير كونان دويل وكله ثقة في أن هذا قادر على أن يكشف الحقيقة ويبرئه، ولقد استجاب دويل للدعوة فشمر عن أكمامه وصرح لصحيفة "دايلي تلغراف" بأنه سيتابع القضية حتى النهاية لأنه، وبحسب المعطيات المتوافرة له، واثق ببراءة الرجل ويشاركه الشعور في أن ثمة ما هو نابع من الممارسة العنصرية يكمن وراء القضية، ولقد وجد دويل في وجهه منذ بداية تدخله رئيس دائرة الشرطة في مقاطعة ستافوردشاير حيث وقعت الأحداث، وكان هذا من القوة واللؤم بحيث راح يفبرك الوقائع ويخترع "الحقائق" على هواه، لكن دويل لم ييأس فراح يفند كل ما يتوصل إليه الشرطي بحيث انتهت الأمور لصالح الهندي البريء الذي تمكن دويل من إقناع المحكمة، هذه المرة، ببراءته، فحصل على البراءة معلناً أنه سيظل مديناً لآرثر كونان دويل حتى نهاية حياته.
وبقي أن نضيف هنا أن رجلاً يدعى إنوخ نويلز سيعترف عام 1934، أي بعد ثلاثة عقود من إثبات دويل براءة إيدالجي، بأنه هو باعث تلك الرسائل المهددة لكنه لا علاقة له بقطع أطراف الأحصنة في عمليات ظلت غامضة إلى الأبد.
فشل نسبي
وفي مقابل ذلك النجاح الذي حققه دويل في قضية إيدالجي لا بد أن نذكر إخفاقه في إقناع الشرطة في قضية ثانية كبيرة تولاها وعرفت بقضية "أوسكار سلاتر"، ففي عام 1908 تم العثور على العجوز الثرية ماريون غيلكرست وهي في الـ82 قتيلة في شقتها في مدينة غلاسكو، ولقد لفت نظر المحققين إلى أن قطعة واحدة فقط من مجموعة مصوغاتها الكبيرة الموجودة في الشقة قد سرقت وهي عبارة عن مصاغ ذهبي مطعم بحجارة كريمة. فكان السؤال: لمَ ترك القاتل بقية المجوهرات مكتفياً بتلك القطعة؟ مهما يكن، اتجهت أنظار المحققين يومها وبسرعة إلى المدعو أوسكار سلاتر، وهو يهودي ألماني يعيش في الحي نفسه ويعمل في الرهنيات إلى جانب عدد من مهن مبتذلة أخرى، وكان أوسكار هذا قد ركب، قبل أيام، سفينة توجه بها إلى أميركا بعد أن حاول أن يبيع مصاغاً ذهبياً تنطبق عليه أوصاف تلك القطعة المسروقة من القتيلة، واستدعي أوسكار إذاً وحكم عليه بالإعدام، لكنه لم يعدم بعد أن ثبت أن التحري الرسمي المكلف متابعة القضية قد تلاعب بالأدلة حتى يثبت تهمة القتل على أوسكار الذي كانت قد ثبتت عليه تهمة السرقة أو في الأقل تهمة محاولة بيع مسروقات، ومهما يكن، فإن المتهم المحكوم هذا طلب من محاميه أن يستعين بالكاتب آرثر كونان دويل كي ينقذه من التهمتين، فدرس هذا الأخير القضية وتمكن في نهاية الأمر من إثبات أن تلاعب الشرطي إنما جرى لمصلحة عائلة القتيلة وطاول جريمة القتل كما طاول جريمة السرقة. ومع ذلك، وعلى رغم كل الأدلة التي قدمها الكاتب وعلى رغم أن المحكمة برأت أوسكار سلاتر من الجريمتين بصورة مباشرة، فإن هذا سيمضي في السجن 18 سنة كاملة ولكن بسبب جرائم عديدة أخرى ارتكبها ولم يتدخل دويل فيها. ومع ذلك، كان الكاتب يتمنى أن يكون انتصاره في هذه القضية كاملاً أيضاً ولكن: ما العمل وسلاتر كان في حقيقته مجرماً حتى وإن كان لا علاقة له بقضية ماريون غيلكريست؟ هكذا عزى دويل نفسه إذاً وهو يبتسم مفكراً أن شرلوك هولمز ما كان في وسعه أن يفعل ما هو أفضل لو كان مكانه!