Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حرب الصفوة العوان من وراء الحرب

لم تكن "قحت" في رأي بعض الواقفين مع الجيش طرفاً خطط للانقلاب فحسب بل مشاركاً في تفاصيله أيضاً

أطراف النخبة السياسية في السودان يتبادلان الاتهامات بشأن المتستبب في إشعال نيران الحرب (أ ف ب)

ملخص

تسمي قوى الحرية والتغيير (قحت) ما قام به الجيش انقلاباً من تدبير كوادر الإسلاميين. وهو الجيش المتهم عندهم بأنه "كيزاني"

لو صرفت النظر قليلاً عن الحرب العوان الدائرة بين قوات الشعب المسلحة والدعم السريع ببيض الصفائح لوجدت حرباً أخرى بين صفوة الرأي والسياسة على بيض الصحائف حول من منهم أوعز بهذه الحرب. وتستقطب هذه الحرب قوى الحرية والتغيير بمختلف تسمياتها من ناحية وجماعة النظام القديم المعروفين بالفلول أو الكيزان في الناحية الأخرى. فوقعت الحرب، في عقيدتهم، بسبب واحد منهما حصرياً. وهو ما يوحي بأن الجيشين المتقاتلين بمثابة ضحايا دسيسة أحد الطرفين في حين خليا من كل دافع مستقل ومشروع للحرب بينهما.

وإذا لم تكن حرب الصفوة هذه باباً في المكايدة فلربما هي من سوء ظنهم بالعسكرية. فظلت هذه الصفوة ترى العسكرية درجة أدنى منهم لأن من دخل كلياتها كان ممن لم يوفق لدخول جامعة الخرطوم. أما محمد حمدان دقلو، قائد الدعم السريع، فليس بشيء عندهم لبداياته المتواضعة جداً كتاجر حمير في زعمهم لا هنا ولا هناك. فاستحال على الصفوة بالنتيجة نسبة اندلاع هذه الحرب لأي من العسكريين. فمثلها لا يقع إلا لمن جعل الله له بسطة في العلم مثلهم.

تسمي قوى الحرية والتغيير (قحت) ما قام به الجيش انقلاباً من تدبير كوادر الإسلاميين. وهو الجيش المتهم عندهم بأنه "كيزاني" (إخوان مسلمين، كيزان) في الصميم بفعل ثلاثة عقود تحكم الإسلاميون خلال حكمهم من تعيين أعضائهم في طبقة الضباط فيه. ولإثبات تهمة تحريض الإسلاميين على الانقلاب تعرض قحت فيديوهات لبعض قادتهم في إفطارات رمضانية يهددون بالحرب إن اعتزلهم الاتفاق الإطاري بين قحت المركزي والجيش والدعم السريع ومضى إلى غايته بتكوين الحكومة المنتظرة من دونهم. فالانقلاب، في قول الباقر العفيف، مدير مركز الخاتم عدلان للاستنارة، هو حرب الانقلاب على ربيبهم حميدتي الذي كانوا قد جاؤوا به للميدان السياسي على عهد الرئيس المخلوع البشير. وكان موضع إشادتهم طالما حارب ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018. لكنهم عادوه منذ دان انقلابه والجيش على الحكومة الانتقالية في 25 ديسمبر 2021، ووقف مع الاتفاق الإطاري الموقع عليه في ديسمبر 2022.   

ولم يكتف من حملوا الإسلاميين وزر اندلاع الحرب بذلك بل راحوا ينعون عليهم عدم إعدادهم عدتها حتى كلفوا البلاد والعباد. فقال الوليد مادبو، الخبير في الحوكمة، إنهم، أي الكيزان المسيطرين على الجيش، اعتمدوا في انقلابهم على المباغتة لإحراز النصر المعجل ليدركوا بآخرة مغبة فعلتهم. فرتبوا ليكسبوا من إبراز الجيش كجيش الوطن في مقابل الدعم المرتزق في حين يعرف الناس أن هؤلاء المرتزقة إنما هم صناعة الجيش الوطني نفسه. كما أنهم لم يعتبروا ضعف الجيش الذي لم يخض حرب مدن من قبل ونأى قادته عن خوض أي حرب حقيقية لينشغلوا بالمال والأعمال. وخلص إلى أن الكيزان ما كان لهم أن يتورطوا في الحرب، والحال كهذه، حتى لو فرضت عليهم.

ويسمي أنصار النظام القديم، الفلول، حرب الدعم السريع للجيش تمرداً. ويرون أنه تمرد "مدروس ومعد له مسبقاً بتهيئة سياسية عبر ما يسمى الاتفاق الإطاري". ويعرضون للتدليل على ذلك فيديوهات لرموز من "قحت" يقولون فيها إنه، إذا لم تتراض الأطراف عند الاتفاق الإطاري، فالحرب واقعة. واختارت "قحت" عندهم الدعم السريع باعتباره "جناحاً عسكرياً للدولة المدنية". فعززت منزلته في الاتفاق الإطاري بجعل تبعيته لرئيس مجلس السيادة بدلاً عن الجيش.

وزادت بأن وافقت على موقف قوات الدعم بألا يتم دمجها في الجيش إلا بعد عشر سنوات لا سنتين كما أراد الجيش. فكان حميدتي بالنتيجة أكبر المدافعين عن الاتفاق الإطاري بما شجعه لانتزاع الحكم وتسليمه لقحت. علاوة على أنه لم تكن الآليتان الثلاثية والرباعية من الأمم المتحدة وأوروبا وأميركا والاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيغاد ببعيدة من هذه المؤامرة. فالإطاري كله عبارة عن "مشروع خارجي بدعم دولي وأيادي عملاء سياسيين محمية من ميليشيات الدعم السريع".

ولم تكن قحت في رأي بعض الواقفين مع الجيش طرفاً خطط للانقلاب فحسب، بل مشاركاً في تفاصيله أيضاً. فاستنكر الصحافي زين العابدين صالح على السيدة مريم الصادق، القيادية في حزب الأمة القومي والحرية والتغيير، قولها لا "أعلم من بدأ الحرب أولاً". وقال إن قولها ذر للرماد في العيون. فهي تعلم من بدأ الحرب بعد أن خططوا لها وكتبوا بياناتها التي كان من المفترض أن تذاع يوم 15 أبريل بعد عملية اغتيال الفريق ركن عبدالفتاح البرهان. فانبنت خطة التمرد، بحسب زين العابدين، على أن تتم بمباغتة القوات المسلحة في مناطق استراتيجية أهمها القصر الجمهوري والقيادة العامة لتسلمها، واغتيال البرهان مباشرة حتى لا يكون هناك قائد للقوات المسلحة، ثم يذاع للتغطية أنها معركة دارت بين البرهان وفلول النظام القديم. وتعقب ذلك إذاعة بيان الانقلاب من الإذاعة والتلفزيون التي جمعت الدعم السريع فيه قواتها. وسيكون خط التمرد الإعلامي هو أن اللجنة الأمنية للإنقاذ (المجلس العسكري) سقطت فتخرج قوى قحت وغيرها تطالب الشعب بالتصدي لأي تحرك مضاد من الفلول للتمرد.  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن رأي الصحافي عادل الباز أن الحرب كانت الخطة "ب" في مشروع استئثار قحت بالحكم. فلما عرفت قحت أن ذلك لن يتم لها بحيلة إصلاح الجيش وهيكلته احتاجت إلى قوة صلبة هي الدعم السريع. فغفروا لها اشتراكها الفظ في فض الاعتصام في يونيو (حزيران) 2109، ووسوسوا لحميدتي أن بوسعه أن يكون قائد الهامش الجديد على غرار جون قرنق زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان في الثمانينيات وما بعدها. وزينوا له، وهو الواسع الإمكانات والثراء، أن يتحول من حال جندية الجنجويد الميليشيات إلى قوات محترمة تعزف على وتر الحرية والمدنية وتعادي الإسلام السياسي. فدخل دقلو اللعبة السياسة ليكون الجناح العسكري (الجيش الجمهوري الإيرلندي) لقحت "شين فين". وكان توقيع الدعم على الإطاري تقنيناً لهذه السياسات لقحت حياله وله.

وبدأ علي عسكوري، القيادي في الحرية والتغيير-الكتلة الديمقراطية، من تخيير قحت الناس بين الإطاري أو الحرب ليقول إنها إنما هددت على ذلك النحو لاعتقادها أن المجتمع الدولي، الذي هي وكيلة عنه، قادر على فرض إرادته التي جسدها في الإطاري. وزاد بأن تهديد أهل قحت بالحرب يعني معرفتهم بالطرف الثاني الذي بيت النية لحرب الجيش. فلو أنهم ما عرفوا هذا الطرف لهددوا بما هو في وسعهم مثل التظاهر أو غيره كعهدهم. وعليه فـ"قحت" في قوله ضالعة حتى الثمالة في الحرب من حيث معرفتها بها، والترتيب المسبق لها، بل الإعلان عنها صراحة. واشتبه في نداءات قحت للمجتمع الدولي بإيقاف الحرب لصدورها عن اتفاق سري مع الدعم السريع مفاداه أنهم سيطلبون من العالم وقف الحرب (في دلالة حظر الطيران، قوة الجيش المؤكدة) متى فشل في انقلابه، بل سارعوا، حين لم ينجح تمرد الدعم السريع، إلى تضخيم خسائر الحرب على الناس والأرض استثارة للرأي العام العالمي وتبرير تدخل المجتمع العالمي.

ويهبط التراشق بين الجماعتين في تبادل الاتهام بإشعال الحرب دركاً. فتنشر كل جهة قائمة بمن تسميهم المجرمين من وراء الحرب في الجهة الأخرى ليوم الحساب القريب. فتنشر قحت بمثابة إنذار قائمة بطائفة من إعلاميي الفلول الذين يروجون للحرب. وفي المقابل ينشر أنصار النظام القديم قائمة برموز الفترة الانتقالية والاتفاق الإطاري ممن ينتظر التنكيل بهم. ويشترط بعضهم في طلب القضاء على رموز قحت حالاً. فالانتظار حتى انجلاء المعركة سيتيح للوسطاء حمايتهم من العقاب.

ولم تمتنع الأطراف في حرب الصفوة من وراء الحرب من تزوير الأدلة لإثبات تورط الطرف الخصم في إشعال الحرب. فأشاعت قحت مذكرة قالت إنها ملخص اجتماع للحركة الإسلامية (10 رمضان 1444، 1 أبريل (نيسان) 2023) لهذا الغرض. والمذكرة موضوعة لا جدال. حملت مراد الواضع بغير ذكاء. فمن المستغرب أن يقول من أعدوا للحرب من الإسلاميين، وفي محضر اجتماعهم، إنهم سيفتعلون "أزمة بين الجيش والدعم السريع" كساعة الصفر لانقضاض الجيش على الدعم السريع. والأكثر غرابة أن تعلن جماعة في محضرها أنها، متى انتصر الجيش، ستشكل حكومة انتقالية تعقد "انتخابات صورية". ولا خلاف أن واضع هذا المحضر لا يريد تذنيب الإسلاميين فحسب، بل أراد أن يفعل ذلك باعترافهم هم أنفسهم ولسانهم راغم في محضرهم.

هذه الحرب بين الصفوة حول من تسبب في هذه الحرب التي أكلت أخضر السودان ويابسه تدعو للرثاء. تسمع من بعض الصفوة أن الحرب الحقيقية النازفة بين الجيش والدعم السريع عبثية. وفي هذا القول طلب عجيب للامتياز يجعل حربهم هي الحق وما عداها باطل. وليس هذه العطالة بمستغربة من صفوة للرأي والقلم لم تعد ترى، تحت تطاول النظم الديكتاتورية عليها وإهانتها للحرية، من الحقائق حولها سوى أوجاعها وثاراتها. فتوهمها أنها من أشعل الحرب بغض النظر عن حالة تجاحد نرجسية لا ترى من الحرب الحقيقة إلا حرب طوائفها من ورائها.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء