Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فارس يواكيم يستخرج قصائد الشعراء من الظل

جمع القصائد في مظانَّ مجهولة ومجلاّت وصحف توقّف معظمها عن الصدور وقارنها بدواوين الشعراء المنشورة

لوحة بريشة الرسام الإسباني خوان ميرو (ناشيونال غاليري ـ واشنطن)

ملخص

فارس يواكيم يجمع قصائد مجهولة من مجلاّت وصحف توقّف معظمها عن الصدور ويقارنها بدواوين الشعراء المنشورة

هل يحق لكاتب معيّن أن ينشر قصائد استنكف أصحابها عن نشرها في أعمالهم الشعرية لاعتبارات خاصّة بكلٍّ منهم؟ برأيي، يمكن الإجابة عن هذا السؤال بـ "نعم" و"لا"، في الوقت نفسه. "نعم"، لأنّ هذه القصائد هي جزء من نتاج الشاعر، ولا بدّ لأي دراسة منهجية علمية لشعره من أخذها في الاعتبار. و"لا"، لأنّ عملية نشرها قد تنتهك خصوصية الشاعر، وتصادر حقّه في الإطلالة على المتلقّي بقصائد يرضى عنها.

جمع وتوثيق

من هذه الشرفة، نطلّ على كتاب "قصائد في الظل" للكاتب اللبناني الأصل، المصري الولادة، الألماني الإقامة، فارس يواكيم، الصادر أخيراً عن دار "أطلس للنشر والتوزيع" الدمشقية. والكتاب هو السادس لصاحبه، بعد "ظلال الأرز في وادي النيل"، "حكايات الأغاني ..."، "الإسلام في شعر المسيحيين"، "الأسراب الشامية في السماء المصرية"، و"ديوان شبلي شميّل". ويتناول فيه القصائد التي غابت عن دواوين الشعراء لسبب أو لآخر، وهو يبرّر فعلته بأنّها سبق أن خرجت إلى العلن من خلال النشر أو الإلقاء، وأنّ ما قام به هو جمعُها وتوثيقها،  لكن هذا التبرير، على أهميّته، لا يمنحه الحق في إلقاء الضوء على ما شاءه أصحابه أن يبقى في الظل، وإن كانت هذه العملية تنطوي على فائدة علمية لا ريب فيها.

الشكل والمضمون

في كتابه، ينشر يواكيم مئة وتسعين قصيدة أو مقطّعة شعرية لتسعة وعشرين شاعراً عربياًّ، بوتيرة تتراوح بين قصيدة واحدة للشاعر، في الحدّ الأدنى، كما هي الحال مع أحمد شوقي وأحمد محرّم وبيرم التونسي ورشدي المعلوف وصلاح عبد الصبور وعمر أبو ريشة وفوزي المعلوف وميخائيل نعيمة ونزار قباني ويوسف الخال، وبين خمس وعشرين قصيدة أو مقطّعة، في الحدّ الأقصى، كما هي الحال مع إبراهيم الحوراني. وهو يعتمد المعيار الهجائي في ترتيب فصول الكتاب، ويعتمد المعيار التاريخي في ترتيب القصائد ضمن الفصل الواحد. على أن الفصول المتعاقبة هجائياً تختلف في ما بينها وتتنوّع، في الشكل والمضمون.

في الشكل، تفتقر الفصول إلى التوازن، بحيث يقتصر عدد صفحات الفصول المخصّصة لنزار قباني وميخائيل نعيمة وأحمد محرّم على صفحتين اثنتين لكل منها، بينما يمتد الفصل المخصص لشفيق المعلوف على خمس وعشرين صفحة.

في المضمون، يستهل الكاتب الفصل بترجمة مختصرة للشاعر، في معظم الأحيان، ويستهله بكلام موجز عن القصائد، في بعضها. وتعقب الاستهلال القصائد مُصدّرةً بتوضيحات معيّنة أو غير مُصدّرة. وفي الحالتين لا تفوته الإشارة إلى مصدر القصيدة المنشورة، وهو مجلة دورية أو صحيفة يومية أو كتاب مدرسي أو مخطوط. على أن المصدر الأكثر تعويلاً عليه في الكتاب هو المجلة. لذلك، نقع على عدد كبير من المجلات الأدبية والثقافية الصادرة في القرن العشرين، لا سيّما في نصفه الأوّل، يستل منها المؤلف قصائد الكتاب، ويخرجها من ظلمة الطيّ في مجلة توقّفت عن الصدور إلى نور النشر في كتاب مستقل. وهذه بادرة تُحسَب للمؤلف.

مادّة أوّلية

وغنيٌّ عن البيان ما يبذله يواكيم من جهد كبير، يتمظهر في  مطاردة القصائد في مظانَّ مجهولة ومجلاّت وصحف توقّف معظمها عن الصدور، ومقارنتها بدواوين الشعراء، وترتيبها وفق تاريخ النشر، وتوثيقها. مع العلم أن ثمة شعراء لم يجمعوا قصائدهم في دواوين مثل أمين مشرق وجبران تويني وخليل تقي الدين، على سبيل المثال. وهكذا، يتبيّن لنا أن عمل المؤلف يقتصر على الجمع والتبويب والتوثيق، ولا يدخل في القراءة والتحليل والنقد والتقييم خلا ملاحظات عابرة في هذا المجال، ما يجعل من الكتاب مادّة أوّلية يتم فيه تدارك النقص في الدواوين، عن قصد أو غير قصد، ويشكّل مصدراً بحثياً لمن يعنيهم الأمر. وبذلك، قد يكون يواكيم أحسن إلى الشعراء المختصين بنشر ما فاتهم نشره أو أساء إليهم بإيراد قصائد لا يرضون عنها، من حيث لا يقصد ذلك، لكنه بالتأكيد أحسن إلى الباحثين ودارسي الأدب بوضع مادّة جاهزة، بين أيديهم، للبحث والدرس. 

تعدّد المصادر

كثيرة هي المجلات المصرية واللبنانية والسورية راح يواكيم يقتفي أثر القصائد المنشورة فيها ليجمع مادة كتابه؛ أمّا المصرية فنذكر منها: المقتطف، المقتبس، الرسالة، الهلال، الثقافة، الكاتب المصري، أبوللو، الزهور، الضياء، الموسيقى والمسرح، والمجلّة. وأمّا اللبنانية فنذكر: المعرض، العرفان، الآداب، الأديب، شعر، الورود، المشرق، الدبور، الديار، والنهار العربي والدولي. وأمّا السورية فتقتصر على مجلات القيثارة والمعرفة والحديث. ناهيك بمجلّتي الفنون والعصبة المهجريتين، وبعدد من الجرائد اللبنانية، ما يجعلنا إزاء مصادر متعدّدة.

على أن التعدّد لا يقتصر على مصادر القصائد بل يتعدّاها إلى الأغراض الشعرية التي تتناولها، من غزل ووصف ومديح ورثاء وحكمة وغيرها، على أن الغرض الذي يطغى على ما عداه هو شعر الإخوانيات بتمظهراته المختلفة. ولعلّ هذا ما حدا بالشعراء إلى عدم ضمّ القصائد إلى دواوينهم باعتبار النظرة الفوقية إلى هذا الغرض الشعري وتمظهراته المختلفة. ويتعدّى التعدّد الأغراض الشعرية إلى الشكل الشعري في إطار قصيدة الوزن، فتتوزع القصائد على البحور التامّة والمجزوءة والمستحدثة، وتتعدّد في بعضها الأوزان والقوافي ما يجعله ينزلق إلى الصناعة الشعرية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خلاصات ونتائج

وعلى قلّة القصائد المنشورة في الكتاب لهذا الشاعر أو ذاك، فإنّ القارئ المتبصّر لا يعدم أن يستخلص من هذا القليل ما يسم الشاعر بسمات معيّنة تصبّ غالباً في الصورة النمطية المتداولة عنه؛ وفي هذا السياق، يمكن الإشارة إلى رمزية بشر فارس وصعوبة قصائده واستعصائها على النقّاد، وإلى براعة تراكيب سعيد عقل وجماليته الباذخة، وإلى أناقة أمين نخلة وعذوبة شعره، وإلى متانة سبك خليل مطران وطلاوة لغته، وإلى عذوبة شعر خليل تقي الدين ورقّة ألفاظه ولطافة معانيه وصلاحية بعضه للغناء، وإلى ملحمية بولس سلامة وسلاسة شعره وتدفّقه على رسله، وإلى إرهاص قصائد أدونيس المبكّرة بما سيشغله الشاعر من موقع متقدّم في خريطة الشعر العربي، وغيرها من الخلاصات المتعلقة بهذا الشاعر أو ذاك، ممّا لا يتّسع المقام لذكرها.

وبعد، وعودٌ على بدء، وبمعزل عن مشروعية ما أقدم عليه فارس يواكيم من الإضاءة على قصائد شاء أصحابها أن تبقى في الظل، فإنّه، بجمعه هذه القصائد، يُسدي خدمة جلّى للبحث الأدبي ويقدم مادّة أولية غنية له، ويتدارك نقصاً في دواوين شعرية معيّنة، ويحفظ قصائد كثيرة من الضياع في أرشيف المجلات والصحف إن لم نقل من الموت السريري الأدبي. وبذلك، يستحقّ الجامع التقدير، ويستحقّ المجموع القراءة.    

المزيد من ثقافة