Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"غداء في بيت الطباخة" رواية تكشف عبثية الحروب

محمد الفخراني يتلمس طريقاً لاستعادة الإنسانية من داخل الخنادق

لوحة للرسام عبد الله مراد (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

يرصد الكاتب المصري محمد الفخراني في روايته الجديدة "غداء في بيت الطباخة" وجهاً للحرب يختلف عن تمثلاتها في أدب الحروب العالمي

يرصد الكاتب المصري محمد الفخراني في روايته الجديدة "غداء في بيت الطباخة" (دار العين – القاهرة) وجهاً للحرب يختلف عن تمثلاتها في أدب الحروب العالمي، وهو وجه يكسوه الضجر من بشر لا ينفكون يذكون نيرانها، ولا يمنحونها فرصة للتوقف، أو لعيش حياة عادية.

استهل الكاتب رحلته بوصف أجواء حرب دائرة، لكنه يجهل هذه الحرب على طول خط السرد، مما أحال إلى رغبته في الخروج من فضاء ضيق، إلى فضاء أكثر اتساعاً، تلتئم فيه كل الحروب التي عرفتها الأرض على مدارالتاريخ، كحرب واحدة لا مبرر لها، ولا جدوى. وجاء تجهيل الفضاء المكاني والزمني للأحداث، داعماً لرغبته في التعاطي مع الحرب، كفكرة مجردة اعتنقها البشر منذ نشأة الحضارات. كذلك جهل الروائي الشخصيتين المحوريتين في النص، فلم يمنح الجنديين الخصمين اللذين تقابلا في خندق داخل غابة كانت ساحة للقتال، اسمين. وإنما اختار الإشارة إليهما بـ "البني والرمادي"، ليمرر الرؤى ذاتها حول تشابه الصراع، وتماثل المأساة في كل زمان ومكان. وكذلك ليحيل إلى تمثيل الجنديين لكل الجنود في كل المعارك.

وعلى رغم اعتماده سرداً مركزياً منح فيه الراوي العليم معظم صوت السرد، فقد أتاح الكاتب لشخوصه فرصة التعبير عن دواخلهم، ورصد علاقاتهم المشتبكة والمركبة، عبر ما تخلل النسيج من مساحات حوارية كثيفة، ساعدت في الوقت نفسه في تنمية الحدث الدرامي. وجعل الحرب أحد شخصياته المحورية، ومنحها صوت السرد عبر ضمير المتكلم. وأتاح عبر هذا السرد الذاتي "على لسان الحرب"، فرصة لتوجيه سهام النقد نحو الإنسان، وتعرية شروره، وكشف تعطشه الدائم للقتل والتخريب، مما جعله الجاني الحقيقي وجعل الحرب "أداة وفكرة"، مجرد ضحية أخرى في تعداد ضحاياه، لا سيما وأنها تشتعل (على غير رغبتها) امتثالاً له. وعزز الفخراني هذه الرؤى عبر تقنية التكرار، التي استخدمها مع بعض العبارات في وصف الحرب لذاتها، مثل "طفلة جوانية في مكان جواني في داخلي".

 وهكذا قام بتحويل اللوم الذي تحملته الحرب طيلة عصور مضت، بشأن القتلى والأمهات الثكالى إلى مسار آخر، فوجهه نحو الإنسان لكونه الجاني الحقيقي والوحيد: "يطلبني البشر للعمل، يصرون، رغم أني متطلبة جداً. أعمل كل يوم كل يوم كل يوم. وقبلما أنتهي من عملي تكونون قد جهزتم لي عملاً في مكان آخر. مستعدة أنا للتنازل عن كل شيء. كل شخص وكل حيوان وكل سمكة وكل شجرة وكل طائر وكل شيء في العالم يحصل على إجازة، استراحة، إلا أنا" صـ 62.

رائحة إنسانية

اختار الكاتب نسقاً زمنياً أفقياً تدفقت خلاله الأحداث، التي بدأت بلقاء خصمين متحاربين في ميدان المعركة. وعلى رغم ما تسبب به كل منهما من إصابة للآخر في بداية لقائهما، فإن خمسة أيام من العيش المشترك "المدة الزمنية التي قررها الكاتب لأحداث الرواية"، كانت كفيلة بتحويل حالة العداء إلى صداقة، لكن صداقتهما مرت (في طور تشكلها) بمحطات من الصراع الخارجي، الذي دفع كل منهما لإصابة الآخر، ومحطات أخرى من الصراع الداخلي، بين الواجب الذي يحتم القتل، وبين الإنسانية التي لا تبرر هذا القتل، وتبدي عبثيته. بخاصة مع ما بدا عبر الارتدادات العكسية والفلاش باك، من خلفية الجنديين المسالمة والخالية من الدم، إذ كان أحدهما في وقت سابق من الحرب طباخاً، بينما كان الآخر مدرساً للتاريخ. وقد أسهمت اللحظات المستعادة من حياتهما الهادئة، وتقاسمهما الطعام القليل بينهما في إذكاء الرائحة الإنسانية، التي طغت على رائحة البارود، وفي غلبة الجنوح للسلم، على الرغبة في القتل. فانقضى التوجس بينهما، ليساعد كل منهما الآخر في تضميد جرحه، وليتبادلا الرسائل والوعود. ويكشف الكاتب ضمناً، أن سر اندلاع الحروب، يكمن في غياب حد أدنى من معرفة كل خصم بالآخر.

وعلى رغم أن الفضاء الزمني لم يتجاوزخمسة أيام، فصلها الكاتب في سرده لساعات ودقائق محددة، عزز تحديدها واقعية وصدقية السرد، فإن هذا الفضاء القصير والمحدود حوى من الأحداث ما أبرز تناقضات النفس الإنسانية، وتراوحها بين خير وشر، حزن وفرح، كراهية وحب، رفض وقبول. وكما تجلى التناقض كسمة أصيلة للنفس الإنسانية تؤجج صراعاتها، تجلت كذلك تناقضات عالم يتأرجح بين الاستقرار والفوضى، وبين السلام والاقتتال. واعتمد الكاتب في مواضع متفرقة من النسيج، التقابل ليقارن بين نعيم يسمى حياة عادية، وبين جحيم الحرب وأثمانها الباهظة، "كل الأصوات التي نسمعها تصرخ داخل الحرب وهي تَقتُل أو تُقتل، كانت تضحك في وقت ما، كانت تنادي أماً أو أباً أو صديقاً، أو زوجة أو حبيبة أو أخاً أو أختاً أو ابنه أو ابناً، أو حتى إنساناً لا تعرفه. وكل العيون التي تترقب داخل الحرب شخصاً لتقتله، كانت يوماً تنظر بالحب إلى شخص ما". صـ 108.

الفانتازيا والواقع

في خضم التقابلات التي زخر بها النص، اعتمد الكاتب تقابلاً آخر على مستوى البنية، فاستخدم الفانتازيا بكثافة طلباً للواقعية، ورغبة في تجسيد سوءات الواقع، وإبراز هول القتل، وحماقة الاقتتال. فبينما كان الجنديان يختبئان في خندق، يعانيان آلام جراحهما، وشح الطعام والشراب، تسرب الغناء من الجدران، وعزف الكمان من المذياع، وتشكلت أمامهما صور من حياة سعيدة ماضية، عرفها الطباخ في كنف أمه، ومدرس التاريخ مع زوجته وابنته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واتسق مع رغبة الكاتب في إبداء مأساة حاضر الجنديين مقابل هدوء ماضيهما، وبشاعة واقعهما مقابل جمال ما يتراءى لهما من صور، لجوؤه إلى استخدام لغة مشهدية، واستدعاء التقنيات السينمائية، لا سيما تقنية عين الكاميرا. كما لجأ إلى الوصف الذي شمل المكان، والشخوص، والزمن، فاستنفر عبره الحواس كافة، وجعل للسرد ملمساً، وصوتاً، ورائحة. واستفاد منه أيضاً في إبطاء حركة السرد، وإتاحة وقفات، واستراحات للقارئ، تحثه بالضرورة على التأمل، والتفكير، والتوقع، ليتجاوز التلقي الساكن، إلى المشاركة الإيجابية في لعبة السرد... "شمس برتقالية لم تجف ألوانها بعد، تصعد وراء التلال. الطباخ والمدرس يتأملانها وهما يقفان متجاورين. يمكنهما أن يسمعا صوت الشروق، وصوت اللون البرتقالي الشفاف، وهو يسيل على جسم الشمس، ومن جسمها إلى الأرض. يتابعان الضوء البرتقالي وهو يزحف قادماً من بعيد باتجاههما، يلون الأرض ويضيئها، كأنما لا حرب تدور الآن" صـ93.

وعبر تقابل المشاهد التي التقط بعضها الدم والخراب، والتقط بعضها الآخر طبيعة صافية، وشخوص سعداء، تسربت حالة من الحزن الشفيف، غلفت السرد، وعززت إلى جانب جاذبية الشخوص، حالة من التماهي مع النص. كذلك برزت رؤى الكاتب حول ضرورة الاختلاف كسبب للتعايش لا للنزاع، "فكر لو أننا جميعاً نشبه بعضنا بعضاً، قال المدرس: نتشابه في الشكل، نتكلم لغة واحدة، نشعر كلنا نفس الشعور... لنا نفس الرأي ونفكر كلنا نفس الأفكار... فكر كم سيكون العالم مملاً وميتاً وغبياً" صـ 47. ومرر رؤى فلسفية أخرى حول لطف الحياة العادية، اللا مكسب واللا خسارة، وحول البطولة الحقيقية، التي لا تتحقق في معارك بين جنود يقتل بعضهم بعضاً، وإنما يحققها أشخاص عاديون، لا تذكرهم الكتب، ولا يخلد التاريخ أسماءهم، لكن قصصهم دائماً ما تجد طريقها لتبقى حية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة