Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"سيب نفسك" مونودراما تمدح الحياة لحظة الانتحار

المخرج المصري جمال ياقوت اقتبس نصا اسبانيا وقدمه على السطح

الممثلة فاطمة محمد علي في المسرحية المونودرامية (خدمة الفرقة)

ملخص

#مسرحية "سيب نفسك" المصرية، بسيطة ومشوقة، وذات إيقاع لاهث، تطرح أسئلة حول الحياة وجدوى أن نعيشها، بحلوها ومرها، وهل فيها ما يستحق أن نعيش لأجله فعلاً، أم أننا عند أول أزمة علينا مغادرتها؟

تبدو الحكاية في مونودراما "سيب نفسك"، بسيطة ومشوقة ومسلية، وذات إيقاع لاهث، تجبر المشاهد على متابعتها والتفاعل معها... حتى إذا انتهت غادر القاعة وإن لم تغادره بأسئلتها العميقة، التي تلح عليه، حول الحياة وجدوى أن نعيشها، بحلوها ومرها، وهل فيها ما يستحق أن نعيش لأجله فعلاً، أم أننا عند أول أزمة علينا مغادرتها؟ أسئلة العرض هنا مضمرة، والحكاية لا تجنح إلى الوعظ المباشر والإرشاد على طريقة افعل ولا تفعل، لكنها تتسلل بهدوء، وعبر مجموعة ألعاب مسرحية تضافرت جميعاً لتحكم قبضتها، بنعومة، على المشاهد، وتمنحه بعض المفاتيح التي يمكنه من خلالها قراءة ما بين السطور وتأمله ملياً، ليختار أي الطرق يسلك، وأي زاوية ينظر من خلالها إلى العالم، وعلى أي نحو يتعامل معه.

العرض عن نص للكاتب الإسباني مارك إيجيا، ترجمة نبيلة حسن، الدراماتورجيا والإخراج جمال ياقوت، ويقدمه المسرح الحديث على مسرح قاعة يوسف إدريس وسط القاهرة، هذه القاعة التي ظلت مغلقة سنوات طويلة حتى تولى الفنان محسن منصور إدارة "المسرح الحديث" التابع لـ"البيت الفني" -  وزارة الثقافة، فأعاد افتتاحها مجدداً بعرض "خطة كيوبيد"، وها هو العرض الثاني "سيب نفسك".

تأجيل الانتحار

نحن أمام عاملة نظافة (فاطمة محمد علي)، تفاجأ بأن أحدهم صعد إلى سطح بناية عالية في الشارع الذي تتولى نظافته، ناوياً الانتحار. تصعد إليه، ليس بغرض إثنائه عن الانتحار، كما يبدو لنا، ولكن لجعله يؤجل انتحاره حتى ينتهي دوامها، لأنه لو انتحر في فترة دوامها، ستضطر إلى إعادة تنظيف الشارع وجمع أشلائه، وهذا الأمر سيؤدي إلى ضياع حلمها البسيط في شراء بلوزة جديدة (قميص نسائي) كانت اتفقت على شرائها، عندما تحصل على راتبها، وقد ضربت موعداً لصاحب المحل الذي أخبرها أنه سيضطر لبيعها إذا لم تأت في الموعد المتفق عليه، ومن ثم فانتحار الرجل سيؤدي إلى ضياع حلمها.

من هنا تبدأ عاملة النظافة في سرد بعض الحكايات عن نفسها للرجل حتى تعطل فكرة الانتحار لديه. ومن خلال هذه الحكايات نتعرف إلى تاريخ الشخصية والظروف الصعبة التي واجهتها، ومصرع حبيبها ليلة زفافها، ورفض والدها أن تستكمل تعليمها، ومحاولة صاحب دار نشر اغتصابها... وغيرها من المشكلات القاصمة للظهر التي تعرضت لها. لكنها على رغم ذلك تواصل حياتها ولديها دائماً أمل بأن القادم أفضل. وكلما قدمت له حكاية تخبره بأنه حر في فعل ما يشاء، ولكن بعد أن تنتهي فترة دوامها. تنتهي فترة الدوام فعلاً من دون أن ينتحر الرجل، الذي أفلست دار النشر التي يمتلكها بسبب انتشار الكتاب الإلكتروني، ولا يخبرنا العرض عن مصيره بعد ذلك. فالمصير هنا لم يعد يشغلنا كمشاهدين، بعد أن تلقينا الرسالة وطرحنا أسئلتنا عليها.

مجرد إطار

العرض لا يناقش فكرة الانتحار في حد ذاتها، هي مجرد إطار لمناقشة الكثير من القضايا التي نعيشها، وتمرير بعض الأفكار المتعلقة بها. واللافت هنا هو المفارقة التي تبرزها الأحلام البسيطة لعاملة النظافة، وقدرتها على الاستمتاع بحياتها رافعة شعار صلاح جاهين (ما أحلى الحياة حتى ولو فتافيت)، في مقابل أحلام صاحب دار النشر الذي انهار عند أول صدمة يتعرض لها. ويناقش العرض كذلك سطوة السوشيل ميديا التي تحولت وسائلها إلى أدوات للتباعد لا التواصل الاجتماعي. وأيضاً يناقش قضايا من مثل الطمع والانتهازية والتحرش وغيرها، في لقطات سريعة ومكثفة ودالة.

لم يتعامل المخرج الدراماتورج مع النص الإسباني المترجم كما هو، أدخل عليه الكثير من الإضافات والتعديلات التي تقربه أكثر إلى الواقع المصري، وإن أبقى على شخصية عاملة النظافة كسيدة على قدر من الثقافة، نالت قسطاً من التعليم، بل وكتبت رواية. وهو ما يفارق الواقع المصري بالتأكيد، لكنه هنا غير مستهجن، بخاصة أنه لم يحمّل الشخصية في طريقة وأسلوب كلامها، أكثر مما تحتمل، وتم توظيفه في خدمة رسالة العرض، فهي أولاً وأخيراً عاملة نظافة بسيطة. ووظف المخرج الأغاني والرقصات في بناء الدراما، واستخدم العرائس كذلك (صممها الفنان الكويتي نبيل الفيلكاوي) في عديد المشاهد، بغرض إضفاء طابع شعبي ومسل على العرض. ونجح في بناء صورة مسرحية مريحة وممتعة للعين وجاذبة لها، بخاصة أنه يعمل في عدة أمتار قليلة هي مساحة التمثيل في القاعة، التي تتسع، بالكاد، لعشرين مشاهداً. في هذه المساحة الضيقة لعب المخرج بشكل واع على التفاصيل الدقيقة، وعلى رغم أنه كان يميل في أغلب أعماله السابقة، أكثر إلى الرمزية، فقد أرادها هذه المرة واقعية من خلال الديكور، الذي صممه أحمد أمين، وهو عبارة عن سطح بناية، بكل ما يضمه من مفردات ومهملات وتفاصيل أجاد المصمم التقاطها وتوظيفها، لخدمة صورة العرض وأحداثه. واعتمد مصمم الإضاءة إبراهيم الفرن على الإنارة في أغلب المشاهد، ولم يلجأ إلى التلوين إلا في مشهد محاولة أحد الناشرين اغتصاب عاملة النظافة، التي ذهبت إليه يوماً لتعرض عليه رواية كتبتها. استخدم الإضاء الحمراء، وما عدا ذلك كانت البساطة هي سيدة الموقف، فالموضوع والمكان لا يحتملان أكثر من ذلك، وفكرتا البساطة والاقتصاد سيطرتا على العرض.

يبدأ العرض من خارج القاعة حيث تقوم عاملة النظافة، في زيها المعتاد (صممت الأزياء نهاد السيد) بتقديم استعراض راقص (تصميم الاستعراضات مناضل عنتر) على وقع أغنية تعبر عن وضعيتها كعاملة نظافة، للشاعر الراحل متولي عبداللطيف، موسيقى حاتم عزت، وهو قدم كذلك أكثر من أغنية داخل العرض (أشعار محمد مخيمر ومتولي عبداللطيف)، وقدم ألحاناً متنوعة، وبشكل حي، جمعت بين الشجن والمرح، وبين الطابعين الشرقي والغربي. وكانت الموسيقى واحدة من أبرز عناصر العرض، وأضفت عليه مزيداً من الثراء والحيوية، فضلاً عن تفاعل الموسيقى مع عديد من المشاهد، ليس كعنصر جمالي فحسب وإنما كعنصر مساهم في بناء الدراما ومعبرعما يدور داخل الشخصية أمامنا، ومتحاور معها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبعد أن ينتهي الاستعراض الخارجي تفاجأ عاملة النظافة بأن شخصاً ما اعتلى البناية ساعياً إلى الانتحار، فتهرول إلى الداخل صاعدة إلى سطح البناية، ثم يدخل الجمهور القاعة ليجد نفسه فوق سطح البناية، متابعاً ما يحدث بين عاملة النظافة والرجل، غير المرئي لنا، الذي يحاول الانتحار.

اختار المخرج والدراماتورج جمال ياقوت الممثلة والمطربة فاطمة محمد علي لأداء دور عاملة النظافة، وكان عليها أن تبذل جهداً مضاعفاً في أداء هذه الشخصية، تمثيلاً وغناء ورقصاً. وهي لم تخذله وقدمت أداء عكس خبرتها الطويلة وتمرسها في الغناء والتمثيل والرقص، واستطاعت أداء ذلك بوعي واحترافية. وكانت مقنعة في أداء هذه الشخصية، قارئة جيدة لأزمتها ودوافعها. مثلت ورقصت وغنت برشاقة وحيوية، وأمسكت بالشخصية في تصاعد درامي محسوب، واشتبكت مع الجمهور وأشركته في جدلها. وإن كانت علاقتها بالعرائس وطريقة استخدامها لها تحتاج إلى شيء من الانضباط والتدريب.

"سيب نفسك"، أي مارس حياتك كما يحلو لك، ولا تحمل لها هماً، عرض يبدو متفائلاً، أو يحاول البحث عن أسباب للتفاؤل، داعياً إلى التعاطي مع الحياة، أياً كانت تصاريفها، ممجداً إياها في كل أحوالها. لكنه لم يسع إلى فرض تفاؤله على المشاهد، بل ترك له حرية الاختيار، بعد أن قدم أحداثه ومفارقاته.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة