ملخص
تشكّل العلاقة بين #الملك_عبد العزيز مؤسّس المملكة العربية السعودية والأديب اللبناني المهجري #أمين_الريحاني، فيلسوف الفريكة، التي نشأت في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، أنموذجاً فريداً للعلاقة بين الحاكم والمثقّف
تشكّل العلاقة بين الملك عبد العزيز، مؤسّس المملكة العربية السعودية، والأديب اللبناني المهجري أمين الريحاني، فيلسوف الفريكة، التي نشأت في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، أنموذجاً فريداً للعلاقة بين الحاكم والمثقّف. ولعل فرادتها تكمن في شخصية كلٍّ من طرفي العلاقة؛ فالملك " جندي موفّق ظافر، ومصلح مبدع مبتكر، وتقيٌّ ورِع صالح، وجواد سخيٌّ سمح، وراسخ وطيد متين، وذكيٌّ حاذق لبيب، وشجاع جريء مقتحم، وإنسان لطيف مهذّب، نبيل في تواضعه جليل في احتشامه"، على حدّ تعبير الكاتب الانكليزي كنث وليامز (ص 46). يحب المناقشة والحوار (ص 26)، يحب العلم ويدني العلماء (ص 05). يقدّر الأدباء ويهتم بالتدوين والتاريخ والخيل (ص 37، 38)، ويحرص على المصلحة الوطنية والقومية (ص 25)، يستشعر أحوال الأصدقاء (ص 50).
أمّا الريحاني "فكاتب رشيق العبارة، متين التركيب، يُطرِب بأسلوبه وبآرائه الفلسفية، تُعرِب أشعاره عن عقلية سامية وروح رفيعة ورجحان قوّة الاستقراء ودقّة شرح أسرار الحياة، وما وراء الحياة، إفرنجي الأسلوب عصري الأفكار راقي الوصف والخيال والابتكار، ينظم الشعر الخيالي البليغ المؤثّر باللغة الانكليزية والعربية"، على حدّ تعبير توفيق الرافعي (ص 29). جميل الخلق كريم الصفات (ص 31)، مخلص للملك، يخدمه بقلمه وفكره وجهده (ص 27)، كثير الترحّل والمطالعة (ص 29)، يتواصل مع ملوك العرب لتوحيد كلمتهم (ص 03). يهتمّ بالقضية العربية، والتاريخ، والخيل (ص 37). وغنيٌّ عن التعبير ما يجمع بين الرجلين من صفات مشتركة تجعل العلاقة بينهما فريدة ومفارقة للعلاقة النمطية بين السلطة والمثقف، وما شابها من الحذر وعدم الثقة والصراع، عبر التاريخ.
خطة الكتاب
هذه العلاقة وتمظهراتها المختلفة تعكسها الرسائل المتبادلة بين الملك والأديب، بين عامي 1340 و1358 الهجريّين، التي صدرت في كتاب "الملك عبد العزيز وأمين الريحاني الرسائل المتبادلة"، وهذه الرسائل هي مادّة البحث الأكاديمي الذي أعدّه الباحث السعودي قائم بن سماح العنزي، وأصدره حديثاً في كتاب عن "مؤسّسة الانتشار العربي" و"النادي الأدبي الثقافي بالحدود الشمالية"، تحت عنوان "شعرية الخطاب في الرسائل المتبادلة بين الملك عبد العزيز وأمين الريحاني".
يضم الكتاب مقدّمة، وتمهيداً، وأربعة فصول يشتمل كلٌّ منها على ثلاثة مباحث، وخاتمة. في المضمون، وبعد تسويغ من الأكاديمي فهد بن ابراهيم البكر، المتخصص في أدب الرسائل، لمادة البحث باعتبارها قابلة للدرس من أبواب بلاغية وسيميائية ونصية (ص 15)، يقدّم الباحث العنزي كتابه بالإشارة إلى ماهيته المتمثلة في تلمّس شعرية الخطاب الرسائلي المتبادل بين الملك والأديب، وإلى دوافع وضعه المتمثلة في حق الملك على الدارسين والباحثين في الدراسة والبحث، وإلى أهميته باعتباره الأول الذي يرصد شعرية التراسل بين الطرفين، وإلى خطّته ممّا سبقت الإشارة إليه أعلاه. ويمهّد له بالتعريف بالشخصيتين ورصد العلاقة بينهما بتجلياتها المختلفة، تلك التي تظهر، على المستوى السياسي، بلقائهما على وحدة الصف العربي وعدالة القضية الفلسطينية وترسيم الحدود بين البلدان والتفاهم بين الزعماء العرب.
وتتجلى على المستوى التاريخي، باجتماعهما على حب التاريخ والحرص على تدوينه، فيقوم الريحاني بكتابة تاريخ الملك والمملكة، ويقوم الملك بمراجعته وتعديله حيث تدعو الحاجة. وتتجلى، على المستوى الاقتصادي، بالآراء السديدة التي يطرحها الريحاني على الملك حول امتيازات النفط، وتحصيل المال العربي من الشركات، وتأسيس بنك في جدة وسواها من الأفكار الناجمة عن احتكاك الريحاني بالعالم الغربي. وتتجلى، على المستوى الوجداني، بروابط الأخوة والمحبة والود والتقدير التي كانت تجمع بينهما. وتتجلى، على المستوى الثقافي والأدبي في محبة الملك للعلم، وتقريبه العلماء، ومتابعته المقالات، وعشقه التراث العربي، وتشجيعه البعثات العلمية، وتبادل الرسائل بينهما.
تتوزع شعرية الخطاب التي يتقصّاها الباحث في الرسائل المتبادلة على: شعرية السرد في الفصل الأول، شعرية الزمن في الفصل الثاني، شعرية الوصف في الفصل الثالث، وشعرية الإرتكاز في الفصل الرابع. على أنه قبل الخوض في هذه الشعريات، لا بد من ملاحظة في المنهج المعتمد في عملية التقصّي وما ترتّب عليه من نتائج؛ فالباحث يتخذ من نظرية الخطاب القصصي للناقد الفرنسي جيرار جينيت التي أرساها في السبعينيات من القرن الماضي، منهجاً للبحث في الرسائل، ما يطرح إشكاليتين إثنتين، على الأقل، تتعلّق الأولى باستخدامه منهجاً غربياًّ لقراءة نص عربي، وهو أمر قد يكون مبرّراً في ظل عالمية النقد وافتقار النقد العربي إلى منظومة نقدية حديثة. وتتعلّق الثانية باستخدام نظرية وُضِعت في الأصل للخطاب القصصي في قراءة الرسائل، على ما بين هذين النوعين من تباين نوعي، أي أنه استخدم الأوسع لقراءة الأضيق، وقد بذل الباحث في هذه العملية جهوداً واضحة، وتوصّل إلى نتائج معيّنة.
بالعودة إلى الفصول الأربعة، نشير إلى أن الفصل الأول منها يتمحور حول الحوار والسرد؛ فيعرّف الباحث بالحوار، على المستويين اللغوي والاصطلاحي، ويميز بين نوعين منه: داخلي يجري داخل الشخصية، ويقوم بوظائف التعبير عن دخيلة المحاوِر، والبيان والإيضاح، والتفاعل التواصلي، ويضرب الأمثلة التطبيقية على هذه الوظائف من الرسائل المدروسة. وخارجي يجري بين شخصيتين اثنتين، ويتنوع بين العاطفي والمتعدّد والتعريفي والمتعدد التعريفي والتفصيلي، ويضرب على هذه الأنواع الأمثلة التطبيقية اللازمة، من جهة.
الأمثلة التطبيقية
من جهة ثانية، يتناول الباحث الخطاب بأنواعها، المباشر وغير المباشر والمروي، معرّفاً بكل نوع، ضارباً الأمثلة التطبيقة عليه من الرسائل. ويخلص بنتيجة ذلك إلى أن الرسائل تتنوع في خطابها وتتعدد في أساليبها. وهنا، لا بد من ملاحظة منهجية أخرى تتمثّل في أن الباحث حين يعييه العثور على مثل تطبيقي مناسب، لهذا المصطلح أو ذاك، لم يكن يتورّع عن ضرب أمثلة من خارج الرسائل الصادرة عن الطرفين المعنيّين أو من خارج النوع الأدبي المدروس، ما يشكّل خروجاً عن المادة الأولية للدراسة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الفصل الثاني من الكتاب، يدرس العنزي الزمن، في ترتيبه ومدّته وتواتره؛ فيتناول، في إطار الترتيب، الاسترجاع بأنواعه الخارجي والداخلي والمختلط مع أمثلة تطبيقية على كل نوع من الرسائل، والاستباق بنوعيه التكميلي والتكراري ضارباً الأمثلة على كل منهما، ومتوقّفاً عند وظائف الاستباق في التمهيد والتوقّع والتطلّع والإعلان والاستشراف. ويتناول، في إطار المدة، تسريع الحكي من خلال تقنيتي الإجمال والحذف، وتبطئة الحكي من خلال تقنيتي الوقفة والمشهد. وهو، إذ يعرّف بكلٍّ من هذه التقنيات يضرب الأمثلة عليها، من داخل الرسائل ومن خارجها، ويخلص من خلالها إلى تحديد وظائف كلٍّ منها. ويتناول، في إطار التواتر، أنواعه الثلاثة، التفرّدي والتكراري والتردّدي، بالتعريف والتمثيل.
الآلية نفسها يعتمدها العنزي، في الفصل الثالث، المتعلق بدراسة الوصف في الرسائل، فيتناول بالتعريف والتمثيل وظائفه، الجمالية والإخبارية والتفسيرية والرمزية والتمثيلية والتعبيرية والإنتاجية والاستبطانية. ويفعل الشيء نفسه في دراسة أنواعه، الزماني والمكاني والإنساني، وفي دراسة مظاهره، المباشر والاستدعائي والتلميحي والتاريخي والديني والدبلوماسي والعاطفي. ولا يشذ العنزي عن هذه الآلية، في الفصل الرابع والأخير من كتابه، فيدرس التبئير بأنواعه، الصفري والداخلي والخارجي، معرّفاً بالمعنى الاصطلاحي لكل نوع، وممثّلاً عليه بأمثلة من الرسائل المدروسة. ويختم العنزي كتابه بخاتمة قصيرة، يُجمِل فيها ما قام به في الفصول الأربعة، ويدعو الدارسين إلى إيلاء أدب الرسائل عند الملك الاهتمام اللازم من زوايا نقدية حديثة.
بناءً على ما تقدّم، وبمعزل عن الملاحظات المنهجية، يشكّل "شعرية الخطاب" بحثاً أكاديمياًّ رصيناً، يدشن اهتماماً نقدياًّ بأدب الرسائل الملكي، ويعكس جدية الباحث وجهده الكبير، ما يجعله جديراً بالقراءة.