مع ذكرى الـ23 من يوليو، يثار في مصر جدل واسع حول ماهية "حركة الضباط الأحرار"، والتي اندفعت بدعم من حراك شعبي واسع إلى "ثورة" خلّدتها السينما المصرية في مواقف عديدة، فهل أنصفت السينما هذا الحدث المصري الأهم في تاريخ مصر المعاصر، أم تحاملت عليه؟
أفلام عدة تعرضت لثورة يوليو، لكن تختلف الآراء حولها بين مؤيد ومعارض، حيث جسّدت الثورة بطريقة قد لا ترضي جميع الأطراف أو لا تقدم المعلومات الكافية التي تحتاجها الأجيال المتعاقبة لفهم أهداف ومعالم ونجوم وأبطال وعيوب ومساوئ تلك الثورة، وقيل إن معظم الأفلام والأعمال التي قدمت عن الحدث كانت أقل منه، أو ربما ليست على مستواه.
هناك نوعان من الأفلام، أحدها عبّر عن الثورة وأهدافها بصورة إيجابية، مثل "الباب المفتوح" لفاتن حمامة، و"بورسعيد" لفريد شوقي، وهدى سلطان، و"الأيدي الناعمة" لأحمد مظهر وصباح وصلاح ذو الفقار، و"الحقيقة العارية" لماجدة وإيهاب نافع، و"رد قلبي" لشكري سرحان ومريم فخر الدين، و"الله معنا" لعماد حمدي وفاتن حمامة وشكري سرحان وحسين رياض.
وعبّرت أفلام أخرى بشكل غير مباشر عن دعمها للثورة بإبراز سلبيات العصر الملكي، مثل أفلام: "غروب وشروق"، و"القاهرة 30"، و"بداية ونهاية"، و"في بيتنا رجل".
وكانت الأفلام التي على خلاف مع الثورة أو قدّمت بعض مساوئها قليلة، وركز معظمها على مراكز القوى والاعتقالات والتعذيب في السجون وضحايا بعض الممارسات القمعية التي تعرض لها مواطنون في بعض الأحيان، ومن أهم هذه الأفلام "الكرنك"، و"احنا بتوع الأتوبيس".
أثرت الثورة كثيرا على كل نواحي الفن من إذاعة إلى تلفزيون إلى سينما، ويتحدث الناقد الفني المصري طارق الشناوي عن هذا التأثير، قائلا "كانت الإذاعة المصرية هدف الثورة الأول، فمنذ بداية الثورة ومنذ أول صباح لها اقتحم أنور السادات أحد الضباط الأحرار مبنى الإذاعة الذي حاصرته رجال القوات المسلحة، وقابل المذيع فهمي عمر لإذاعة البيان الأول للثورة، حيث كانت الإذاعة وسيلة التواصل الأولى مع الجمهور، فلم يكن التلفزيون قد أنشئ وقتها، وللأسف تم تعيين ضابط بالإذاعة للسيطرة على كل ما يذاع وعين في موقع (رئيس أركان الإذاعة)، وللأسف اتُّخذ قرار بمنع أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب لأنهما كانا محسوبين على الملك فاروق، وغنيا باسمه، ولكن جمال عبد الناصر ألغى هذا القرار وأعاد أغانيهما في وقت لاحق".
ويتابع الشناوي "بعد قيام ثورة يوليو بأربعين يوما، أصدر الرئيس المصري وقتها محمد نجيب بيانا لإحكام قبضة الدولة على الفن، وكان عنوان البيان «الفن الذي نريده»، وجاء في البيان أن السينما وسيلة من وسائل التثقيف والترفيه، وعلينا أن ندرك ذلك، لأنه إذا ما أُسيئ استخدامها فإننا سنهوي بأنفسنا إلى الحضيض وتدفع بالشباب للهاوية، فلا يوجد فيلم إلا وأُقحِمَت فيه راقصة، وهذا كان يليق بالعهود البائدة ولكنه لا يليق بمصر الثورة".
وأضاف الشناوي "بيانات الرئيس نجيب بخصوص الفن أثارت جدلا كبيرا، ولكن أغلب السينمائيين صمتوا وجاملوا السلطة وبدأت لقاءات السلطة مع السينمائيين تتعدد ومعظمهم يواصل الترحيب أو النفاق، ولم يعترض على رؤية الضباط الأحرار للسينما سوى القلة القليلة من المخرجين، ومنهم أحمد بدرخان ومحمد كريم وحسن رمزي، واعترض البعض على بيان نجيب بقوله: نحن شعب مرح وليس معنى الثورة أن ننتج أفلاماً حزينة"
ويوضح الشناوي "في الوقت الذي حاربت فيه الثورة بعض النوعيات من الأفلام، دعمت أفلاما ونجوما آخرين بهدف تقديم دعوة أو تدعيم هدف معين، حيث ساندت إنتاج أفلام يلعب بطولتها النجم الكوميدي إسماعيل ياسين، مثل: إسماعيل ياسين في الجيش، ثم إسماعيل ياسين في الأسطول، وإسماعيل ياسين في الطيران، وكان هدف هذه الأفلام حث الشباب على الالتحاق بالأسلحة الوطنية".
ويقول الشناوي "شهد الفن بداية من الأفيش السينمائي وحتى المحتوى الدرامي تأثرا كبيرا بالثورة ورجالها، فمثلا بعض الأفلام التي كان يتم تصويرها تغيرت أسماؤها لمواكبة الثورة، وهناك بعض صناع السينما كانوا يكتبون تأييدهم للجيش على أفيش العمل السينمائي، والبعض الآخر كان يقحم أغنيات أو مونولوجات في الأفلام مجاملة للثورة والسلطة والضباط الأحرار".
وأشار الشناوي إلى أنه "على مستوى الغناء كان هناك مجاملة كبيرة جدا تحدث على معظم المستويات، ومعظم المطربين تسابقوا إلى الغناء للثورة والغناء باسم جمال عبد الناصر في كل حفل، لدرجة أن الأمور زادت عن حدّها ورفض عبد الناصر ذلك، وطلب منع المطربين من التغني باسمه، لكنهم لم ينفذوا ما طلبه وظلوا يغنون باسمه".
وأوضح الشناوي أن "الأفلام التي حاولت تصوير وتوثيق الثورة بشكل تاريخي أو فني قابلت العديد من الأزمات والمحاذير، مما عرقل إنتاج فيلم كامل ومحكم وعادل، ومن هذه المحاذير عدم التطرق لشخصية محمد نجيب، وتم التشديد على ذلك لدرجة أن شخصيته حذفت من بعض الأفلام منها فيلم (الله معنا)".
ويلفت الشناوي إلى أنه "بعد هزيمة 1967 رفع جمال عبد الناصر سقف الحرية وطلب زيادة هامش النقد الموجه له لامتصاص غضب الناس بعض الشيء، ولهذا سمح بعرض فيلم (شيء من الخوف)، الذي قيل إنه إسقاط سياسي على عبد الناصر نفسه، وتم رفضه من الرقابة تماما خوفا من غضب الرئيس، لكن عبد الناصر تقبّل النقد وسمح بنفسه بعرض الفيلم".
واختتم الشناوي حديثه عن أفلام ثورة يوليو وأثر الثورات في الفن بقوله "شهدت مصر ثورات عديدة، منها 23 يوليو 1952، وثورة التصحيح في عام 1971 التي أطلقها السادات لتصحيح أخطاء ثورة 23 يوليو. وفي العصر الحالي شهدت مصر ثورة 25 يناير ثم ثورة 30 يونيو، وحتى الآن لم تفلح السينما أو الوسائل الفنية عموما في رصد وتوثيق أي من هذه الثورات في عمل فني متكامل وعادل وشامل وحقيقي. كلها محاولات من قريب أو بعيد لكنها لا تليق بالثورات، ولم تكن على مستوى الحدث".
وقال الناقد الفني ياسر حماية إنه "لا يوجد عمل فني يمكن أن يمثل ثورة 23 يوليو تماما، سواء بالسلب أو بالإيجاب، فكل الأعمال طغت عليها إما نزعة الحماس الشديد للثورة، أو موقف مناهض لها ويتم التعبير عنه بطريق الإسقاط السياسي".
ويضيف "الأفلام التي احتفت بالثورة وساندتها كثيرة، مثل (رد قلبي)، و(الأيدي الناعمة) و(في بيتنا رجل) وغيرها من الأعمال المهمة في تاريخ السينما، بينما أعمال أخرى استخدمت الرمزية في نقد الثورة، مثل فيلم (شيء من الخوف) للنجمة شادية والعملاق محمود مرسي، ورغم حساسية الموقف وخطورته تم عرض الفيلم رغم نقده الواضح لشخصية جمال عبد الناصر. أما مساوئ الثورة والتي تمثل بعضها في السجون والمعتقلات فأبدع فيها فيلم (الكرنك) و(احنا بتوع الأتوبيس)، ورغم السواد الدرامي الكامل في هذه الأعمال لكن على مستوى الصورة والدراما والسينما هي من أروع الأفلام".
ويوضح حماية "سيبقى السؤال الأهم هو لماذا لم تستطع السينما أو الدراما أو حتى الأغاني تقديم عمل فني متفق عليه تماما يخصّ الثورة، والإجابة أن المحاذير والمجاملات والمعارضات دائما ما تطيح أي عمل صحيح ومنطقي ومتكامل، ولهذا من الصعب الحكم على أي فيلم بأنه جيد أو سيئ، ظالم أو عادل، فالأمر أعقد من ذلك، لكن الاتفاق الوحيد في الحكم على الفن بعد ثورة يوليو هو أن هذه الثورة أثرت بشكل كبير جدا على الفن، وحاولت تغيير سياقه في بعض الأحيان وتعديل موضوعاته من وجهة نظرها واستخدام كافة الفنون لخدمة القوى الوطنية وأسلحة الدولة التي تدعم الموقف الأمني والسياسي وتحمّس المجتمع على دعم الثورة ورجالها، ومن ناحية أخرى استخدم الفن كوسيلة للتخويف والتشويه لكل النظام الملكي الراحل ومعارضي الثورة".