Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الرجل الذي أكله الورق" عرض يعيد تشكيل "تاجر البندقية"

مسرحية مصرية شبابية تعتمد فن التضخيم وتدين الرأسمالية وتوحشها

من المسرحية المقتبسة من شكسبير (خدمة الفرقة)

ملخص

#مسرحية مصرية شبابية تعتمد فن التضخيم وتدين #الرأسمالية وتوحشها

تظل أعمال وليم شكسبير مصدراً لإلهام عديد الكتاب والمسرحيين والسينمائيين حول العالم حتى وقتنا هذا، سواء بإعادة تفسيرها في سياقات سياسية واجتماعية وفلسفية مختلفة، أو بالكتابة عنها، أو بالانطلاق من نقطة مركزية فيها لإقامة نصوص جديدة، تفارقها، أو تتقاطع معها. وهذا ما يبقي الكاتب والشاعر الإنجليزي معاصراً أبداً، ومثيراً إبداعياً لغيره من الكتاب.

اشتغل الكاتب الأرجنتيني أوغستين كوثاني (1924-1987)، على نص "تاجر البندقية" لوليم شكسبير، وكتب مسرحيته "رطل من اللحم"، التي عرضت في بوينس آيرس عام 1954، زمن الحرب الباردة بين الغرب والاتحاد السوفياتي سابقاً. ودان فيها الرأسمالية، وعصرن الأحداث، واستبدل بالشخصيات الشكسبيرية شخصيات أخرى، وإن احتفظ بشخصية شايلوك، كشخصية مركزية تتجسد فيها وحشية الرأسمالية ولاإنسانيتها. لكنه لم يحتفظ بالنهاية السعيدة عند شكسبير، مقدماً رؤية سوداوية للعالم في ظل سيطرة الرأسمالية وألاعيبها.

هذا النص قدمته فرقة مصرية شبابية تطلق على نفسها "غروتيسك"، على مسرح نهاد صليحة في أكاديمية الفنون، تحت عنوان "الرجل الذي أكله الورق"، دراماتورجيا وإخراج محمد الحضري.

ضياع الأمل

 

للوهلة الأولى يتلقى المشاهد واحدة من رسائل العرض، بحيث ينفتح العرض على مجموعة من العمال يمسكون بمكانس بدائية (مقشات) يقومون بتنظيف مكان ما غير محدد. فجأة يلمع في الأفق ضوء سريع يهرعون إليه فيتلاشى، ليعودوا محبطين إلى عملهم. ثم يلمع الضوء ثانيًة في مكان آخر، فيهرعون إليه فيتلاشى... وهكذا عدة مرات، وكأن هؤلاء العمال، الذين يمثلون الطبقة الأدنى، محكومون دائماً وأبداً، بضياع الأمل، أو بمراوغته لهم.

هذا المشهد الافتتاحي هو تمهيد لحكاية أكبر، خالف فيها العرض نهاية شكسبير السعيدة. فالبطل المعاصر هنا بيلوبر (قام بدوره علي الكيلاني) يعمل في إحدى الشركات التي لا تعطيه سوى راتب ضئيل لا يعينه على مواصلة حياته وتلبية متطلبات زوجته (قامت بدورها يسرا يسرى) التي لا تنتهي. يضطر إلى الاستدانة من التاجر شايلوك (قام بدوره عمر فتحي)، ويوقع على تعهد باقتطاع رطل من لحمه إذا لم يستطع إيفاء ديونه في الوقت المتفق عليه. يتم فصله من عمله، ويواصل شايلوك إغراءاته ويمنحه المزيد من القروض. وعندما يعجز تماماً عن السداد يلجأ شايلوك إلى المحكمة التي تدين الموظف، ويتم بالفعل اقتطاع رطل من لحمه. وهنا ينبري محاميه (قام بدوره عبد الرحمن الدمسيسي) مكتشفاً أن العقد ينص على اقتطاع رطل من اللحم من دون إسالة نقطة دم واحدة، وإذا حدث فمن حق الموظف الحصول على ممتلكات شايلوك كلها. ويظن الجميع أن المحامي نجح في خطته للإيقاع بشايلوك، إلا أن المحكمة تتأكد من أن اقتطاع رطل اللحم لم يؤد إلى إسالة نقطة دم واحدة من الموظف، فمن أين له بالدماء، وقد جفت تماماً من انسحاقه، سواء من رئيسه في العمل، أو من زوجته الدائمة التأنيب والتعنيف له، أو من التاجر الذي أغرقه في الديون بحجة أنه يحبه ويعمل لمصلحته.

 

وفي المشهد الافتتاحي نفسه، ينهي المخرج عرضه، وكأنها الدائرة التي لا تنتهي، وكأن هؤلاء المطحونين سيظلون هكذا، فاقدي الأمل من أي ضوء يخرجهم من ظلماتهم المعيشة. هي رؤية، على رغم سوداويتها، ليست دعوة للإحباط أو الاستسلام، بقدر ما هي رسالة لتثوير عقل المتلقي وتنويره، كان الحكم في كيفية معالجتها وتقديمها في إطار فني محكم.

ضحك كالبكاء

"غروتيسك" هو اسم الفرقة، وهو نفسه الأسلوب الذي تعامل به المخرج مع عرضه، الذي وصل إلى ما يمكن اعتباره "مرتبة الطقس الساخر، والضحك القاتل، والفرح القاتم". وقد استثمر الهزلي والمشوه والعجائبي، في تقديم رؤيته، واعياً إلى أنه يقدم حالة جادة، وأنه ليس بصدد عمل كوميدي، وإن حضرت الكوميديا أو الضحك، لكنه، على رأي أبي الطيب المتنبي، الضحك الذي يشبه البكاء.

 

اجتهد المخرج كثيراً في اختيار عناصر عرضه، ليوظف كلاً منها في خدمة رؤيته، فالإضاءة، سواء الثابتة أو المحمولة (صممها محمود الحسيني)، كانت واحدة من عناصر العرض الرئيسة التي أسهمت في بناء الدراما ودعمها، بل ولعبت دور الديكور في تعيين بعض الأماكن، ومنها على سبيل المثال مشهد الموظف داخل الكنيسة، فلا كنيسة متعينة أمامنا، وحدها الإضاءة، الساقطة من أعلى، حددتها. وجسدت الإضاءة المحمولة الشموع الموقدة داخلها، كما استغل القفص المعدني (صممه محمد طلعت) الذي وضع الموظف بداخله أثناء النظر في قضيته، في بناء أكثر من مشهد. واستعاض المخرج عن الديكور، كذلك، بأجساد الممثلين في تشكيل عديد اللوحات وتجسيد عديد الأماكن، مما يشير إلى عنايته الفائقة بالصورة وقدرته على تشكيلها بحيل وأدوات بسيطة.

استمرار التشويه

واستمراراً لفكرة التشويه لجأ مصمم الديكور محمد سباعي إلى صياغة الفضاء المسرحي بشكل هزلي: في العمق قاعة المحكمة، التي هي أقرب إلى السيرك منها إلى قاعة محكمة، وما يحمله ذلك من دلالات. فهي بقدر ما تثير من الضحك تعمق فكرة غياب العدالة وهزليتها. وهذا ما بدا أيضاً في ملابس القاضي والمحلفين والمواطنين (صممتها هناء النجدي)، الخالية من أي وقار، أو غير المناسبة لطبيعة أو مكانة الشخصيات المفترضة في الواقع.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في عرض كهذا، ورغبة من المخرج في تكامل عناصره، لعب الماكياج (ميار محمد)، والأقنعة (تصميم وتنفيذ بسنت مصطفى) دوراً مهماً في فكرة التشويه والهزلية، فبدا شايلوك، على سبيل المثال، ببنائه الضخم، أقرب إلى المرأة منه إلى الرجل. وبدا محاميه (قامت بدوره ماهيتاب أحمد) كما لو كان قزماً بشاربين خفيفين وملامح شيطانية. وتنوعت الأقنعة ما بين حيوانية لهؤلاء الذين يتكالبون على الموظف لنهشه، وبشرية حزينة وبائسة، للخدم والعمال.

لم تكن الإدانة، التي تبناها العرض، موجهة للرأسمالية فحسب، بل انسحبت أيضاً على فئات أخرى، تدور في فلكها أو تتأثر بمآسيها، مثل الإعلام، المشغول فقط باللقطة، والزوجة المتسلطة، التي تدفع زوجها للجنون، بوضع نفسها في مقارنة دائمة مع جارتها الثرية. وكذلك بعض فئات الطبقات الدنيا، التي تجيد الأنحاء لتيسير مصالحها، حتى لو سحقت في طريقها أبناء طبقتها. فضلاً عن أن إغراءات المرابي شايلوك للموظف وإغراقه في الديون، ليتحكم بمصيره، ربما أحالت، في إحدى القراءات، إلى مؤسسات مالية دولية، يرى كثيرون في سعيها إلى إقراض بعض الدول وفرضها، شروطاً بعينها عليها، تدميراً لاقتصاد هذه الدول وسحقاً لشعوبها وإفقارها.

طاقة الممثلين

وإذا كان المخرج قد نجح في توظيف كل هذه العناصر بوعي وفهم شديدين، وقدرة على الإمساك بخيوط اللعبة وإدارتها بحرفية واضحة، فقد نجح أيضاً في اختيار ممثليه، وخصوصاً في تشكيلهم بما يتوافق وطبيعة العرض ورسالته، سواء من حيث خطوط الحركة، أو طريقة استخدام أجسادهم وطبقات أصواتهم، كل بما يناسب وضعيته في العرض. وبرز من هؤلاء علي الكيلاني (بيلوبر الموظف المسحوق)، الذي لم ينطق تقريباً بكلمة واحدة طوال العرض، مستخدماً جسده وإيماءاته وتعبيرات وجهه في قول الكثير، فهو واقع تحت وطأة مجتمعه الذي لا يرحم، ومفعول به دائماً، وكأنه لا يملك من أمره شيئاً. كذلك ماهيتاب محمد (محامي المدعي) وحسناً أن جاء بها المخرج فتاة ضئيلة الحجم، حادة الصوت، في تشويه متعمد لصورة المحامي الأفاك المحتال. وعمر مكرم (في دور القاضي) الذي كان أشبه بمهرج السيرك، وآلاء محمد (في دور الطفلة) التي مثلت عنصر النقاء والبراءة، وربما الأمل الوحيد في العرض، وأنطون سلامة (المدير الآلي)، وأنطون فؤاد (المصور الصحافي) وغيرهم من الممثلين الموهوبين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة