Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما عواقب تخلي جنوب السودان عن "الدولرة"؟

محللون: الانتقال إلى العملة الوطنية سيكون صعباً ما لم توضع سياسات لبناء احتياط مقدر من النقد الأجنبي

تأمل الحكومة في أن يعمل إلغاء دولرة الاقتصاد واعتماد العملة الوطنية على ترويض المضاربة على الدولار (غيتي)

ملخص

عملت #الدولرة على الحد من استقلالية السياسة النقدية في #جنوب_السودان وتكبدت الدولة كلف الإنفاق بسبب عدم تطابق العملة

بعد سنوات من اعتماد الدولار الأميركي عملة رسمية "الدولرة" في دولة جنوب السودان بسبب عدم الاستقرار السياسي وانعدام الأمن وسوء الإدارة الاقتصادية والتضخم المفرط وانخفاض قيمة العملة التي فقدت الحكومة والبنك المركزي السيطرة عليها، تراجعت عن ذلك خلال فبراير (شباط) الماضي.

وكان التهرب الضريبي بلغ مداه، إذ عملت "الدولرة" على الحد من استقلالية السياسة النقدية، وتكبدت الدولة كلف الإنفاق بسبب عدم تطابق العملة بشكل سلبي مما أدى إلى تأثير عكسي، إذ لم تعالج المشكلات الاقتصادية التي فرضت من أجلها.

وأعلن وزير الإعلام بجنوب السودان مايكل ماكوي لويث أن "حكومة بلاده أوقفت استخدام الدولار الأميركي ووجهت بتنفيذ جميع المعاملات وتوقيع جميع العقود التجارية بالعملة المحلية"، في خطوة بين الأمل في أن إلغاء دولرة الاقتصاد سيعمل على ترويض المضاربة على الدولار، والخوف من أن تخنق العملية النشاط الاقتصادي في بلد مزقته الحروب وآخرها الحرب الأهلية التي اندلعت عام 2013 واستمرت حتى 2020.

ودعم صندوق النقد الدولي خطوة تقييد استخدام الدولار الأميركي في التعاملات والعقود المحلية كجزء من جهود إدارة الرئيس سلفا كير لاحتواء ارتفاع كلف المعيشة، بحسب ما نقلته صحيفة "إيست أفريكان" عن الممثل المقيم لصندوق النقد الدولي في جنوب السودان جاي جينكينسون.

وجاء القرار الذي أعلنه محافظ بنك جنوب السودان يوهان أويسا داميان خلال تعميم في الـ 27 من يناير (كانون الثاني) الماضي، "يحظر على أية مؤسسة رسمية أو خاصة ضمن الولاية القضائية القانونية لجمهورية جنوب السودان أن تهيمن على تعاملاتها التجارية بأية عملة بخلاف الجنيه الجنوب سوداني، ومن بين هذه الرسوم رسوم الإيجار وصناعة السفر والفنادق والخدمات الترفيهية والمطاعم والمنافذ التجارية وعقود الخدمات الخاصة والتعاملات النقدية".

خلل اقتصادي

ومنذ استقلالها عن السودان عام 2011 ظلت دولة جنوب السودان تعاني مشكلة تدني قيمة العملة الوطنية وندرة العملة الصعبة، إذ تعرض اقتصادها بسبب الحرب الأهلية التي نشبت بعد عامين فقط من استقلالها وسك عملة جديدة بديلة للعملة السودانية إلى انهيار كامل، وأدى ظهور الصراع المسلح الذي اندلع في ديسمبر (كانون الأول) 2013 إلى خفض إنتاج النفط، مصدر الدخل الرئيس للبلاد بنسبة 32 في المئة وهي المصنفة كأكبر منتج له في منطقة شرق أفريقيا، مما أثر في الأداء العام للاقتصاد.

وكانت دولة جنوب السودان قبل ذلك قد علقت إنتاج النفط بعد خلافات مع السودان حول رسوم المعالجة والعبور لتصدير خام جوبا في يناير 2012. وتوقفت وزارة المالية في جنوب السودان عن بيع العملة الصعبة للبنك المركزي في البلاد، ولكن استمرت قيمة الجنيه الجنوب سوداني في الانخفاض مقابل العملات الرئيسة مثل الدولار الأميركي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولم تفلح القرارات في معالجة الخلل الاقتصادي الذي أوصل الأمر في وقت لاحق إلى وجود سعري صرف متوازيين، الرسمي الذي حدده البنك المركزي، والثاني في السوق السوداء التنافسية، ففي 20 أغسطس (آب) 2020، صرح النائب الثاني للبنك المركزي دانييل كيش باوتش بأن "من الصعب علينا الآن في هذه اللحظة إيقاف سعر الصرف السريع هذا لأننا لا نملك الاحتياطات الأجنبية للتدخل في السوق".

واعترف كيش بأن السوق السوداء لجنوب السودان مليئة بالدولار الأميركي، لكنه قال "إن هذه الدولارات لا تشق طريقها أبداً إلى البنك المركزي، فهناك وكالات ومنظمات دولية غير حكومية وبنوك تجارية أخرى تجلب الأموال إلى جنوب السودان، ولكنها لا تأتي من خلال البنك المركزي بل تبيعها مباشرة إلى الناس في الشارع أو السوق السوداء".

رمزية خاصة

وقال الأستاذ المشارك في كلية الدراسات التجارية بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا محمد الناير إن "أية دولة في العالم يفترض أن تتعامل بعملتها لأنها تمثل رمز سيادة الدولة وتكون لها رمزية خاصة، ولا يعقل أن تتعامل بعملة أخرى إلا في إطار التبادل للعملات سواء عبر البنوك أو الصرافات، لذلك تحول التعامل بالجنيه الجنوب سوداني بدلاً من الدولار الأميركي وهي خطوة صحيحة لكن هذا الأمر يتطلب إجراءات كثيرة، فقد تعود شعب جنوب السودان على التعامل بالدولار في ظل عدم استقرار سعر الصرف، وحينما يتم التحول فلن يكون الأمر سهلاً، إذ يحتاج إلى توعية المواطنين وزرع الثقة في العملة الوطنية لتيسير الاستجابة لهذا التحول، وأن يجري التعامل بها في التعاملات التجارية والبنكية وغيرها".

ورأى الناير أن "لهذا التحول آثاراً إيجابية منها التعود على التعامل بالعملة الوطنية، أما الآثار السلبية فهي أن البنوك الأجنبية مثل الكينية والأوغندية اعتادت التعامل بالدولار، لكن بعد أن تغيرت العملة إلى الجنيه الجنوب سوداني سيحتاج الأمر إلى إجراءات كثيرة وضوابط من البنك المركزي لدولة الجنوب لضبط العملية، على أن تعمل الحكومة على وضع السياسات اللازمة لاستقرار سعر صرف العملة الوطنية".

أضاف "إن لم يحدث ذلك فسيكون الانتقال صعباً ما لم توضع سياسات تعمل على بناء احتياط مقدر من النقد الأجنبي يمكن البنك المركزي لجنوب السودان من تحقيق استقرار سعر الصرف، وإذا لم يفعل البنك المركزي ذلك فلن تنجح هذه العملية خصوصاً في حال عدم اليقين الموجودة لدى الناس، وعدم ثقتهم في العملة الوطنية لدولة جنوب السودان، وبالتالي قد يستمر التعامل بالدولار حتى ولو في الخفاء".

تبعات الخطوة

أما عن تبعات هذه الخطوة فقال الناير "ستليها تبعات اقتصادية، فأولاً تراجع إنتاج دولة جنوب السودان من النفط أثر سلباً في تراجع قيمة العملة الوطنية، والوضع مشابه في السودان بعد الانفصال إذ كان إنتاجه من النفط نحو 115 ألف برميل، لكنه تراجع إلى نحو 50 ألف برميل بسبب عدم تطوير الآبار أو استخدام التكنولوجيا المتطورة وكذلك الجانب الأمني".

وتابع، "أما في دولة جنوب السودان فإن العملية تتعلق في معظمها بالجانب الأمني، فبعد الانفصال نشبت الحروب والنزاعات والاقتتال وأدت إلى تراجع إنتاج النفط من نحو 300 ألف برميل إلى نحو 50 ألفاً كصافي إنتاج وهي نسبة متدنية، وهناك نصيب الشركات المنتجة، لذلك لا بد من تطوير إنتاج النفط وزيادة معدلاته".

وأوضح الناير أن "جنوب السودان ليس لديه خيار إلا أن يصدر عبر السودان نظراً إلى البنية التحتية المشتركة بين الدولتين، وكذلك خطوط الأنابيب الممتدة بطول نحو 1600 كيلومتر في طبيعة جغرافية يساعد انحدارها في ضخ النفط إلى ميناء بشائر شرق السودان مما يجعل السودان الخيار الأمثل على رغم أن هناك حديثاً عن أن دولة الجنوب تحاول التصدير عبر دول أخرى، وستكلفها خطوط الأنابيب وحدها مليارات الدولارات إضافة إلى أن النقل البري للنفط سيكون مكلفاً أيضاً".

وتابع، "يتوقف استمرار هذه التجربة على شيء محدد فيمكن أن تنجح لو صحبها برنامج توعية وإعادة الثقة للمواطن في جنوب السودان بالعملة الوطنية وتستطيع السياسات النقدية في البلاد أن تخلق نوعاً من الاستقرار في سعر الصرف بالنسبة إلى العملة الوطنية، فإذا حدث ذلك فمن السهولة بمكان أن يتحول الجنوبيون إلى التعامل بالجنيه بدلاً من الدولار، وإذا فشلت دولة جنوب السودان في تحقيق هذه المؤشرات لن يتخلى المواطنون عن التعامل بالدولار حتى ولو سراً، مما يؤثر سلباً في الاقتصاد".

اضطراب النشاطات

وكما هو متوقع فقد فاقم تفشي جائحة كورونا وعدم الاستقرار السياسي والفساد نفاد الاحتياط النقدي للبنك المركزي في جنوب السودان، كما لم تستطع الدولة تنويع صادراتها في ظل الحرب ولم يفلح طلب الحكومة خطة إنقاذ كحل قصير الأجل من صندوق النقد الدولي.

وحول ذلك قال أستاذ الاقتصاد بجامعة "أعالي النيل" جوزيف يوول إنه "عندما خرج جنوب السودان من الحرب الأهلية كان ينبغي على الحكومة أن تستثمر في البنية التحتية للبلاد مما سيكون له تأثير كبير على اقتصاد جنوب السودان، ولذلك عندما فشل البنك المركزي في الحصول على العملة الأجنبية أدى ذلك إلى مزيد من المعاناة للمواطنين وكل القطاعات".

أضاف أن "صندوق النقد الدولي في تقريره، خلال يوليو (تموز) الماضي، عزا مشكلة ضعف العملة إلى هشاشة الدولة في مرحلة ما بعد الصراع، لكن كان يفترض لهذه المؤسسات الدولية دعم التعافي الاقتصادي الذي أعقب توقيع اتفاق السلام في 12 سبتمبر (أيلول) 2018، والذي نص على إعادة إحياء اتفاق عام 2015 من أجل تسوية النزاع في جنوب السودان بين الرئيس سلفا كير ورياك مشار، وواجهت دولة الجنوب وحيدة صدمة تدني أسعار النفط بسبب كورونا مما أدى إلى خسارة فادحة في الإيرادات وانخفاض حاد في سعر الصرف والتضخم الجامح". وأوضح يوول أن "الارتفاع الحاد في أسعار المواد الغذائية العالمية أدى إلى تفاقم الوضع الإنساني المزري في جنوب السودان، إذ يعيش 70 في المئة من سكان الجنوب، في ظل انعدام الأمن الغذائي الحاد في وقت يتم خفض موازنات المساعدات".

وتابع أستاذ الاقتصاد أن "هذه الإجراءات التي أوصت بها اللجنة التي عينها الرئيس سلفا كير قد يكون مردودها قريب المدى، ومنها التسبب في اضطراب النشاطات الاستثمارية بقطاعات الفنادق ووكالات السفر والبنوك الإقليمية، وقد كانت تعاملاتها في الجنوب من طريق الدولار وهو الذي أبقاها نشطة في ظل عدم الاستقرار، لكن بالنسبة إلى عمليات الاستيراد والتصدير فلن تتأثر كثيراً لأنها ستحتفظ بحق التعامل بالدولار، كما هي حال كل المعاملات الدولية الأخرى".