ملخص
"مئة صورة فوتوغرافية لمئة عام" عنوان معرض للمصور الفرنسي #مارك_ريبو تلقي نظرة على الأحداث التي طبعت النصف الثاني من #القرن_العشرين
"مئة صورة فوتوغرافية لمئة عام" هو عنوان المعرض الذي ينظّمه حالياً متحف "الملتقى" في مدينة ليون الفرنسية لابنها، المصوّر الكبير مارك ريبو (1923 ــ 2016)، في مناسبة حلول مئوية ولادته. معرض لا يفوّت لجملة أسباب، أبرزها تنظيمه على شكل دعوة لاكتشاف ثراء عمل هذا الفنان وتنوّعه، وتشكيله بالتالي فرصة فريدة وحميمة للتآلف مع النظرة البصيرة التي ألقاها على الأحداث التي طبعت النصف الثاني من القرن الماضي. نظرة تحكّم بها فضول لا ينضب تجاه الآخر البعيد، حثّ هذا العملاق على التجوال بلا كلل في مختلف أنحاء المعمورة وعلى التقاط صور رائعة، إن دلّت على شيء فعلى تعاطف وجداني مؤثّر مع أخوته البشر.
وفعلاً، منذ انضمامه إلى وكالة "ماغنوم" في العام 1953، وضع ريبو السفر في صميم عمله. فمن الهند إلى الصين، ومن الجزائر إلى نيجيريا أو غانا، عانقت نظرته ثقافات العالم المختلفة، لا سيما في آسيا حيث أقام مراراً وطويلاً، وأنجز تلك الريبورتاجات المصوَّرة التي اشتهر بفضلها حول التحولات التي شهدتها الصين، من "الطفرة العظيمة" (1957) إلى الازدهار الاقتصادي (في الثمانينيات)، وأيضاً حول الثورات الأخرى الكبرى في إيران أو بولندا أو إفريقيا الجنوبية، وحول الحروب الدموية في فيتنام وباكستان الشرقية (بنغلاديش اليوم)، من الخطوط الأمامية.
معرض ريبو الحالي تبرز مئة صورة نموذجية لعمله من خلال مسار دوري غايته تجسيد الطابع اللا زمني لهذا العمل والإيحاء بسفر الفنان الدائم. وفي هذا السياق، تتوالى بشكلٍ متعرّج الحواجز الفاصلة بين الفضاءات المبتكَرة داخل المتحف، التي خُصِّص كل منها لموضوع ومُنِح خلفية لونية مختلفة. فضاءات تحضر الصور بالأسود والأبيض داخلها بالقياسات المفضّلة لصاحبها، على مسافة من الجدران، وبلا إطار، لتسهيل الانغماس فيها. أما طريقة ترتيبها فتؤلّف متواليات سردية توحي للعين بمقاطع مصوّرة من فيلم. وتنتهي السينوغرافيا بدعوة إلى التأمّل البصري والسمعي على السواء، يجلس الزائر خلالها ويصغي إلى الفنان وهو يعلّق على صورة أخيرة، هي عبارة عن منظر طبيعي يتوارى داخل الضباب.
"كل شيء منظر"
في الصالة الأولى من المعرض، التي تحمل عنوان "كل شيء منظر"، نرى كيف أن ريبو، الذي كان الجمال يجذبه أكثر من العنف، حقّق باكراً حلمه بالسفر، ففكّ قيود حياته عام 1953 وعانق الطريق. سفر قاده أولاً إلى الشرق الذي مارست مناظره الطبيعية عليه جاذبية كبيرة، فبحث على الدوام في أرجائه عن المفاجأة البصرية، تلك السعادة السريعة الزوال، تحرّكه ضرورة ملحّة في تثبيت ما كان يراه. وحتى من دون كاميرا، كان يلتقط صوراً بعينه التي كانت نظرتها الشغوفة ترى منظراً في كل شيء. وإن كان ميله إلى هندسة الصورة سمة مميزة لعمله منذ البداية، فإن الحضور البشري، المرئي أو المخفي، يكشف أيضاً تعاطفه الطبيعي الباكر مع أولئك الذين يناضلون من أجل حريتهم.
في الصالة الثانية التي تحمل عنوان "الرحيل!"، نعرف أن ريبو، بعد التحاقه بالمقاومة الفرنسية في سن الـ 21، غادر يوماً داره ووطنه بلا عودة، فعبر عام 1955 الشرق الأوسط بسيارته، ثم تابع رحلته إلى الهند حيث بقي عاماً بكامله، ثم إلى الصين حيث أمضى شهوراً طويلة، قبل أن يتوجّه إلى إندونيسيا واليابان. بعد ذلك، انطلق في رحلة برّية قادته من ألاسكا إلى المكسيك، وكتب في دفتر يومياته خلالها: "لست برحّالة. أنا متنزّه يسافر بوتيرته الخاصة". ولا شك في أن هذه الوتيرة البطيئة هي التي سمحت لصوره بقول كمّ من الأشياء عن الأماكن التي كان يعبرها وعن أولئك الذين كان يلتقي بهم.
الصالة الثالثة تتوقف عند فضول ريبو الكبير الذي كان يدفعه إلى مساءلة كل مَن كانت المصادفة تضعه في طريقه، أثناء ترحاله، ومحاولة فهمه، قبل تصويره في لحظة خاطفة، غير متوقعة. تتوقف أيضاً عند استمتاعه، لدى التقاطه صوره، في البحث عن ترتيب داخل فوضى المشهد المصوَّر. وحول هذه النقطة، كتب: "أنا من صنف أولئك المصوّرين الذين يسافرون من دون مشروع محدّد، لكنهم متنبّهون إلى كل شيء". وفعلاً، نرى من خلال الأعمال الحاضرة في هذه الصالة هاجس ريبو ليس فقط في التقاط صور، بل أيضاً وخصوصاً في تأليفها. صور غالباً ما يرتكز بناؤها على تفصيل واحد يشكّل مصدر تناغم لأشكالها وخطوطها التي تنكشف ببطء لعين المتأمل فيها.
الصالة الرابعة مرصودة لشغف ريبو بالأحداث التي عايشها: استقلال الجزائر، حرب فيتنام، الثورة الإيرانية، التظاهرات السلمية في واشنطن... واللائحة تطول. أحداث تاريخية حطّ في أماكن حدوثها، في زمن حدوثها، ونشط في تصويرها لا كمصوّر ملتزم، بل كشاهد عيان يحرّكه تعاطف كبير مع أولئك الذين يقاومون أو يتظاهرون. تعاطُف يتجلى بقوة في صوره، خصوصاً تجاه المُهانون والضعفاء، وينبع من إنسانيته الكبيرة وحبّه للناس، مهما كانت هويتهم أو لون بشرتهم، كما ينبع من حساسيته تجاه الأماكن التي كان يحطّ فيها: "الأماكن مثل أصدقاء أرغب في الالتقاء مجدداً بهم ومعرفة أحوالهم".
وهذا ما يقودنا إلى موضوع الصالة الخامسة، أي كيف تمكّن ريبو من تصوير جميع الذين يحضرون داخل صوره كما لو أنهم عظماء أو حالمون أو حكماء يجهلون ذلك عن أنفسهم، وكيف أنه ألقى بالتالي النظرة نفسها على معاصريه، سواء كانوا أشخاصاً متواضعين أو رجال سياسة كبار. وحول هذه النقطة، كتب مواطنه الشاعر أندريه فلتير: "نرى تشرشل مفعماً بالحيوية، ماو كثعلب سمين، كاسترو كخطيب لا يكلّ، نهرو وتشو إن لاي كوجيهين مثاليين... لكن الرقة تعود إلى المجهولين الذين يرقصون، إلى الفتيات اللواتي يقابلن البنادق بالزهور أو يتزوجن بين الأنقاض، إلى العابرين الذين يصارعون سوء الحظ، الغبار أو الريح، إلى جميع أولئك الذين يمدّون القارات الخمس بالحياة من دون أن يشاركوا في قمة دولية واحدة أو يثيروا مؤتمراً صحافياً واحداً أو ينتهي الأمر بهم على طابع بريدي أو لافتة في مطار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتتوقف الصالة الأخيرة من المعرض، التي تحمل عنوان "الرؤية فردوس النفْس"، عند هاجس الشكل الذي تسلط على عمل ريبو التصويري طوال حياته، ويبيّن حفظه أمثولة مواطنه هنري كارتيي بريسون: "يجب أن نلتقط صورة مثلما نشكّل لوحة". هاجس يفسّر جمال صوره ووقعها. وحوله، كتب: "اختيار اللحظة المناسبة وزاوية النظر الجيدة فعلٌ ارتكاسي يتوجّب صقله وتعزيزه باستمرار. وعندها، جزءٌ من الثانية يمنحنا سعادة طويلة".
ويتجلى هذا الهاجس خصوصاً في الصور التي أنجزها في جبال هوانغ شان الصينية، أو "الجبال الصفراء"، التي نشط في أرجائها الرسامون الصينيون. مكان سحري تنقّل ريبو بين قممه أياماً بكاملها بحثاً عن تلك المناظر الطبيعية النادرة الجمال التي تنبثق من تحت الضباب. وفي هذا المكان، تحرّر من ضرورة السرد ولجأ للمرأة الأولى إلى الأفلام الملونة لقدرتها على التقاط بحساسية أكبر تجربته الروحية أمام تلك الرؤى الفاتنة المتلاشية.