ملخص
قتل عشرين ألف أميركي داخل بلدهم العام الماضي. هذه الحقيقة، التي تجعل من #أميركا البلد الأكثر عنفاً، وقد خصصت الـ "فيغارو" الفرنسية ملفاً حول هذا الموضوع خلص إلى أن ثمة مشكلة مخيفة في أميركا.
عشرون ألفاً هو عدد الأميركيين الذين قُتلوا بالأسلحة النارية في بلدهم العام الماضي. رقم مرعب إن قارناه بعدد المدنيين الذين قُتِلوا في الحرب المشتعلة في أوكرانيا في العام نفسه، 6919. هذه الحقيقة، التي تجعل من أميركا البلد الأكثر عنفاً في العالم الغربي، دفعت الصحافة الأميركية والأوروبية إلى تناول ظاهرة العنف المفرط، من وجهات نظر عدة. وقد خصص الملحق الأدبي لصحيفة الـ "فيغارو" الفرنسية ملفاً حول هذا الموضوع. وتستند المقالات الصحافية إلى كتب جديدة وقديمة لكتّاب أميركيين وأجانب. كتب مختلفة في نوعها ومحتواها وزاوية المعالجة المعتمدة فيها، لكن جميعها يقول الشيء نفسه: ثمة مشكلة عنف مخيفة في بلاد العم سام.
"أمة دموية" لبول أوستر
الكتاب الأول هو بحث وضعه الكاتب الأميركي بول أوستر بعنوان "أمة دموية"، ويستعين فيه بصور التقطها مواطنه، المصوّر سبنسر أوستراندر، في الأماكن التي وقعت فيها عمليات إطلاق رصاص مميتة في أميركا خلال السنوات الأخيرة، لصوغ تأملات بصيرة ومؤلمة في الموضوع المذكور، والإجابة عن السؤال الآتي: ما الذي يجعل من الولايات المتحدة البلد الأكثر عنفاً في العالم الغربي؟
ومن هذا المنطلق، يعيد الكاتب قراءة تاريخ وطنه من زاوية استخدام ــ أو بالأحرى إساءة استخدام ــ الأسلحة النارية فيه، فيعود إلى المرحلة التي سمح المستعمِر الأبيض لنفسه فيها بقتل سكان أميركا الأصليين وتهجيرهم، ثم يحطّ في المرحلة التي استعبد هذا المستعمر فيها ملايين الرجال والنساء، قبل أن يصل إلى الزمن الراهن الذي يعاني المجتمع الأميركي فيه، من انقسام عميق بين مؤيد ومعارض لحق المواطن في اقتناء السلاح وحمله، والذي يضمنه دستور البلاد. حق مسؤول، في نظر أوستر، عن وصول 393 مليون سلاح ناري إلى أيدي الناس، وبالنتيجة عن عمليات القتل الجماعي التي تحصل بوتيرة عالية في أميركا، والتي ارتفع عددها إلى 228 خلال السنوات العشر الأخيرة.
قيمة هذا البحث، الذي ينتهي بالتأمل في عهد الرئيس دونالد ترامب والهجوم الذي تعرّض له مبنى الكونغرس في واشنطن، تكمن في مزج أوستر داخله التاريخ بأسرار عائلية رهيبة، العلوم الاجتماعية بالفلسفة، والأحداث بالأرقام، كما تكمن في الأسلوب السردي المتّبع فيه. أسلوب آسِر بجمالياته، وأيضاً بالنظرة الإنسانية العميقة التي تتحكّم به وتسيّره، وهو ما يحوّل النص إلى صفعة أدبية، وفي الوقت نفسه، إلى مرافعة محكمة ضد العنف.
من هنا ذلك الإحساس بالعجز الذي يتملكنا لدى الانتهاء من قراءته. إنه عجز المواطنين الأميركيين العاديين أمام عوائق سياسية وأيديولوجية تمنع أي إجراء للحد من التسلح في بلدهم، وعجز الكتابة عن لأم الجراح التي تسبّب هذا التسلح بها. عجزٌ لا يخفف من سطوة كلمات أوستر وصور أوستراندر التي ترافقها. صور بالأسود والأبيض لأماكن عادية تتحول تحت أنظارنا، بفعل فراغها من أي كائن بشري، إلى "شواهد قبور لحزننا الجماعي".
قصص كارول أوتس
الكتاب الثاني هو مجموعة قصص كتبتها الأميركية جويس كارول أوتس بالمبضع، وتعجّ بالفكاهة السوداء والمشاهد الصارّة. قصص تشكّل مجتمعةً جدارية مؤثّرة لأفراد عاديين يواجهون أوضاعاً غير عادية، وتفسّر خاتمتها الكارثية غالباً عدم تمكّنهم من احتواء غضبهم.
في هذه القصص، تثير اللقاءات بين الرجال والنساء ضيقاً شديداً. ولا عجب في ذلك، فالرجال عنيفون بمعظمهم، ومخيبون للأمل، والنساء يخفين في حقيبة يدهن مخرزاً مسنوناً، ويتذكّرن المغامرات السوداء التي حدثت لهنّ. جوليانا، مثلاً، شابة لها ماضٍ مؤلم من العنف. في قصتها، تبدو سعيدة في الظاهر، لولا أن ذهنها لا يتجمّد باستمرار بسبب ذكريات تجتاحه وتعود بها إلى تلك الحانات التي التقت فيها برجال أقل ما يمكن أن يقال فيهم هو إنهم لم يحسنوا معاملتها.
"حميمية" قصة تسقطنا داخل جلسة مغلقة ورهيبة بين معلمة وطالب عدائي من طلابها، يدخل دارها عنوةً ويزعم أنه من المحاربين القدامى. وفي قصة "فضولي"، نتعرّف إلى كاتب فقد إلهامه، يُفتن بشكل مرضي بشابة تعمل في متجر، فيغرقها برسائل نارية غير موقّعة. وفي "تحويلة"، نشاهد امرأة في منتصف العمر تجد نفسها في واقع بديل مرعب إثر حادث سيارة. وفي "جلسة إفراج مشروط"، نصغي إلى قاتلة تتظاهر بالطيبة واللطف كي يُفرَج عنها، لكن لا تلبث رقّتها أن تتحول إلى صراخ ذهاني.
باختصار، بين جنون وتحرّش جنسي وفرار وأسر، تقدّم أوتس في مجموعتها، باقة من النساء اللاتي يعانين من حالة أسر حقيقي أو رمزي. وعلى خلفية قصصها، تتراءى أميركا معتمة داخل ديكور مستشفيات، متاجر أو مقاهيَ تبدو وكأنها مرسومة بريشة القلق.
مواجهة شعرية للعنصرية
الكتاب الثالث هو البحث الذي وضعه الكاتب والشاعر الهايتي داني لافيريير حول العنصرية على شكل قصائد وقصص. خيار ناجع عزّز من سطوة تشريحه لموضوعه الحساس، الذي يرتكز بشكل كبير على "أميركا الجريحة" كنموذج، وأيضاً على ما كتبه كتّاب كبار في هذا الشأن.
وحول سبب كتابته هذا البحث، والطريقة التي اعتمدها فيه، يقول لافيريير: "أردت أن أكسو مأساة العنصرية بلحم حيّ وبالألم. أن أذكّر أنه، حين يموت شخص بهذه الطريقة، وأتحدّث عن جرائم قتل حقيقية تحدث أمام أعيننا في شوارع أميركا، وأخرى داخل المنازل، يتعلّق الأمر بإنسان، لا بمفهوم. وعلينا ألا ننسى جميع أولئك الذين دُفعوا إلى الانتحار البطيء أو الاكتئاب. (...) يجب أن يتحدث أحد ما نيابة عنهم. لا أحب الاضطلاع بهذه المهمة، لكن بما أن هؤلاء ماتوا...".
اسم الزنجي
وضمن الدافع نفسه، وضع الشاعر والروائي الأميركي الكبير روبرت وارن كتابه الشهير "مَن يتحدث باسم الزنجي؟" (1965)، وهو الكتاب الرابع نظراً إلى صدور ترجمته الفرنسية للمرة الأولى. كتاب على شكل تحقيق حول "الحركة السوداء"، يتضمن مقابلات مع شهود وطلاب وكتّاب وزعماء أميركيين سود، مثل مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كتاب مرجعي إذاً تطلّب جهداً جباراً من صاحبه الذي تخلى فيه عن الخيال ليصبح، برصانة وتواضع، صحفياً إعلامياً. كتاب يسمح بفهم ما حدث مع ذوي البشرة السوداء في أميركا في ستينيات القرن الماضي، أي في تلك المرحلة التي شهدت بداية إلغاء الفصل العنصري، وظهور أميركا رافضة وجريحة. ولدى قراءته، "يتملّكنا الانطباع بالانزلاق خلف الستارة، بعد نصف قرن، وبمشاهدة التاريخ أثناء صنعه، حين لم يكن قد كُتِب بعد وحُفِر على الرخام". والأسئلة التي نستخلصها منه ما زالت، مع الأسف، راهنة.