Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا نحب لغة ونرفض أخرى؟

تبدأ الديكتاتوريات السياسية والثقافية حرب إبادة ضد مجموعات إثنية بمحاولة محو لسانهم الأم

تظل لغة الحلم أعمق لغة لأنها توقظ فينا ما هو لا وعي (أ ف ب)

ملخص

ارتبطت #اللغة_الفرنسية في #مخيال_الجزائري بإرهاب #الاستعمار حتى وهو يتكلم ويكتب بها. يحدث هذا حتى مع الجيل الجديد الذي لم يعرف الاستعمار وربما حتى آباؤه لم يعيشوه

اللغة هي جهاز التنفس الثقافي الأول لأي انتماء هوياتي. هي أكبر أسطورة أبدعها البشر بحثاً عن العيش المشترك أو ضمن مجموعة اجتماعية معينة، العيش معاً بالحرب أو بالحب أو بالحلم أو بالتنافس. 

أعظم اللغات جميعها، بالنسبة إلى الفرد، هي تلك التي يحلم بها، لا تلك التي يصلي بها ولا تلك التي يخترع بها ما قد يطوع الطبيعة ويجعلها تحت تصرفه ولا حتى تلك التي يكتب بها.

لغة الأحلام

مرات أتساءل، يا ترى بأية لغة أحلم؟ ما هو نحو لغة الحلم؟

تظل لغة الحلم هي أعمق لغة لأنها توقظ فينا ما هو لا وعي، ما هو نائم أو منوم فينا، ما هو نحن، هي طريقنا إلى الأنا، هي البوابة إلى العالم الداخلي المعقد والمظلم فينا.

أليست لغة الأحلام هي في الأساس لغة الأم؟

الأم تعطينا الحياة ولغتها تمنحنا إمكانية تأويل هذه الحياة.

أليست اللغة التي نحلم بها هي اللغة التي نحيا بها جوهرياً، هي التي نخلد بها، هي اللغة التي نعيش بها حياة منسجمة مع ذواتنا ثم مع أمهاتنا.

الأم التي هي مركز اللغة، وعلاقة لغة الحلم بالأم وبلغة وبجسد وبرائحة وبحليب الأم هي علاقة معقدة.

ذاكرتنا اللغوية اللاواعية مرتبطة في الأساس بالوجود الأمومي. 

لا لغة حلم من دون الأم.

الوجود اللغوي الأمومي قبل الوجود المدرسي التعليمي وأقوى منه.   

تحيل علاقة الأم باللغة التي نرثها عنها على جوهر الوجود الداخلي، فالأم هي الرحم، ولغتها صدى هذا الرحم (الوجود/ الكينونة).

لغة الأم هي ظل الهوية وروحها.

لقد ارتبطت صورة الأم في المخيال الإنساني بصورة الأرض، بالوطن، بالحب، بالخصب، بالنفس، لذا فلسانها هو جغرافيا هذه الهوية أينما رحلت وحيثما حطت.

الهوية غير ثابتة، الثبات الوحيد والمتحرك الذي يستمر هو ذلك المرتبط بلسان الأم.   

من لغة الحلم إلى لغة المدرسة

لا يمكن للغة المدرسة، مهما كانت حديثة وجادة ومعلمنة وممنهجة، أن تكون بديلة عن سحر لغة الأم بما فيها من غموض قادر على تأويل العالم تأويلات متعددة.

كلما ابتعدت لغة المدرسة عن لغة الأم أصبحت لغة وظيفية وخارجية وباردة، مهمتها تأدية أدوار مهمة في الحياة، ما في ذلك شك، لكنها ناقصة ملح لسان الأم.

نتعلم لغة قبل أخرى لأنها قبل كل شيء تمثل مرآة هويتنا، نتعلمها لأنها مرتبطة بالأم، نتعلمها بطرق مختلفة، عن طريق علاقة "الحليب الأمومي".

فنقول هذه لغة الأمومة، أي اللغة التي نتعلمها مع وفي حليب الأم، نشربها مع الرضاعة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لذلك تتكرس وبشكل عفوي لا واعي علاقة سيكولوجية متينة ما بين المتعلم ولغة أمه، حيث الكلمات، ها هنا، تكون أكبر من المعاني المحددة في القاموس.

على رغم شفافية لغة الأم وهشاشتها، إلا أنها تمثل المقاومة الأكثر شراسة تلجأ إليها المجموعات الإثنية كلما شعرت بأن وجودها اللغوي والحضاري والتاريخي مهدد بالإبادة أو بالانقراض.

تبدأ الديكتاتوريات السياسية والثقافية واللسانية حرب الإبادة الشاملة ضد المجموعات الاجتماعية الإثنية بمحاولة محو لغة الأم التي هي الحارس الحقيقي للذاكرة وللمستقبل. 

لكن المشكل الذي يعترض ويشوش على العلاقة ما بين المواطن الطفل وحليب اللغة الأمومي، هو ذلك الانتهاك الذي يتربص بها والقادم من لغة أخرى، اللغة المعيارية التي لها جمالها ومقاييسها وسيكولوجيتها ولها عنفها أيضاً.

قواعد النحو والصرف والبلاغة التي نتعلمها في المدرسة والتي تتحكم في هذا الذي أكتبه الآن في هذه المقالة تشوش على النحو وبلاغة لغة الأم.

يحدث هذا التشويش والاختراق في غالبية اللغات الإنسانية، لكن مساحته ووجوده في العربية يبدوان كبيرين وواسعين، فالمساحة عريضة ما بين النحو الأمومي ونظيره المدرسي.

وحيال هذه المساحة نجد أنفسنا نقضي حياتنا الثقافية في حال تشبه حال "المترجمين"، إننا نكتب بعيداً من لغة الأم.

كلما تدبرنا أسرار لغة المدرسة، مهما كانت هذه اللغة، كبرت خيانتنا للغة الأم.

لماذا يرفض الجزائري اللغة الفرنسية؟

ارتبطت اللغة الفرنسية في مخيال الجزائري بإرهاب الاستعمار، حتى وهو يتكلم بها، حتى وهو يكتب بها، يحدث هذا حتى مع الجيل الجديد، الجيل الذي لم يعرف الاستعمار، وربما حتى آباؤه لم يعرفوه، ولم يعيشوه.

لم تتمكن الطبقة السياسية التي أسست للدولة الوطنية أن تحول اللغة الفرنسية إلى "غنيمة حرب" كما عبر عنها كاتب ياسين، بل في المقابل استطاعت أن تحول "العداء ضد هذه اللغة" إلى رأسمال شعبوي لتكريس وجودها.

مارس التيار السياسي العروبي- الإسلامي في الجزائر ومنذ نهاية السبعينيات حرباً أيديولوجية ضد اللغة الفرنسية لتوسيع وجوده، مستثمراً في صدق مشاعر كراهية الجزائريين للزمن الكولونيالي البشع، ومن هذا المنطق عرفت العشرية السوداء اغتيال عدد كبير من معلمات ومعلمي اللغة الفرنسية، وهم مواطنون بسطاء، لا ذنب لهم سوى أنهم وجدوا كمدرسين لهذه اللغة التي أصبح تعليمها وتعلمها يدخلان في باب الخيانة وفي باب الكفر.

لقد انتهى الوجود الاستعماري التقليدي الفرنسي من الجزائر بعد حرب تحريرية نموذجية وشجاعة ومشرفة، لكن الطبقة السياسية الجديدة، وعلى مدى 60 سنة، استطاعت أن تخلق "فرنسا جديدة" لكي تواصل الحرب ضدها، ومن خلال هذه الحرب يتم توجيه الرأي العام وتجييش الشعب في معركة لا تنتهي، معركة تلهيه عن معركة مواجهة التخلف والفقر.

صحيح أن فرنسا الاستعمارية خرجت من الجزائر بمرارة لم يتقبلها حتى الآن اليمين الفرنسي المتطرف، ولم تستطع الطبقة السياسية المتعاقبة هناك أن تتجاوزها، هي هزيمة موشومة، وهي التي تحرك هذه الكراهية وتزيد من حجمها ومن منسوبها.

أمام هذا الواقع المعقد وفي غياب رؤية بيداغوجية جريئة وبراغماتية، تشكلت في المدرسة الجزائرية عقدة مفادها، يجب القضاء على تعليم الفرنسية قضاء نهائياً، وفي هذا الصدد، تناقلت شبكات التواصل الاجتماعي، رسالة غريبة موجهة من تلميذ إلى معلمته التي تدرسه اللغة الفرنسية يطالبها بأن تتوب إلى ربها، وألا تتكلم بالفرنسية، أن تعلمهم الفرنسية بالعربية، وأن الحديث بهذه اللغة هو عدوان على العقيدة والأخلاق.

صحيح أن اللغة الفرنسية مقارنة بنظيرتها الإنجليزية لم تعد قوية على كثير من المستويات، التكنولوجية والعلمية والثقافية والفنية والاتصالية، لكن دعاة تعويضها بالإنجليزية هو من باب هذه العقدة النفسية، لا من باب تطوير التعليم والانفتاح على العالم.

لقد اختارت دول أميركا اللاتينية الإسبانية وهي لغة المستعمر لغة وطنية وحولتها إلى غنيمة حرب، فهذه الدول المستقلة اليوم، وهي تتعامل بلغة المستعمر لا يمثل ذلك نقصاً في سيادتها، فالمكسيكي أو الفنزويلي أو الكولومبي وهو يتكلم الإسبانية ليس إسبانياً، والبرازيلي وهو يتكلم البرتغالية أو يكتب بها روائع الأدب ليس برتغالياً، والأميركي الشمالي في الولايات المتحدة أو في كندا وهو يتكلم الإنجليزية أو يكتب بها أو يخترع بها ليس إنجليزياً.

إن علاقتنا باللغات، لغة الأم واللغات الأجنبية، يجب أن تتأسس على قاعدة الدفاع عن البعد الهوياتي، حين الحديث عن لغة الأم، اللغة الوطنية، وعلى قاعدة "المنفعة المتبادلة" حين يكون الأمر متعلقاً باللغات الأجنبية، مهما كانت العلاقة معها، فحين نتمكن من تحقيق هذه المعادلة فإننا نخلص المدرسة والمتمدرس من عقدة نفسية وسياسية، ونعيد التوازن اللغوي ونؤسس لجيل قوي في طبيعة علاقته بلغة الأم وبلغة الآخر وبلغة التجارب التاريخية بكل ما فيها من محن.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء