Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل من مواثيق لضبط "تلاسن الكتاب" العابر للحدود؟

مع وقوع خلافات بين الدول تظهر اختلافات بوجهات النظر بين الصحافيين في كل دولة ويؤخذ على بعض الإعلاميين تلغيم كلماتهم بأيديولوجيا غير معلنة

لسبب ما يفوق التأثير السلبي لما يرد في الإعلام التأثير الإيجابي (أ ف ب)

ملخص

#الحروب_الكلامية تبقى مثاراً للشد والجذب ومادة للقيل والقال وتنال من مصداقية أصحابها وتنتقص طبقة من طبقات الثقة بينهم وبين قرائهم.

ينص الدرس الأول في كلية الإعلام على أن الإعلام وسيلة مهمة من وسائل دعم العلاقات الدولية، وبناء الشراكات بين دول العالم، وحماية الأمن القومي، ولفت انتباه الشعوب إلى ما تتعرض له من أخطار، وتوجيه الرأي العام ورفع الوعي في القضايا المحلية والدولية.

لكن الدرس لا يتطرق كثيراً إلى ما وراء العلاقات الدولية والقواعد غير المكتوبة التي تحكم الشراكات بين الدول ومعايير الأمن القومي وتعريف "أخطار" اليوم، التي ربما تتحول إلى "فرص" الغد أو "أوهام" الأمس، أما الرأي العام، فقد بلغ درجة من التوغل والتحول والتقلب حتى أصبح العام خاصاً والخاص عاماً وما بينهما رهن توجيهات سياسيين وتوجهات إعلاميين وقرارات لا تمت بالضرورة بصلة لمصالح الشعوب.

مصالح الشعوب معقدة

لكن مصالح الشعوب نفسها تصبح شديدة التعقيد غارقة في الضبابية، لا سيما حين يقرر إعلاميون أو يتقرر لهم التخلي بعض الشيء عن المعايير المهنية والتنصل ولو مؤقتاً عن المواثيق الأخلاقية التي تحكم العمل الإعلامي.

وفي الدرس الثاني في كلية الإعلام، تتناول أبجديات الصحافة الفرق بين الخبر والرأي، الخبر معلومة غير قابلة للتأويل ولا مجال للحكم عليها باعتبارها صحيحة أو خاطئة، والرأي توجه واعتقاد يحمله صاحبه ويتحمل تبعاته ويحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ، ويتسع لأن يتفق معه البعض ويختلف معه البعض الآخر، ويحتوي الدرس كذلك على فقرة خاصة بضرورة عدم الخلط بين الخبر والرأي حتى لا تختلط الأمور على المتلقي، فيتم توجيهه دون أن يدري معتقداً أن رأي الكاتب هو ما جرى أو يجري على أرض الواقع.

وعلى رغم أن الرأي يسمح لكاتبه بأن يعبر عما يدور في خاطره وعقله وكذلك قلبه، إلا أن المعايير بالغة المهنية والأخلاقية في الإعلام تحتم عليه ألا يشطح بالخيال أو يفرط في المحبة أو يبالغ في الكراهية أو ينقلب من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار دون سبب مقنع أو مبرر منطقي.

الاعتداء على المنطق

ويتعرض المنطق بين الحين والآخر لاعتداء غاشم وعدوان بالغ حين ينقلب صاحب القلم أو الكي بورد (لوحة التحكم) على رأيه السابق دون سابق إنذار أو حتمية تفسير، وعلى رغم هيمنة الـ"سوشيال ميديا" على الساحة الإعلامية وتحولها إلى وسيلة رئيسة يعرف من خلالها المستخدمون "الأخبار"، ويكونون بمساعدة محتواها رأيهم العام أو الخاص تجاه قضايا وملفات، إلا أن الإعلام التقليدي بصحفه ومواقعه الإلكترونية ومحطاته الإذاعية وقنواته التلفزيونية، ما زال في القلب من عمليات الأخبار والتحليل وتشكيل الرأي العام.

كما أن المساحة المشتركة بينهما، حيث تشارك محتوى الإعلام التقليدي، لا سيما مقالات الرأي وإخضاعها للنقاش تضيف إلى مهمات كاتب مقال الرأي مسؤولية إضافية وتلزمه قدراً أعلى من المصداقية والشفافية حتى وإن تعلق الأمر بوجهة نظره.

وجهات نظر الكتاب الصحافيين تظل في القلب من عمليات اتخاذ القرار وصناعة الرأي العام، "الآراء والأيديولوجيات في كتابة المقالات" عنوان لدراسة "قديمة" تعود إلى منتصف تسعينيات القرن الماضي، لكن ما جاء فيها من تسليط ضوء على أهمية قواعد التعبير عن الرأي والأيديولوجيا حتى يؤدي الكاتب مهمته الرئيسة دون شبهة تضليل أو تغييب أو تغليب مصلحة غير معلنة على حساب المتلقي ينطبق على واقع حال الكتاب اليوم، سواء في مقالاتهم المنشورة أو تدويناتهم على منصات السوشيال ميديا التي باتت تعد امتداداً طبيعياً لما ينشرون.

اهتموا بمقالات الرأي

تشير الدراسة التي أعدها الأكاديمي الهولندي المتخصص في لغويات النص وتحليل الخطاب النقدي تيون فان دايك إلى أن مقالات الرأي تساعد من يقرأونها على اتخاذ قرارات ومواقف خاصة بالشأن العالمي والمحلي والعلاقات بين الدول وبعضها.

وحذرت الدراسة من أن مقالات الرأي لا تحظى بالقدر الكافي من الاهتمام بغرض تحليل المحتوى وأسلوب التعبير ومصادر تكوين الرأي التي تعد ضمن مصوغات الإقناع والمصداقية لكل كاتب.

في المقابل تحظى الفنون الصحافية وعلى رأسها الأخبار بقدر وافر من الدراسة والتحليل، وذلك على رغم القدرة الفائقة لمقالات الرأي في التأثير وتوجيه الرأي العام سلباً وإيجاباً مقارنة مع الخبر، هذه المقالات التي تعكس فكر الكاتب وتوجهاته تسهم كذلك في صياغة الأجندات السياسية للدول، وتؤثر في النقاش العام وصناعة القرار وأشكال العمل السياسي والاجتماعي في المجتمعات المختلفة، كما تؤثر في العلاقات بين الدول، وكذلك بين الشعوب بعضها بعضاً إيجاباً وسلباً.

القدرة على التأثير

ولسبب ما، يفوق التأثير السلبي لما يرد في الإعلام التأثير الإيجابي، لا سيما حين يتعلق الأمر بكتابة الرأي سواء على المنصات التقليدية أو السوشيال ميديا الخاصة بكبار الكتاب ممن يحظون بالقدرة على التأثير.

ويخبرنا التاريخ أن العلاقة بين اشتعال الحروب والإبقاء عليها واستمرارها وبين الإعلام وأصحاب الرأي فيه، أقوى وأكثر انتشاراً من العلاقة بين الترويج للسلام ومحاولات إحلاله عبر الإعلام، ويكفي أن "بروباغندا" الحروب والترويج للصراعات والتسويق لأسبابها والدعاية للاحتقان أكثر شيوعاً من إعلام السلام والتهدئة والدعاية للتناغم والتواؤم.

يقول أستاذ الإعلام البوسني في جامعة هولينز الأميركية فلاديمير براديتش، الذي تخصص في رصد محتوى الإعلام في الدول والمناطق التي ضربتها صراعات مختلفة، إن الدور الإيجابي لوسائط الإعلام في المجتمعات التي عانت صراعات سواء داخلية أو بينها وبين دول أخرى وقدرتها على التهدئة يكاد يكون غير موجود في أغلب الصراعات الفعلية والفكرية.

صراعات فكرية طبيعية

الصراعات الفكرية في الدولة الواحدة وبين الدول وبعضها بعضاً أمر طبيعي، شأنها شأن السياسة وتغيراتها وتقلباتها، والاختلاف في وجهات النظر والخلافات حول مواقف الدول وسياساتها وأولوياتها وقواعد التعامل في ما بينها، أمور قديمة قدم الدول وقدم السياسة، وانعكاس هذه الصراعات والتغيرات والتقلبات والاختلافات والخلافات في وسائل الإعلام ومنصاتها، لا سيما في الجوانب المتعلقة بالرأي ووجهات النظر أمر طبيعي ومتوقع، لكن الطبيعي والمتوقع أحياناً يتحول إلى غريب وصادم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صدم البعض في العالم العربي قبل سنوات، وتحديداً أثناء اشتعال أحداث ما يسمى "الربيع العربي" حين جرى تداول تغريدة كتبها خبير إعلامي غربي متهماً شبكة إعلامية عربية بتهييج الحروب والصراعات وليس تغطيتها.

وإضافة إلى تهييج الخلافات وتأجيج الصراعات، فإنه يؤخذ على بعض  الإعلاميين العرب، لا سيما الضالعين في مجال الرأي أكثر من الخبر، تلغيم كلماتهم بأيديولوجيا غير معلنة أو تفخيخ مقالاتهم بتوجهات ومعتقدات لا يفصحون عنها صراحة أو تعديل مواقفهم المعلنة دون سابق إنذار من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار والعكس، دون تكبد عناء شرح أسباب التغيير احتراماً لعقلية القارئ وحفاظاً على المصداقية والشفافية، هذه التقلبات العنيفة غالباً ينجم عنها حروب كلامية أكثر عنفاً.

"روعة" الحروب الكلامية

والحروب الكلامية تبقى مثاراً للشد والجذب، كما تصبح مادة للقيل والقال، وعلى رغم جودة الشد والجذب وروعة القيل والقال حين يتعلق الأمر بـ"الخبر الأكثر قراءة" أو "التغريدة الأعلى تشاركاً" أو "الترند" الأكثر رواجاً، إلا أنها تنال من مصداقية أصحابها وتنتقص طبقة من طبقات الثقة بينهم وبين قرائهم.

في عام 2008، صدر كتاب عنوانه "حروب كلامية: الإعلام والسياسة في العالم العربي" لأستاذ العلوم السياسية والكاتب الصحافي مأمون فندي، تحدث فيه عن "واقع" الإعلام العربي وهو الواقع الذي وجد فندي أن نقده بات أيديولوجياً وليس علمياً، كما اعتبر المقارنات التي كانت تعقد وقتها بين قناتي "الجزيرة" و"العربية" من جهة وبين قنوات غربية مثل "سي أن أن" و"فوكس نيوز" مقارنات مضللة، إذ رأى أنه لا يمكن فهم هاتين القناتين، إلا بفهم الخلافات السياسية بين الدول العربية.

الخلافات بين الدول العربية، شأنها شأن دول كثيرة في العالم، كثيراً ما تحدث. ومع حدوث الخلافات وكذلك الاختلافات في وجهات النظر، تحدث خلافات شبيهة في وجهات نظر الكتاب الصحافيين في كل دولة عربية، بعضهم يدق على وتر شبيه بالمنهج الرسمي في وطنه، وبعضهم الآخر يدق على الأوتار العكسية وذلك تماشياً مع الجماعة التي تمثله أو يتعاطف معها فكرياً، لا سيما الجماعات العابرة للحدود والمرجحة لكفة "مانيفستو" الجماعة على حساب الوطن، وينتهج بعضهم الآخر نهجاً متأرجحاً بين تأييد لتوجه هنا وتنديد لسياسة هناك، وذلك بحسب الظروف والأحوال التي لا تتعلق بالضرورة بالصالح العام أو التوجه الرسمي لهذه الدولة أو تلك، وهو تأرجح يبقى قيد التخمين وغير قابل للتعليل أو التحليل إلا في نطاق الاجتهادات، ولكن ما يبقى في حكم المؤكد هو أن التأرجح في الرأي يسحب من رصيد الكاتب، لا سيما حين يبخل عليه بالشرح والتعليل.

ارتباك الكاتب

هجوم من كاتب على دولة ما، يعقبه مداهنة أو مسالمة، وهو ما يفسره القارئ دائماً وأبداً بالارتباك ويشرحه المتخصصون في ضوء نظريات الإعلام، أو بالأحرى الخروج على نظريات الإعلام، وينتقده الحريصون على المهنة والغيورون عليها باعتباره انتقاصاً من مواثيقها وخرقاً لقواعدها.

وتتكرر هذه الخروقات أو الارتباكات مع تكرار الخلافات والاختلافات، بين الحين والآخر يجد كتاب عرب مرموقون أنفسهم في خانة تتهمهم تارة بالارتباك، وأخرى بالوقوع في براثن التلاسن، وثالثة بالمضي قدماً في انتقادات ساخنة، ثم التراجع عنها أو محاولة التخفيف منها لأسباب تبقى حبيسة "بطن الشاعر".

والتاريخ القديم وكذلك الحديث حافل بموجات من الاختلافات التي تبقى في حيز المعقول حيناً، وتتوسع دون سابق إنذار أحياناً مسببة موجات من الدهشة والاستهجان، ناهيك بكونها فرصاً ذهبية للشد والجذب بين الجماهير الغفيرة الرابضة على أثير الـسوشيال ميديا.

والأمثلة كثيرة، لكن الأيام القليلة الماضية غرد عدد من الكتاب السعوديين المعروفين أبرزهم خالد الدخيل وتركي الحمد عن مصر وأزمتها الاقتصادية، معللين الأزمة بضلوع الجيش المصري في الاقتصاد، ووقوع مصر أسيرة لصندوق النقد الدولي وبداية "الصعود إلى الهاوية".

أدت التغريدات إلى موجة من الهرج والمرج لدى قاعدة من المعلقين، إضافة إلى بعض الكتاب المصريين الذين انجرفوا في توجيه انتقادات للسعودية. وعلى مدار أيام، بدا الأثير العنكبوتي وكأنه ساحة معركة فجائية بين فريق ضد آخر، لكن ما حدث هو أن كتاباً وإعلاميين لهم وزنهم الفكري والإعلامي انخرطوا كذلك في التلاسن الافتراضي على أثير السوشيال ميديا.

وعلى رغم وجود تغريدات أكثر هدوءاً وتفسيرات أعمق بثها أحد الكتاب السعوديين الذين أثارت تغريداتهم الزوبعة، حيث تأكيد على أن "مصر كبيرة بأهلها وتاريخها ونيلها ومكانتها الكامنة في القلب"، وأن "نقد سياسة أي حكومة ليس نقداً للدولة أو أهلها بل للسياسات تطلعاً للأفضل"، وكذلك توضيح من كاتب آخر بأن "الحديث عن مصر ليس حديثاً عن أي دول عربية أخرى، وليس تدخلاً في شؤونها، فمصر كادت تكون في يوم من الأيام أهل كل العرب، وتاريخها الحديث يكاد يكون تاريخ كل العرب، لذلك فالحديث عنها هو حديث عن كل العرب"، إلا أن الأجواء بقيت على تأججها بعد أن دخل مأمون فندي على الخط بتغريدة أسعدت فريقاً وأغضبت بالضرورة الفريق الآخر، فكتب فندي معلقاً على تغريدات الكتاب مبدياً "محبة شديدة" لهم وتحليلاتهم، ومضيفاً انتقاده لـ"نغمة العطف" الممتزجة بـ"نظرة فوقية".

انتقاد فندي لتغريدات الدخيل والحمد تسببت في مزيد من إشعال النيران، إذ نقب البعض في تاريخ تغريدات فندي ونشاطه الإعلامي والسياسي على مدار العقد الماضي معتبرين مواقفه المؤيدة للدولة المصرية وقيادتها قبل سنوات قليلة ثم التغيير الذي وصفوه بـ"الحاد"، موجهين سهام النقد والوصف بـ"الازدواجية" له.

وبين "فوقية النظرة" و"النقد النابع عن الحب" و"المكانة الكامنة في القلب" وسهام الازدواجية، تدور دوائر الكلمات والتغريدات والتدوينات المحسوبة على كتاب رأي ما زالوا يشكلون الرأي العام، ويسهمون في صناعة السياسات واتخاذ القرارات.

لكن هذه الدوائر لفتت الانتباه كذلك إلى ثغرة في مواثيق العمل الإعلامي وقواعده تتعلق بما يصدر عن كتاب الرأي، ولو كانت كتابتهم على أثير العنكبوت، فما زال لكاتب الرأي دور في صناعة الوعي، ولكلماته أثر في صياغة العلاقات بين الشعوب، ولمكانته رونق خاص في تكوين الوعي وتصحيح المسار وليس بث السموم القاتلة ولو بحسن نية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات