حالة من الشد والجذب ومسارات من المد والجزر تعيشها العلاقة بين المغرب وكثير من وسائل الإعلام الفرنسية، حيث لا تكاد تهدأ وتجنح نحو المهادنة والتودد حتى تتوتر الأجواء سريعاً بين الطرفين، بسبب فتح الصحافة الفرنسية ملفات أو مواضيع لا تراها المملكة بعين الرضا.
وتمر العلاقة بين السلطات المغربية والصحافة الفرنسية بأزهى فتراتها عندما تكون العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية بين الرباط وباريس في أوجها، لكنها تتخذ "شكلاً عاصفاً" كلما ساءت هذه العلاقات لسبب أو لآخر، خصوصاً في الآونة الأخيرة التي تتسم بنوع من الفتور وتشهد أزمة دبلوماسية بين الجانبين.
لعبة شد الحبل
يرى مراقبون أنه يمكن تقسيم تعاطي الإعلام الفرنسي، العمومي منه والخاص أيضاً، قضايا وملفات المغرب إلى ثلاثة توجهات وأصناف، الأول منابر صحافية تحظى بالنقاش المحايد والتحليل الموضوعي حيال كل ما ينشر عن المغرب.
والاتجاه الثاني للصحافة الفرنسية في معالجتها قضايا ومواضيع المغرب يتمثل في المنابر التي تكيل المديح لقرارات الرباط، وتشكل الداعم الإعلامي الفرنسي لما يصدر من المغرب خصوصاً في سياسته الخارجية، بينما الثالث هو تلك الصحافة التي "تعادي" المملكة وتنبش في ملفات بمعالجة تثير امتعاض الرباط.
ومن آخر محطات التوتر بين المغرب والإعلام الفرنسي، تغطية جريدة "لوموند" قبل أيام قليلة مؤتمر جبهة "البوليساريو" المطالبة بانفصال الصحراء عن سيادة المملكة، وهي التغطية التي أثارت انتقادات مغربية بسبب ما سمته منابر محلية الانحياز في التغطية ضد الرباط.
ونقلت جريدة "لوموند"، ضمن تغطية طويلة بعنوان "الصحراء الغربية... تتزايد الضغوط من أجل تكثيف الحرب ضد المغرب"، استعداد جبهة "البوليساريو" للحرب ضد المغرب، عبر شن هجمات انتحارية على مواقع استراتيجية في المملكة.
أيضاً رفض يونس مجاهد، رئيس مجلس الصحافة بالمغرب، قل أيام قليلة المشاركة في برنامج "منتدى الصحافة" الذي تبثه قناة "فرانس 24" بسبب ما سماه "ضعف مستوى المضامين"، مبرزاً أن "القناة تتعامل مع المغرب بشكل منحاز" حسب تعبيره.
وقبل ذلك كانت منابر موقع "ميديا بارت"، بمعية جريدة "لوموند" وإذاعة "راديو فرنسا"، انخرطت في ما وصفته تحقيقاً استقصائياً مدعوماً من طرف منظمة القصص الممنوعة، يتضمن اتهامات واضحة للمغرب باستخدام برنامج التجسس "بيغاسوس" الإسرائيلي للتجسس على شخصيات فرنسية بارزة.
المغرب لم يقف مكتوف الأيدي أمام هذه الاتهامات، حيث رفع شكايتين بشكل رسمي إلى القضاء الفرنسي ضد جريدة "لوموند"، ومديرها جيروم فينوليو، وشكاية ثالثة ضد موقع "ميديا بارت" ورئيس تحريره إدوي بلينيل، وشكاية رابعة ضد إذاعة "راديو فرانس".
واكتملت ملامح "عداء" بعض الإعلام الفرنسي للمغرب بقضية "الابتزاز" التي يتهم فيها المغرب الصحافيين إيريك لوران وكاثرين كراسيي بابتزاز القصر الملكي من أجل عدم نشر كتاب يتضمن معطيات محرجة مقابل الحصول على مبالغ مالية كبيرة، وهي القضية التي لا تزال تنظر فيها المحكمة بالعاصمة باريس.
محددات الإعلام الفرنسي
يرى أستاذ العلوم السياسية عبدالرحيم العلام أنه من خلال متابعة مسار تفاعلات الإعلام الفرنسي مع الشأن المغربي، لا سيما خلال السنوات العشر الأخيرة، عندما تكون العلاقات الدبلوماسية بين المغرب وفرنسا جيدة، يكون الإعلام الفرنسي، بخاصة العمومي، في حالة حياد تجاه المغرب، بل أحياناً يصب في صالح السلطة بالمغرب، مثل "حراك 20 فبراير 2011"، عندما تناولت الاحتجاج بشكل باهت.
ويردف العلام في تصريحات لـ"اندبندنت عربية" بأنه "بالمقابل عندما تسوء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ينحاز الإعلام الفرنسي إلى السياسة الخارجية لبلده، ويشرع في ممارسة النقد للسلطة في المغرب، ويطغى حضور الشخصيات المعارضة في الاستوديوهات الفرنسية، بينما يقل الحضور الرسمي المغربي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفق المحلل ذاته، "يستفاد من هذا الوضع أن الإعلام الفرنسي ملتزم الموضوعية والحياد فقط عندما يتصل الأمر بالشأن الداخلي الفرنسي، أما عندما تمس المصالح الفرنسية فإن هذا الإعلام يتحول لممارسة (البروباغندا) التابعة لوزارة الخارجية، فتظهر حينذاك ملفات حقوق الإنسان المهضومة في البلدان التي لا ترضى عنها فرنسا، وتبرز ملفات الدول المنافسة للبلد غير المرغوب في سياسته الخارجية".
واستطرد المتحدث قائلاً "هذا ما نلمسه بخصوص حضور الملف الجزائري في الإعلام الفرنسي، إذ اختفت تقريباً قضايا حقوق الإنسان، وأصبحت المساحة المخصصة لمديح النظام الجزائري تتسع بشكل أكبر، عكس ما كان عليه الأمر عندما كانت العلاقات بين فرنسا والجزائر متوترة، مقابل العلاقات الجيدة التي كانت بين المغرب وفرنسا".
دوافع التحرشات
من جهته أفاد المحلل والأستاذ الجامعي محمد بن طلحة الدكالي، بأن الصحافة الفرنسية تهتم كثيراً بالمغرب نظراً إلى طبيعة العلاقات التاريخية التي تربط بين البلدين، وبحكم الوجود الفرنسي السابق الذي خلف إرثاً ثقافياً "كولونيالياً" لدى شريحة مهمة من المغاربة خصوصاً "النخبة المفرنسة"، مما أفرز جمهور قراء كبيراً باللغة الفرنسية عموماً والصحف الفرنسية على وجه الخصوص.
ويرى بن طلحة، في تصريحات لـ"اندبندنت عربية"، أن "الغالب في الخط التحريري لعدد من وسائل الإعلام الفرنسية ينفتح على خطاب المعارضة من دون الاستناد في أحيان كثيرة إلى معطيات دقيقة واستقصاء صحافي نزيه، مقابل منابر فرنسية تبحث عن الموضوعية وتتسم بالحياد في التحليل والصدقية في نشر الأخبار المتعلقة بالمغرب، وهي قليلة على رؤوس الأصابع".
وربط المحلل ذاته ما وصفها بـ"الحرب الإعلامية" التي تشنها منابر فرنسية على الرباط بسياق التحرشات الدبلوماسية التي قامت بها باريس في البرلمان الأوروبي، مما أفضى إلى قراره في 19 يناير (كانون الثاني) الماضي بإدانة تعاطي المملكة مع قضايا حقوق الإنسان وحرية الصحافة والتعبير، الشيء الذي فجر غضباً مغربياً رسمياً وشعبياً.
وأردف بن طلحة مسوغاً ثانياً تفهم منه "تحرشات" وسائل الإعلام الفرنسية ضد الرباط، وهو أن المغرب بدأ ينافس فرنسا اقتصادياً وتجارياً في غرب أفريقيا، كما أقام شراكات متعددة في إطار "رابح رابح"، وخرج من "الوصاية الفرنسية" وبدأ في نسج علاقات وطيدة مع الولايات المتحدة الأميركية، مما جعل الإعلام الفرنسي لا يقبل بهذه التوجه المغربي الجديد.
مهنية إعلامية
وفي المقابل، أكد مصدر إعلامي من قناة إخبارية فرنسية، فضل عدم الكشف عن هويته لعدم تخويله الحديث عن الموضوع، بأن اتهام جهات مغربية بأن الإعلام الفرنسي ينحاز ضد المغرب هو أمر لا أصل له من الصحة، بدليل تناوله عدداً من الملفات ذات النفس الإصلاحي والإيجابي في المملكة.
وتابع المتحدث عينه بأن "الصحافة المهنية لا يمكنها أن تتطرق على الدوام إلى ما يعجب ويرضي الآخرين، بل هي مطالبة بتناول ومناقشة باقي المواضيع التي قد تضم مواطن النقص والقصور في ملفات اجتماعية واقتصادية تهم المجتمع المغربي، لتكتمل الصورة لدى جمهور المشاهدين".