Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الشدادية"... جامعة الكويت الجديدة

يتبدل لفظ الكلمات فيضيع معناها الأصلي ولكل كلمة تاريخها وقصتها وأرشيفها

سميت الجامعة رسمياً بجامعة صباح السالم نسبة لأمير الكويت الراحل الشيخ صباح السالم الصباح (البرنامج الانشائي جامعة الكويت)

أتوا بصناديق كرتونية فارغة: ضع كتبك ومعدات مكتبك وأشياءك المكتبية في هذه الكراتين وستقوم شركة شحن بنقلها لمكتبك الجديد في "الشدادية".

ما زلت متردداً أو بالأحرى متشككاً، فالمباني الجديدة لم تكتمل بعد، ولكن الترتيبات على قدم وساق للانتقال لمبنى جامعة الكويت الجديد اعتباراً من العام الجامعي المقبل.

ولعل التردد نابع من أنني سأفتقد المباني القديمة التي قضيت فيها أكثر من 40 عاماً كطالب ثم مدرس لغة فمعيد بعثة ثم أستاذ للغويات والترجمة. أم لأنني تعبت من الرحيل والترحال، والتنقل والانتقال، فلقد ضربت خيمتي الأكاديمية هنا منذ عقود وتجاوزت سن الرحيل والمغامرة، ولم أعد أريد سوى "بَرْد القاع"، كما يقول الكبار بالسن؟

سألت الطلبة بفصلي وعددهم حوالى 40 من الذكور والإناث: ما معنى "الشدادية"؟ تراوحت الإجابات بين من قال "من الشدة" و"الشدائد"، ومنهم من قال "شد الهمة الدراسية"، وبين طالب ظريف أضحكني وقال: من شديد البدو، أي شدّهم للرحل وبحثهم عن مرعى آخر أفضل لمواشيهم وإبلهم.

تذكرت ديوان الصديق الشاعر الراحل سليمان الفليح "أحزان البدو الرحل". وأبيات له حول الرحيل:

توقفت. قلت: ارتحالي طويل،

تفيأت ظلي ونمت

وعقلي تفيأ ظل الشجيرة

أفقت من النوم، نظفت عقلي

وصارعت طعم النعاس، انتفضت

تذكرت زحف الأفاعي الخطيرة

وأيضاً تذكرت أني نسيت اصطحاب تعاويذ أمي

وحرزي، ووسم العشيرة

يتبدل لفظ الكلمات فيضيع معناها الأصلي، فكلمة مثل "لوغاريتمات"، والتي قد تكون أكثر الكلمات تكراراً بعالم الذكاء الصناعي والرقميات، أعيدت استعارتها من اللاتينية التي كانت قد استعارتها من العربية نسبة لعالم الرياضيات الشهير محمد بن موسى "الخوارزمي"، ولتسهيل اللفظ على الناطقين بلغات الغرب اللاتينية والجرمانية، تم قلب الخاء والواو ولفظت الخاء "قيفا"، ثم استعرناها كما هي.

لكل كلمة بأي لغة كانت تاريخها وقصتها وأرشيفها الخاص بها، ولـ "الشدادية" تاريخها اللفظي أيضاً، فالكلمة جاءت من "القداد"، وهو نبات شوكي صحراوي اشتهرت به المنطقة التي بنيت جامعة الكويت الجديدة فوقها، وكنت أذكرها بصغري أرضاً جدباء لا ينبت بها سوى القداد والنصي والعرفج، ولعل النبتة أخذت اسمها من حجم الشوك الكبير بها والذي "يقد" أي يشق شقاً، فالَقَدْ هو الشق والتقطيع، والقديد هو اللحم المقطع والمجفف، وورد بشعر عمرو بن الورد:

نهداً وذا شُطَبٍ يقد البيض والأبدان قدّاً

وتلفظ كلمة "القداد" ببعض لهجات القبائل بالكداد والتسداد وقلبت الكاف جيماً فارسية "چداد" كما هو الشائع بلهجة أهل الكويت والخليج عموماً، فتلفظ "الچدادية"، ولكن الجيم الفارسية عسيرة على معظم العرب من غير أهل الخليج، فرققها معظم العاملين من العرب بالجامعة إلى "شين"، فشاعت "الشَّدادية" لكثرة من يلفظها من الإخوة العرب مقارنة بأعداد الكويتيين الذي كانوا يلفظونها "الچدادية"، فصار الكل يلفظها اليوم "الشدادية".

 تبدل لفظ اسم الأرض، فضاع معناها!

وبتبدل الكلمات، تضيع المعاني، ويكثر المفسرون، ويتناهبون الكلمات، وخصوصاً في عالم اليوم، عالم الرقميات والبرمجيات والتطبيقات. خذ مثلاً الإعلام الاجتماعي إذ يرتع بأشكال و"أرناق" من المشاركين، فيدخل أحدهم باللغة العربية "عرضاً بطول"، وينتهك "بنت عدنان" بكل برود وبشاعة وجهالة، دونما خجل ولا وجل، فشاع الخطأ اللغوي ليصبح كلمة محكية ومكتوبة في هذا العالم الافتراضي.

وفي المشاركات الرقمية بالإعلام الاجتماعي كلمات تقول لصاحبها دعني: فالمفسرون كثيرون، والمتربصون أكثر. ثارت بالكويت ضجة قبل أيام على مقدمة برامج تلفزيونية ذكرت الكويت بغير محلها بالتعرض لمن قالت إنهم فريق "شاذّ" بها، وعلى الرغم من أنها أوضحت مقصدها إلا أن "الترند" قد تجاوزها، فطوفان المشاركات الرقمية أسرع من التصحيح والتوضيح.

بعد انتظار دام ثلاثة عقود، تتهيأ جامعة الكويت لشد الرحال لـ "الشدادية" الجامعية بالعام الأكاديمي المقبل، وقد سميت الجامعة رسمياً بجامعة صباح السالم، نسبة لأمير الكويت الراحل الشيخ صباح السالم الصباح، طيب الله ثراه، والذي افتتحت بعهده الميمون جامعة الكويت عام 1966.

سنرحل من جامعة الكويت تاركين وراءنا خمسة عقود من الذكرى والذكريات والمحاضرات والمذكرات، وسيتردد في أروقة مبانيها القديمة قهقهات الطلبة والطالبات، وآهات التحصيل العلمي والدرجات، رحيل الذكريات أصعب وأشد من "شديد" البدو الرحل بصحراء العرب، وفيافي الجدب...

المزيد من آراء