في كتابه المترجم إلى العربية تحت عنوان "#إخناتون... وهْمُ التوحيد"، يجمع عالِم الاجتماع والدراسات الثقافية الألماني فرانتس #ماشيفسكي Franz Maciejewskiخلاصات البحوث المتصلة بتأكيد أو نفي أن إخناتون هو مؤسس أول #ديانة_توحيدية عرفها البشر (اواخر القرن الرابع عشر قبل الميلاد)، واضعاً في الاعتبار النقوش المسمارية والتراتيل والنقوش في الفنون والعمارة، ذات العلاقة. وبداية من العنوان يحسم ماشيفسكسي الجدل في هذا الصدد، منتصراً لـ"حقيقة" أن إخناتون أسَّس دولة ثيوقراطية ذات إله مركزي، لكن ظلت آلهة مصر القديمة الأخرى تُعْبَد، حتى في عاصمة دولته، التي يطلق على أطلالها "تل العمارنة". وبالتالي فإنه لم يأت بأول ديانة توحيدية عرفها البشر، كما يعتقد كثيرون، ومنهم مثلاً جيمس هنري بريستد، وسيغموند فرويد، وأنه كان مجرد ملك انقلب على نظام كان سائداً قبله، كما يذهب علماء مصريات منهم مثلاً الألماني جان أسمان Jan Assmann ، الذي كانت دراساته في علم المصريات Egyptologist من أهم المراجع التي اتكأ عليها ماشيفسكي. ويؤكد المؤلف أن كل ما أورده في كتابه "قيل من قبل، ولكن بشكل مجزأ أو في ترتيب مختلف وبصيغة مختلفة"، مشدداً على أن عمله هذا الصادر باللغة الألمانية عام 2010، "لا يريد إعادة إنتاج اللامرئي، وإنما يريد جعله مرئياً".
الترجمة العربية للكتاب أنجزها أيمن شرف ونشرتها دار "الترجمان" القاهرية، تحت عنوان "إخناتون... إختراع التوحيد"، ثم نشرها المركز القومي للترجمة في القاهرة تحت عنوان "إخناتون... وهم التوحيد". ويقول أيمن شرف في مقدمة ترجمته لهذا العمل: "ليس مهماً أن تقول إن إخناتون هو أول الموحدين، أو أن تقول غير ذلك، بل المهم هو أن تبني مقولتك على أساس ومنطق متماسكين، لا على استنتاجات مصدرُها بالأساس رغبة في تأكيد حالة إيمانية ذاتية، أو حتى حالة انحياز شوفينية تغري بنسب كل ما هو عظيم في التاريخ إلى مصر، أو حتى حالة انحياز لخطاب ثقافي عام، تمثل فكرة التوحيد بؤرته الفاعلة، وتغري بالبحث عن جذر أقدم لها في التاريخ الإنساني. المهم هو أن تدقق جيداً في السياقات الثقافية التي أدت إلى تكوين صورة ذهنية عن إخناتون، عبر سلسلة طويلة من القراءات والتحليلات والتنظيرات والأبحاث حول العالم وفي مصر".
صراع على السلطة
من المهم أيضاً - يضيف شرف – تحديد معنى التوحيد، هل هو سمو بالإله عن كل ما هو إنساني، وفصل ذاته وسماته عن صورة البشر، أم مجرد تفضيل وإعلاء لإله على ما عداه من دون نكران لغيره، كما فعلت ثقافات قديمة في لحظات الحروب، أو كما فعل إخناتون لأسباب نفسية خاصة. ويرى شرف أن القول بأن "إخناتون هو أول الموحدين"، يعني ضمناً ربطه بما تلاه من ديانات توحيدية، هي اليهودية والمسيحية والإسلام، وفصله عما سبق من سياقات دينية، أو ما يسمى – تعميماً – تعددية الآلهة. فقراءة "حالة" إخناتون في سياقها التاريخي – أي قراءة الأحداث والدوافع ومحتوى الخطاب اللاهوتي لمرحلته – تصدمنا بتفاصيل كثيرة، من بينها أن إلهه الواحد "آتون" لم يكن منفرداً بالألوهية، فإلى جواره وضع إخناتون نفسه وزوجته نفرتيتي باعتبارهما صورة من "شو" و"تفنوت"، الإلهين الأولين في أسطورة خلق الكون المصرية القديمة. ووضع أمه أيضاً باعتبارها زوجة إلهية أو ظل الشمس "آتون"، ضمن أسطورة الميلاد الإلهي لإخناتون من أب إلهي وأم بشرية!
ولم يقتصر الأمر على الجانب الطقوسي، بل إنه جعلها زوجة له هو نفسه في إطار أسطورة أخرى باعتباره صورة إله قديم "كا موت إف" (ثور أمه)، تلك الأسطورة التي تحقق رغبة الملك في أن "يلد" نفسه من جديد، بأن يتوحد مع أمه. وهكذا تتحول صورة إخناتون التي تكونت في طبقات وعي اليونانيين الذين حضروا عيد تتويجه، إلى شخصية "أوديب ملكاً"، ذلك الإنسان التراجيدي الذي قتل أباه وتزوج أمه دون أن يدري. عادى إخناتون ديانة "آمون" لأسباب لا تخلو من الصراع على السلطة، وظل تقديس آلهة أخرى وعبادتها حتى في محيط عالمه الجديد المغلق في مدينته "آخت آتون"، كما هو. ولا تنسب نشأة هذا الخطاب المتصل بالإله الشمسي وإعلائه فوق آلهة أخرى، إلى إخناتون، بل لبيت مصاهرة مع آخر ملوك التحامسة (نسبة إلى ملوك يحمل كل منهم إسم تحتمس)، وهو جزء من مسعى هذا البيت، للوصول إلى السلطة ومحلولة تأسيس أسرة جديدة. واعتمد هذا المسعى بالأساس على تزويج الملوك التالين من بناته.
التحليل النفسي
يرى ماشيفسكي أن أحد الذين امتلكوا أدوات تحليل لا مثيل لها في حل هذه العقدة هو سيغموند فرويد، وفي الدراسة التي نشرت أواخر 1912 لكارل ابراهام عن إخناتون، أصبح موضوع التوحيد في عبادة آتون جزءاً من خطاب التحليل النفسي. لكن الأب المؤسس للتحليل النفسي، تعامل منذ البداية بتحفظ مع الفضول العلمي لاستكشاف الحياة الروحية لهذ الملك، وعقَّب بيردو على نتائج دراسة ابراهام التي قدمها بنوع من الفخر ("عقدة أوديب، والتسامي، وأنماط رد الفعل – كما لو كنا أمام شخص عصابي في زمننا الحاضر") ص18. وكان فرويد يرى في إخناتون "شخصية تاريخية عالمية، إنجازُها الفريد من نوعه هو إنتاج أنقى حالات الدين التوحيدي في تاريخ البشرية". ثم بعد ربع قرن، رأى فرويد نفسه في وضع يمكنه من تقديم رؤية شاملة في ما يشبه رواية تاريخية، تحولت إلى جزء من عمله المنقَّح الذي صدر لاحقاً "موسى الإنسان والديانة التوحيدية" (1939)، والذي أراد من خلاله أن يكون موسى مفهوماً بوصفه شخصية تنتمي للتاريخ المصري القديم، وليس بوصفه شخصية أسطورية. ويرى ماشيفسكي أنه بات من المعروف أن التحرر من الجوانب اللامعة في حجة فرويد لا يعني الإفراط برفض كل من الجيد والسيء معاً. ففي خلفية التوحيدية اللحظية في تل العمارنة، والتي تلاشت مع موت مؤسسها، وضع فرويد نموذجاً لتاريخ فرض التوحيد لزمن طويل، يرتكز على ركني "الصدمة" و"عودة المكبوت". وفي ذلك النموذج يكمن - كما يقول المؤلف - افتراض إدراك طبقة عميقة من التاريخ النفسي المختفي تحت البنية الخارجية للأحداث التاريخية، والفوز في النقاش الدائر هنا يقتضي تطبيق هذه العملية على تاريخ ذاكرة إخناتون.
الذاكرة الثقافية
ويعود الفضل لجان أسمان في وضع تصور فرويد في إطار الذاكرة الثقافية وجعلها مثمرة بالنسبة لخطاب علم المصريات حول العمارنة. وبعد مئة عام من بريستد طرح أسمان في كتابه "موسى المصري" (1998) السؤال عن العلاقة بن إخناتون وموسى من جديد، واعتلى بإجاباته الملهمة للغاية قمة النقاش حول التوحيدية. وكان ذلك، بحسب ماشيفسكي، مؤثراً تماماً؛ ليس فقط بوصفه عالم مصريات يمتلك ناصية ملف ممتاز في تاريخ العمارنة، ولكن أيضاً في مجالات مجاورة من علم الآثار الكلاسيكية والتاريخ القديم واللاهوت والدراسات الدينية. وكانت نتيجة جهود أسمان جبلاً هائلاً من الأفكار المثيرة للإعجاب يمكن النفاذ من طبقاتها العميقة الشفافة. فقد وضع تحت أيدينا – يقول المؤلف - صورة شديدة الإتقان كاملة التفاصيل لتاريخ المعنى في العمارنة. وحسب مراجعة أسمان لعمل بريستد تغيرت الرؤية المصرية للعالم بشكل جذري. وفهم أسمان الانتقال إلى لاهوت شمسي جديد بمعنى الإعداد اللاهوتي للسقوط اللاحق الذي نشأت منه ديانة العمارنة، وتحقق التحول العميق للدلالات الثقافية المصرية في مفهوم مسار الشمس: كانتقال من الحقيقة الإرشادية المشتركة القائمة على توافق الآلهة إلى ممارسة وحيدة لإله الشمس.
التنقيب الأثري
وأثبتت أعمال التنقيب في إطار "مشروع معبد إخناتون" بقيادة دونالد ريدفورد وأعمال "جمعية استكشاف مصر" بقيادة باري كيمب اكتشاف مواد هائلة تضع تكامل أطروحة التوحيد في اختبار قاس. فالتصور القديم عن حملة واسعة النطاق في مصر لمحو أسماء الآلهة الأخرى وصورها، لا يتوافق مع نتائج أبحاث حديثة. إذ لم تكن إزالة الأسماء والصور شاملة، ولم يتم تدمير معابد الآلهة بشكل منهجي. وفي الخلاصة: ظلت هناك مساحة للأشكال القديمة من التدين الشعبي إلى جانب العبادة الرسمية. وما يدل على أن الأمر يتعلق بلاهوت ملكي لضمان الحكم وليس نسج لاهوت شمسي توحيدي، هو ذلك التجاور بين آتون والآلهة الأخرى. أي أن تعدد الآلهة التقليدي ظل على حاله عند عيد تجديد الملك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والفعل الثوري لإخناتون لم يكن ينضوي داخل تأسيس ديانة التوحيد، ولكن داخل إنشاء دولة ثيوقراطية للإله آتون. وبإعادة تقييم فعل إخناتون - الثيوقراطية بدلاً من التوحيد – يتم تسليط ضوء جديد على تاريخ العمارنة. فأسمان يتصور أن ديانة آتون المقموعة ظلت سرية لفترة طويلة، امتدت لنحو ألف سنة. وهذا الاستنتاج هو محل شك، في تصور ماشيفسكي، إذ أنه يتجاهل تأسيس ثيوقراطية أخرى على الأراضي المصرية بعد 250 عاماً من العمارنة: دولة آمون الدينية في طيبة. وبهذه المقابلة - يضيف ماشيفسكي- يصبح الحديث عن عودة المقموع منطقياً، ووفقاً للتحليل الإثني النفسي يمكن فهم إقامة دولة آمون الدينية كتأسيس رد فعل غير واع إلى حد كبير، على دولة آتون الدينية وباعتبارها تجديداً للصدمة. فمن الواضح أن من تبنوا هذه الحركة هم الذين أهينوا وأضعفت سلطتهم: كهنة آمون الذين سعوا إلى نفي الهزيمة التاريخية بنقيضها عبر الآلية المعروفة بـ "التماهي مع المعتدي"، وبالتالي يتمكنون من إلغائها.
تصحيح الصورة الذهنية
وأخيراً، فإن هذا الكتاب ينطوي على محاولة لتصحيح "أسطورة" إخناتون، أو الصورة الذهنية السائدة عنه لدى العامة ولدى شريحة من المشتغلين بعلم المصريات، اقتضت من المؤلف مراجعة واسعة للسياقات الثقافية التي قادت الباحثين نحو تكوين صورة إخناتون، ولطريقة نظرهم إليه وإلى زمنه ومحتوى الخطاب المنسوب إليه، بدءاً من شامبليون ومروراً بجيمس هنري بريستد وآرثر ويغال وتوماس مان وسيغموند فرويد، وحتى المعاصرين؛ غريك هورنونغ وجان أسمان. واقتضت هذه الدراسة إعادة اختبار للمقولات التي تربط بين "ديانة" إخناتون وأول "ديانة توحيدية" تالية – اليهودية، على أرضية الأدلة الأثرية والتاريخية، وكذلك إعادة اختبار الفرضيات ومدى صدقية النتائج التي توصل إليها باحثون سابقون، وفقاً لأحدث النتائج العلمية، ومن بينها نتائج تحليل الحامض النووي لعدد كبير من المومياوات المصرية. وكانت النتيجة جولة واسعة في رحاب التاريخ ومعارض صوره ومكونات أساطيره ومدنه القديمة، تنقَّل فيها المؤلف ما بين طيبة المصرية "ذات البوابات المئة"، إلى طيبة اليونانية "ذات البوابات السبع"، ومن آخت آتون إلى أون (هليوبوليس)، ومن أورايس عاصمة الهكسوس إلى أورشليم مدينة اليهود العائدين من المنفى البابلي، ومن حاتوشا (في هضبة الأناضول) عبوراً بالإسكندرية في المياه الدافئة للبحر المتوسط، وحتى إسبرطة في أحضان الجبال اليونانية... رحلة فكرية جديرة بالقراءة والتأمل، لا تقتصر في أهميتها على باحثي "المصريات"، بل تتعداهم إلى القارئ العام لإذكاء روح التفكير العقلاني والاستدلال المنطقي؛ وصولاً إلى فهم أعمق للتاريخ الإنساني، وتطور أو انعطاف دلالاته، وليس وصولاً إلى "يقينيات" لا أقدام لها على الأرض.