Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ملف الهجرة يثير الحرج في أزمة الرعاية الصحية البريطانية

"يجاهر البعض بضرورة إغلاق باب اللجوء كلياً على الأقل إلى حين تحسن الأوضاع الاقتصادية"

تظاهرة لعمال الـ "إن إتش إس" في لندن، الإثنين 6 فبراير الحالي (رويترز)

النظام الصحي الحكومي أو الوطني في #بريطانيا المعروف بـ "الخدمات الصحية البريطانية" (إن إتس إس) يعاني الأمرين. المعاناة لم تعد صامتة حيث قوائم انتظار مليونية وصلت إلى نحو 6.8 مليون #مريض في حالة انتظار في نهاية يوليو (تموز) الماضي. ومرارة الانتظار تتشابك فيها كثير من الأسباب والعوامل والظروف التي تجعل من تقليصها حلماً صعب المنال، ولكن حتى في حال تحقيقه، يظل النظام برمته واقعاً تحت قدر هائل وغير مسبوق من الضغوط.
ضغوط الاقتصاد التي يعانيها البريطانيون كثيرة، فبين فواتير الطاقة التي حققت أرقاماً قياسية منذ اندلاع حرب روسيا في أوكرانيا، ووصلت أوجها في الشتاء الحالي، وضعف القدرة الشرائية للبريطانيين بشكل عام، لا يمر أسبوع من دون أن تصدر عن العاملين في #النظام_الصحي_البريطاني صيحات غضب تارة وتحذير تارة أخرى جراء تردي الأوضاع، سواء من حيث رواتبهم التي لم تعد تكفي احتياجات كثيرين الأساسية، أو من حيث تدهور جودة الخدمات الصحية المقدمة لمستحقي الرعاية الصحية الحكومية.

أسباب الضغوط

قوائم عديدة تطل على البريطانيين وتحتوي على عوامل وأسباب الضغوط الهائلة التي يعانيها أحد أشهر أنظمة الرعاية الصحية في العالم "إن إتش إس" (NHS). الغالبية العظمة من هذه القوائم تضم عوامل مثل تضخم أعداد طالبي الرعاية الصحية بعد تخفيف قيود كوفيد-19 التي أعادت ملايين إلى طلب العلاج في العيادات والمستشفيات، واستمرار ظهور طفرات لكوفيد-19 وفيروسات أخرى تستدعي الرعاية الصحية مع استمرار إنهاك الطواقم الطبية التي تعرضت لضغوط غير مسبوقة أثناء الوباء، إضافة إلى ظاهرة "الشيخوخة" في بريطانيا حيث ارتفاع متوسطات الأعمار وما يعنيه ذلك من زيادة الطلب على تقديم خدمات صحية للمسنين. ويضاف إلى ما سبق عوامل اقتصادية تتشابك معها السياسة أبرزها "بريكست" وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانسحاب العددي لأصحاب الجنسيات الأوروبية الذين كانوا يعملون في نظام الرعاية الصحية، إضافة إلى حرب روسيا في أوكرانيا وما تبعها من عقوبات على روسيا وآثار عكسية في اقتصاد دول عدة من بينها بريطانيا.
يسمي البريطانيون الوضع الحالي لنظام الرعاية الصحية بـ"الثقب الأسود". الـ "إن إتش إس" الذي كان مصنفاً بحسب "دليل الأمن الصحي العالمي" في المرتبة السابعة بين 195 دولة في عام 2021، الذي كان يحتل المكانة الأولى في مؤشر مستوى الرعاية الصحية بين 11 دولة غنية في العالم بين عامي 2014 و2017، الذي يعود تأسيسه إلى عام 1948 ليصبح علامة مضيئة في منظومة الرعاية الصحية الوطنية لدول عدة حول العالم، يجد نفسه اليوم معرضاً للانهيار.

ألغام هادئة

هذا الانهيار الذي يلوح في أفق ما يزيد على 62 مليون بريطاني ومقيم ينتفعون بهذه الخدمة الحيوية قلما يناقش تأثير ملف الهجرة واللجوء في نظام الرعاية الصحية الحكومية. وعلى رغم الشد والجذب الصاخبين حول هذا الملف، تارة بسبب سياسات قبول المهاجرين واللاجئين، تأييداً أو تنديداً، وتارة أخرى حول محاولات حكومية للمضي قدماً في ترحيل طالبي اللجوء إلى رواندا، وثالثة لقياس أثر هذه الموجات على الهوية البريطانية وقدرة القادمين الجدد على الاندماج من عدمه، إلا أن مناقشة أثر الأعداد، التي يعتبرها بعضهم كبيرة للمهاجرين واللاجئين وطالبي اللجوء في بريطانيا، على نظام الرعاية الصحية الوطنية المثقل أساساً بهموم ومشكلات طاحنة تعد من المواضيع بالغة الحساسية.
درجة الحساسية حول التطرق إلى قضايا اللجوء والنزوح والهجرة كبيرة. والحرص السياسي والوجل الاجتماعي في التطرق إلى ملف "الأجانب" بالغان. والحرص العلني على "الصوابية السياسية" في التطرق إلى مثل هذه القضايا يجعل مناقشتها محاطاً بسياج من الألغام الهادئة.
صحيح أن ملف الهجرة دائماً يفرض نفسه على البرامج الانتخابية، ويطرح في المناظرات السياسية، والوعود الانتخابية لا تخلو من أمور تتعلق بالهجرة. ويبقى مثار شد وجذب ونقطة تنافس بين الحزبين الرئيسين، المحافظين (الحاكم حالياً) والعمال (الطامح إلى الحكم)، وكذلك حزب الديمقراطيين الأحرار المنصف دائماً في المكانة الثالثة، حيث الميل إلى تحجيم الهجرة واللجوء لدى الحزب الحاكم، وفتح بابها لدى الحزب المعارض، ومزيد من الفتح لدى الحزب الثالث ولكنه يظل فتحاً نظرياً ماسكاً عصا الهجرة من المنتصف حيث تأكيد على ضرورة تنظيم الهجرة بشكل يحمي المصالح الوطنية وفي الوقت نفسه فتح الأبواب والأحضان أمام الهاربين من الخطر أو الظلم لكن من دون خطة واضحة قابلة للتطبيق.

عصا الهجرة

ويبدو أن الإمساك بعصا الهجرة - بما تحويه من لجوء ونزوح وهجرة اقتصادية – من المنتصف هي سمة السياسة المزمنة. لكن في أوقات الأزمات، وكذلك في مواسم الانتخابات، تتخذ العصا أشكالاً أكثر حسماً ووضوحاً. إذ شهدت الانتخابات العامة في عام 2015 جدلاً مستعراً حول أثر الهجرة على منظومة الرعاية الصحية الحكومية. ودخل كثيرون في مناظرات ومناقشات حامية حول فوائد وأضرار الهجرة على الـ "إن إتش إس".

المعمول به في نظام الـ "إن إتش إس" يتسم بقدر من التعقيد. وبحسب "كينغز فاند" (مؤسسة خيرية تعمل من أجل تحسين خدمات الرعاية الصحية في بريطانيا)، فإن كثيرين يأتون إلى بريطانيا لأسباب تتراوح بين العمل وطلب اللجوء والإجازة ولم الشمل العائلي. والخدمات المقدمة لهؤلاء في نظام الرعاية الصحية تحددها وضعيتهم بالنسبة إلى قواعد الهجرة وقوانينها. فبعض الخدمات الصحية، مثل زيارة الطبيب العام أو الحصول على علاج في أقسام الطوارئ تقدم من دون مقابل بشكل عام. أما خدمات الرعاية الصحية الحكومية المجانية فتعتمد على عوامل عدة، وتختلف في ما بينها بعض الشيء بحسب المكان، حيث اسكتلندا وويلز تختلفان عن إنجلترا.

رعاية مجانية

تعديلات عدة طرأت على قوانين الهجرة ونصوصها في الأعوام القليلة الماضية قلصت من حجم "الجاذبية الصحية" التي تعد من العوامل الرئيسة التي تجذب الراغبين في الهجرة أو اللجوء أو كليهما. وبحسب قانون الهجرة لعام 2014، تم تقييد وتضييق مفهوم الحصول على الرعاية الصحية المجانية. كل من لا يحمل "إذناً بالبقاء لأجل غير مسمى" قد يطلب منه سداد ثمن الرعاية الصحية التي يحصل عليها. ومعروف أن هذا الحق لا يحصل عليه حامله إلا بعد مرور خمسة أعوام من الإقامة في بريطانيا. لكن بقي اللاجئون وطالبو اللجوء استثناء من هذا التعديل.
وعلى رغم الشد والجذب حول أثر الهجرة واللجوء على نظام الرعاية الصحية الوطنية، إلا أن المعلومات والأرقام المتاحة حول الأثر الحقيقي لهما على النظام المتداعي شحيحة جداً. وتعود أحدث أرقام موثقة حول كلفة الرعاية الصحية المقدمة إلى الزوار والمهاجرين بفئاتهم المختلفة إلى عام 2013، وذلك قبل تفاقم أعداد المهاجرين وطالبي اللجوء إلى بريطانيا في السنوات القليلة الماضية، وكذلك قبل وقوع نظام الرعاية الصحية تحت الضغوط الهائلة التي يعانيها حالياً.
وأشار استطلاع رأي نشرته قبل أيام "إيبسوس" عبر الإنترنت، إلى تفاقم القلق الشعبي إلى أقصى درجاته منذ زمن ما قبل الوباء حول أداء ومنظومة "إن إتش إس". ووجد الاستطلاع إن 42 في المئة من البريطانيين يعتبرون ما يواجهه نظام الرعاية الصحية من مشكلات "مشكلة كبرى" فاقت أحياناً في الترتيب من حيث الأهمية من التضخم والاقتصاد والهجرة. وتعد هذه الزيادة الأكبر والتغير الأوسع في قلق البريطانيين حول نظام الرعاية الصحية الذي كان يقلق 27 في المئة فقط في ديسمبر (كانون الأول) 2022.

وأوكرانيا أيضاً

وشهد عام 2022 ارتفاعاً هائلاً في أعداد من عبروا "المانش" صوب بريطانيا لطلب اللجوء. أعداد طالبي اللجوء الرسمية إلى بريطانيا لعام 2022 لم يتم إعلانها بعد، لكنها تخطت حاجز 52 ألفاً في الأشهر التسعة الأولى من العام. وفي عام 2021، بلغت الأعداد 48 ألفاً و500 طلب. هذه الأرقام لا تحوي الأوكرانيين الهاربين من أتون الحرب. وتختلف تقديراتهم العددية بين 190 ألفاً حصلوا على تأشيرات ميسرة و100 ألف استضافتهم أسر بريطانية في بيوتها و155 ألفاً بحسب موقع "ستاتيستا" للإحصاءات.
في مارس (آذار) الماضي، أي بعد اندلاع حرب روسيا في أوكرانيا بأيام، أعلنت بريطانيا أن كل الخدمات الصحية المتاحة في "إن إتش إس" ستتاح للأوكرانيين من دون مقابل ومن دون شروط أو قيود خاصة بوضعية إقامتهم.
اللافت أن أعداداً ملحوظة من الأوكرانيين الذين هربوا إلى بريطانيا عقب اندلاع الحرب يعودون إلى أوكرانيا لتلقي العلاج الطارئ أو اللازم تفادياً لقوائم الانتظار البالغة الطول في منظومة الرعاية الصحية البريطانية الحكومية. ويقول هؤلاء إنهم يتلقون العلاج فور طلبه في بلدهم المبتلى بالحرب، ثم يعودون أدراجهم إلى بريطانيا. ويتداول بريطانيون هذه الأنباء في ما بينهم على سبيل السخرية من أداء حكومتهم بما يختص بنظام الرعاية الصحية المتدهور.
لكن آلاف اللاجئين وطالبي اللجوء من ألبانيا وإيران وأفغانستان والعراق وكولومبيا وفنزويلا وسوريا وإيران وغيرها لا يتمكنون عادة من العودة إلى بلدانهم لتلقي العلاج ثم العودة، لا سيما وأن نسبة كبيرة منهم ليست فقط لاجئين أو طالبي لجوء، ولكن ظروف إقامتهم تتراوح بين تعدي فترة التأشيرات أو الإقامة غير الشرعية من الأصل. وعلى رغم ذلك، فإن هؤلاء يحصلون على قدر من الرعاية الصحية المجانية الطارئة والعاجلة، ولكن طبقاً لقواعد محددة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


تعامل كارثي؟

ومع حلول شهر فبراير (شباط) الذي رجح أن يشهد الثقل الأكبر لسلسلة إضرابات العاملين من الطواقم الصحية المعترضين على التعامل "الكارثي" للحكومة البريطانية مع مشكلات الـ "إن إتش إس" من رواتب متدنية وحمل عمل بالغ الثقل لا سيما في ضوء تدني أعداد الطواقم بعد تصويت "بريكست" وعودة عديد من العمال إلى بلادهم.
الأصوات السائدة في وسائل الإعلام التقليدية - حتى تلك التي تميل صوب حزب المحافظين وسياساته التي ترفع راية تقليص الهجرة ومواجهة موجات اللجوء الكبيرة - لا تنتهج صوتاً أو سياسة معادية للجوء والهجرة، لكن هذا لا يحول دون فقرة نقاشية في برنامج تلفزيوني يستقبل اتصالات المشاهدين أو المستمعين، وهي الاتصالات التي تعكس قدراً لا يستهان به من رأي الشارع الحقيقي بعيداً من قيود الصوابية السياسية والبروتوكولات السياسية التي تحتم الاحتفاظ بواجهة حقوقية وقانونية تمنح الأمان وتوفر الأمن لمن تركوا بلادهم خوفاً على أنفسهم وأسرهم من حروب أو نزاعات أو حتى من مغبات أزمات اقتصادية. مساحات أخرى غير مباشرة تلقي الضوء على نبض الشارع بعيداً من قيود الصوابية والتسييس والحقوقية تكمن في مقالات مكتوبة على مواقع مختلفة تتناول ملف الهجرة واللجوء. مقالة كتبها الصحافي والإذاعي البريطاني جون هامفريز على موقع "يو غوف" You Gov تحت عنوان "الهجرة: كم يعتبر زائداً عن الحد؟" تناول فيه استقبال بريطانيا للاجئين والمهاجرين من عمال مهرة أو نصف مهرة أو غير مهرة، وتساءل عما إذا كان على بريطانيا أن تدقق في نوعية المهاجرين وتحدد معايير معينة لهم بحيث لا تضر بأحوالها الاقتصادية وتتيح شغل الوظائف المطلوبة في سوق العمل مع الحفاظ على  الجانب الإنساني والحقوقي للقادمين إليها في الوقت نفسه.

ضيق صدر ملحوظ

نسبة ملحوظة من التعليقات عكست ضيق صدر بالأعداد المتزايدة للقادمين، لا سيما من دول وثقافات تفضل عدم الاندماج في المجتمع البريطاني أو يمثل حضورها عبئاً إضافياً للأعباء الاقتصادية البريطانية لا سيما منظومة الرعاية الصحية. ووصل بعضهم إلى درجة اقتراح التغاضي عن شرط الحصول على شهادات معينة للعمل في مجالات مثل التمريض والطواقم الصحية المساعدة والاكتفاء بقدرات ومعارف أدنى لسد الفراغ وذلك بدل استقدام أو قبول مهاجرين لهذا الغرض. آخرون يجاهرون بضرورة إغلاق باب الهجرة واللجوء كلياً، على الأقل إلى حين تحسن الأوضاع الاقتصادية والسكنية والخدمية لا سيما الرعاية الصحية الحكومية، حيث لا مجال لتحميل الـ "إن إتش إس" بمزيد من خارج البلاد. ومنهم من انتقد سياسة الحكومات المتتالية التي انتهجت مبدأ التعددية الثقافية بديلاً عن الاندماج الثقافي حتى "باتت مناطق في بريطانيا أشبه ببلدان أجنبية" ناهيك عن تحميل نظام الرعاية الصحية ما لم يحتمله.  لكن تظل مثل هذه المقالات تحمل آراء وتوجهات كتابها. وكذلك التعليقات تمثل أصحابها. منهم من يعتبر إنقاذ نظام الرعاية الصحية معتمداً على وقف أو تقليل أعداد المهاجرين واللاجئين، ومنهم من يرى ضرورة الفصل بين تحسين أداء المنظومة الصحية وتحسين منظومة الهجرة واللجوء باعتبارهما منفصلين.

التعامل الحزبي مع الهجرة

البريطانيون على طرفي نقيض، "المحافظون" و"العمال" يتفقون على سوء أداء الحكومات المحافظة الأخيرة في ملف الهجرة وبالطبع ملف الرعاية الصحية، لكن الربط بينهما لا يحدث إلا خلف الأبواب المغلقة. وبحسب استطلاع رأي منشور في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، ينتقد 73 في المئة من البريطانيين تعامل الحكومة مع ملف الهجرة سواء كانوا من أنصار المحافظين أو العمال. وتظهر الفروق بناء على التوجهات السياسية في نقاط أخرى تتعلق بأسباب عدم الرضا. 15 في المئة من أنصار المحافظين يعتبرون أداء الحكومة في ملف الهجرة غير عادل وظالم للمهاجرين وترتفع النسبة إلى 70 في المئة بين أنصار العمال. 66 في المئة من أنصار المحافظين يرون أعداد المسموح لهم بالدخول زائدة عن الحد، وتنخفض النسبة بين أنصار العمال إلى 19 في المئة. و46 في المئة من أنصار المحافظين ينتقدون نوعي المهاجرين واللاجئين في حين تقتصر النسبة على 20 في المئة بين أنصار العمال.
في الوقت ذاته، يقول 55 في المئة من البريطانيين إنه يجب السماح للمؤهلين بالعمل في قطاع الرعاية الصحية بدخول البلاد والاستقرار فيها. يشار إلى أن نسبة العاملين في قطاع الرعاية الصحية الوطنية "إن إتش إس" من غير البريطانيين، لا يصل إلى 16.5 في المئة، حيث يبلغ عدد الأجانب العاملين فيه نحو 220 ألف شخص بين ممرض وطبيب وغيرهما من مقدمي الخدمات الصحية من بين مليون و400 ألف مجموع العاملين في القطاع الأكثر إثارة لقلق وغضب وخوف البريطانيين.

المزيد من تقارير