Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أديب الشيشكلي وخط الدم من السويداء إلى البرازيل إلى دمشق

قتله الشاب الدرزي نواف غزالة وقال له قبل أن يطلق النار "هل نسيت ماذا فعلت بشعبنا"؟

العقيد أديب الشيشكلي (يسار الصورة) والرئيس المصري محمد نجيب وقد تم الإنقلاب عليهما معاً في 25 فبراير 1954 (ويكيبيديا)

منذ بداية القرن الـ20 هزت العالم العربي عمليات اغتيال كثيرة غيرت في مسارات الأحداث والتطورات وبدلت في تاريخ المنطقة. معظم هذه الاغتيالات تم بالرصاص قبل أن تتحول إلى #عمليات_تفجير، وأكثرها كان نتيجة الصراع السياسي. "اندبندنت عربية" تفتح بعض ملفات هذه الاغتيالات، وفي هذه الحلقة نتناول قضية اغتيال الرئيس السوري الأسبق العقيد #أديب_الشيشكلي في 27 سبتمبر (أيلول) 1964 في البرازيل.

إنه العقيد أديب الشيشكلي. هكذا يعرف على رغم أنه كان رئيساً للجمهورية السورية، وحاكماً مباشراً لها في الظل منذ ديسمبر (كانون الأول) 1949 حتى فبراير 1954(شباط). ولد في حماه عام 1909 واغتيل في البرازيل عام 1964. خلال 55 عاماً من حياته شارك وقاد خمسة انقلابات عسكرية، قبل أن يطيحه انقلاب في 25 فبراير عام 1954. الضابط الذي حكم سوريا، بعمر الـ40، انتهى قتيلاً في بلاد بعيدة وهو في الـ55. بعد عشرة أعوام على إبعاده من الحكم وخروجه من سوريا، كان هناك من يترصده انتقاماً لما قام به من استخدام مفرط للقوة في جبل الدروز. فقد امتد حبل الدم من السويداء إلى البرازيل وعاد إلى دمشق.

 

الضابط المولع بالانقلابات

يتحدر الشيشكلي من عائلة حموية ذات أصول تركية، نشأ في حماه وتخرج من المدرسة الحربية في دمشق. تطوع في جيش المشرق الفرنسي، ثم انتقل مع غيره من الضباط إلى الجيش السوري، وكان على رأس لواء اليرموك الثاني في جيش الإنقاذ في فلسطين عام 1948. بعد تلك الحرب وتحميل المسؤولية إلى أنظمة الدول العربية الحديثة الولادة، اشترك مع رئيس أركان الجيش السوري الزعيم حسني الزعيم في الانقلاب الأول في 30 مارس (آذار) 1949 الذي أطاح حكم الرئيس شكري القوتلي الجمهوري، لكن سرعان ما وقع الخلاف بينهما فصرفه الزعيم من الخدمة في محاولة لتكريس سيطرته على السلطة بعد انتخابه رئيساً للجمهورية. ولم يكن بعيداً من الانقلاب الذي أطاح حسني الزعيم وقاده العقيد سامي الحناوي في 31 أغسطس (آب) 1949، فأعدم في اليوم التالي حسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي، وقيل إن قراره جاء انتقاماً لتسليم الزعيم رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعادة إلى لبنان حيث حوكم وأعدم. الشيشكلي كان مؤيداً للحزب السوري القومي الاجتماعي وعلى علاقة جيدة مع قيادة الحزب التي خلفت سعادة، وأمن لها الحماية والإقامة في دمشق. وكان شقيقه صلاح قيادياً منتمياً رسمياً إلى هذا الحزب. عاد الشيشكلي إلى الجيش برتبة عقيد في التاسع من ديسمبر 1949، وبعد عشرة أيام قاد الانقلاب الثالث على الحناوي في 19 ديسمبر ليكون الانقلاب الثالث في عام واحد. ولكن من دون أن يكون الأخير. لم يعدم الشيشكلي العقيد الحناوي بل زجه في السجن، وسمح له بالانتقال إلى لبنان في سبتمبر 1950، حيث اغتاله في 30 أكتوبر (تشرين الأول) حرشو البرازي انتقاماً لقريبه محسن البرازي. وفي الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) أعيد جثمانه إلى سوريا حيث دفن في مقبرة هنانو. ولم يخطر في بال الشيشكلي أنه أيضاً سيسلك هذا الطريق، وهذا القدر فيسمح له بمغادرة سوريا بعد الانقلاب عليه، ثم يتم اغتياله في البرازيل ويعاد جثمانه ليدفن في حماه.

لم يتسلم الشيشكلي رئاسة الدولة بعد الانقلاب، بل عادت الرئاسة إلى الرئيس هاشم الأتاسي وبقي حاكماً في الظل من خلال إمساكه بالقيادة العسكرية في الجيش. وعندما اشتم رائحة تآمر وتجاوز لسلطته من خلال تعيين وزير للدفاع من دون الرجوع إليه، نفذ انقلابه الرابع، وأطاح الرئيس الأتاسي وتسلم السلطة مباشرة ليصير حاكم سوريا المطلق من عام 1951 حتى 1954.

في ليل 31 نوفمبر 1951 تمت خطوة الشيشكلي الحاسمة في الطريق إلى الحكم إذ اعتقل رئيس الوزراء معروف الدواليبي وزج به وبمعظم أعضاء وزارته في السجن، واعتقل رئيس مجلس النواب وبعض النواب، فما كان من رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي إلا أن قدم استقالته. بعد ذلك أذيع البلاغ العسكري رقم واحد في الثاني من ديسمبر 1951 الذي أعلن فيه تولي رئيس الأركان العامة ورئيس المجلس العسكري الأعلى العقيد الشيشكلي مهمات رئاسة الدولة، والصلاحيات الممنوحة للسلطات التنفيذية.

انصب اهتمام الشيشكلي على ترسيخ حكمه العسكري المباشر ووضع في واجهته الزعيم فوزي السلو بعد تعيينه رئيساً للدولة، وأصدر مرسوماً بحل البرلمان. كما حل كل الأحزاب وأسس "حركة التحرير العربي".

الرئاسة والقوة المفرطة

عندما شعر الشيشكلي بتعاظم المعارضة الداخلية لنظامه العسكري، أصدر مرسوم تشكيل وزارة في السادس من يونيو (حزيران) 1952، وأعلن بعد تشكيل الوزارة بأن الجيش سيدعم مشاريع الحكومة من دون التدخل في شؤونها، وأكد بأن هذه الحكومة موقتة مهمتها إيصال البلاد إلى الانتخابات النيابية، في إطار قانون جديد للانتخابات يفتح السبيل أمام تمثيل حقيقي للشعب. وعندما شعر الشيشكلي بأن الساحة خلت له ولحزبه دعا إلى الانتخابات النيابية في 10 يوليو (تموز) 1953، وفاز حزبه بغالبية المقاعد تمهيداً لإعلان انتخابه رئيساً للجمهورية في 10 أغسطس 1953. إلا أن أكبر تحد لرئاسته تمثل في الحملة التي شنها ضد الدروز في منطقة السويداء بعد خلاف مع قائد الثورة ضد الفرنسيين سلطان باشا الأطرش واتهامه مع ابنه منصور بأنه كان يخطط لانقلاب ضده. هذه الحملة التي حصلت في يناير 1954 استخدم فيها العنف المفرط وسلاح الطيران والمدرعات، فسقط كثير من القتلى، بحيث لم يكن من السهل مسامحته عليها. لم ينجح الشيشكلي في ترسيخ حكمه.

من الرئاسة إلى المنفى

قبل أن يصير رئيساً استطاع العقيد الشيشكلي أن يحكم منذ عام 1949. وبعدما صار رئيس الدولة في سبتمبر 1953 بدأ حكمه يتداعى وبدأت المعارضة ضده تتوسع حتى انفجر الصراع على السلطة داخل وحدات الجيش المعارضة له في 25 فبراير 1954 بقيادة مصطفى حمدون من حلب. وعلى رغم أن قطعات الجيش في مدينة دمشق وما حولها، كانت، عند حدوث الانقلاب، ما تزال تحت إمرة الشيشكلي، ومعها مئات الدبابات والعربات المصفحة وآلاف الجنود وضباط كثر، إلا أنه آثر الاستقالة من منصبه بعد موافقة الانقلابيين على مغادرته البلاد. فاختار أن ينتقل إلى لبنان. في ذلك اليوم حصل انقلاب آخر في مصر عندما استولى جمال عبدالناصر على الحكم وقبض على الرئيس محمد نجيب وزج به في السجن. لم يكن أحد ليدرك في ذلك اليوم أن الانقلابين سيقودان إلى إعلان الوحدة بين مصر وسوريا تحت رئاسة عبدالناصر في 22 فبراير 1958 التي ستستمر حتى 28 سبتمبر 1961 وتنتهي أيضاً بانقلاب في سوريا.

وافقت السعودية على استقبال الشيشكلي قبل اتخاذ القرار بترك السلطة والانتقال إلى لبنان ليصير لاجئاً في قنصليتها. ولتعذر انتقاله جواً بسبب الطقس العاصف تقرر أن يكون انتقاله عن طريق البر بين دمشق وبيروت. حصلت اتصالات تمهيدية بين الحكم الجديد في سوريا والحكم في لبنان على عهد الرئيس كميل شمعون فتمت الموافقة على دخوله لبنان، فانتقل ضمن موكب صغير مؤلف من سيارتيه المصفحتين الكاديلاك والمرسيدس، ترافقهما سيارتان عسكريتان سوريتان عادتا لاحقاً إلى سوريا، وكان اتفاق على أن يتم الاتصال بين الشيشكلي وقائد الجيش اللبناني اللواء فؤاد شهاب بعد دخوله لبنان، تأمن الاتصال من مخفر الدرك في فرن الشباك في ضاحية بيروت الشرقية حيث أعلم الشيشكلي شهاب بأنه يريد النزول في المفوضية السعودية فانتقل إليها وسط حراسة مشددة بانتظار انتقاله إلى السعودية بعد موافقة ملكية على هذا الأمر. مع الإشارة أيضاً إلى أنه حاول تأخير انتقاله بعدما فكر بالعودة إلى دمشق بسبب قيام تحرك مضاد للانقلاب ومؤيد له، لكنه عاد وصرف النظر عن هذا الأمر، وغادر القنصلية السعودية في شارع فردان في بيروت إلى المطار حيث كانت طائرة سعودية تنتظر لتنقله إلى المملكة.

 

قدر الموت في البرازيل

لم تكن تلك المرة الأخيرة التي يطل فيها الشيشكلي على مسرح الأحداث. عندما تم الحديث عن اكتشاف حركة انقلابية في سوريا تتحضر انطلاقاً من لبنان في نوفمبر 1956 بتدبير من المقدم غسان جديد والعقيد محمد معروف والحزب السوري القومي الاجتماعي، حكي عن دور للعقيد الشيشكلي، وأنه كان ينتظر نجاح الانقلاب ليعود إلى دمشق، وأنه عاد سراً إلى لبنان لهذه الغاية، ولكن الانقلاب فشل وتلاشت أحلام الرئيس السابق في العودة إلى السلطة.

بقي الشيشكلي في السعودية حتى عام 1957 قبل أن ينتقل إلى فرنسا. وبعد ثلاثة أعوام اختار منفاه الأخير في البرازيل التي وصل إليها في الثامن من أبريل (نيسان) 1960 ونزل في فندق أكسلسيور في ريو دوجنيرو. وبعد ذلك انتقل إلى سيريس واشترى منزلاً في الشارع الرئيس، واشترى مزرعة واسعة المساحة في شمال غواياس بعيدة من المدن، وهي منطقة يعيش فيها مهاجرون سوريون ولبنانيون. عاش في بيته مع زوجته الثانية الفرنسية تيريز فلاف وابنتهما الصغيرة أمل (ست سنوات)، وكانت الأم وابنتها موجودتين في فرنسا وغادرتا إلى البرازيل في الخامس من سبتمبر عبر مرفأ مارسيليا على متن الباخرة نورماندي، ووصلتا إلى ريو دوجنيرو في 25 سبتمبر قبل اغتياله بيومين، عندما أطلق عليه النار شاب درزي من السويداء يدعى نواف غزالة كان يقيم في البرازيل منذ عام 1955 وقد قتل عدد من أفراد عائلته خلال الحرب التي شنها الشيشكلي على محافظة السويداء ذات الأكثرية الدرزية. ولم يتم حسم مسألة إذا تصرف غزالة بقرار ذاتي أم هناك من حرضه على عملية اغتيال الشيشكلي. حيث إن بعض الروايات تحدثت عن علاقة ضابط درزي يدعى حمد عبيد بالعملية وقد أصبح لاحقاً وزيراً للدفاع عام 1965 بعد انقلاب البعث في عام 1963. وتحدثت روايات أخرى عن علاقة ضابط آخر يدعي سليم حاطوم. وقد بقي غزالة فاراً من وجه العدالة بعد تنفيذ عملية الاغتيال، حتى تم توقيفه في الرابع من أكتوبر بعدما استسلم لقوى الأمن البرازيلية، وقال في التحقيق الأولي معه إنه قتل الشيشكلي عندما سمع أن الحكومة السورية أصدرت عفواً عنه، وأنه كان ينوي (الشيشكلي) العودة إلى سوريا وربما المشاركة في الحكم واستئناف أعمال القتل ضد الدروز. غزالة اعترف إنه قال وهو يهم بإطلاق النار عليه: هل نسيت ماذا فعلت بشعبنا؟ وأضاف أنه التقاه أكثر من مرة سابقاً، وأنه نفذ عملية الاغتيال وحده من دون مساعدة أحد، وعثر معه على أربعة ملايين كروزيروس كان ينوي استخدامها للفرار من البرازيل جواً.

عودة القاتل والقتيل إلى سوريا

في التاسع من أكتوبر 1964 وصل جثمان الشيشكلي إلى حماه في سوريا بعدما نقل على طائرة سورية هبطت في مطار المزة بعد محطة أولى في بروكسيل في بلجيكا. وصلي عليه في جامع المسعود قبل أن يوارى الثرى.

ولد نواف غزالة عام 1927 في قرية ملحة التي تبعد عن السويداء 42 كيلومتراً وكان يعمل فلاحاً ثم انتقل عام منتصف خمسينيات القرن الماضي إلى البرازيل وقطن في عاصمتها برازيليا وعمل فيها تاجراً.

توفي نواف غزالة في 20 نوفمبر 2005 عن عمر ناهز 80 سنة وأعيد جثمانه من البرازيل ليدفن في مسقط رأسه في ملحة في السويداء في الثالث من ديسمبر 2005.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات