Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل غاب الحكماء في عالم يزداد جنونا؟

يبدو أن العقد الثالث من القرن الـ21 يقوده الصقور من أصحاب الرؤوس الحامية ممن لا يعبأون بالعواقب المدمرة للحرب

يشهد العالم 27 صراعا مستمرا يغشي عيون المجتمع الدولي عن أيها أشد ضراوة على الأمن والسلم    (رويترز)

صراع كبير يتقاتل فيه الدب الروسي مع القوى الغربية على الأراضي الأوكرانية وصراعات أصغر بين دول في مناطق متفرقة لا يلتفت إليها العالم كثيراً وتوترات تنبئ بنزاعات أوسع في آسيا أو الشرق الأوسط وترسانات نووية منتفخة في أياد متهورة وملايين من النازحين يزدادون يومياً.

هذا هو المشهد عند النظر إلى خريطة العالم اليوم، فما بين النزاعات الدولية والإقليمية أو الأهلية، يبدو أن الحقبة الحالية من تاريخ العالم يقودها أصحاب الرؤوس الحامية ممن يدفعون المشهد إلى مزيد من التعقيد والخسارة.

تعطل النزاعات الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل الغذاء والماء وتجبر الملايين على العيش في فقر مدقع، إذ يدفع الأشد فقراً والأكثر ضعفاً الثمن الباهظ.

إضافة إلى إزهاق الأرواح وتدمير البنية التحتية، فإن الصراع وعواقبه عميقة ودائمة، مما يؤدي إلى عرقلة التقدم نحو تحقيق الأهداف العالمية، وبينما تقع الأزمة الإنسانية في أوكرانيا في دائرة الضوء، هناك عشرات النزاعات التي تحدث على مستوى العالم جراء عناد وفساد القادة السياسيين، وسط ما يبدو غياب الحكماء في عالم يزداد جنوناً.

وفق مرصد الصراعات العالمي التابع لمجلس العلاقات الخارجية الأميركي "يوجد حالياً 27 صراعاً مستمراً في جميع أنحاء العالم، تقع بين ثلاث فئات متفاقم وثابت ويتحسن، وفي الوقت الحالي لا يقع أي من هذه الصراعات في الفئة الأخيرة (يتحسن). ومن بين الصراعات المتفاقمة، الحرب في أوكرانيا والوضع في أفغانستان وعدم الاستقرار السياسي في لبنان والوضع في اليمن وأزمة الروهينغا في ميانمار والصراع في إثيوبيا، وأسفرت الصراعات في جميع أنحاء العالم عن 70.8 مليون نازح".

الحرب هي فشل الإنسان كحيوان مفكر

عادة ما يصور الرؤساء أو القادة السياسيون الحرب على أنها عمل بطولي يتعلق بالدفاع عن الوطن، بل الفرصة الأفضل لاستعراض الشجاعة والتضحية بالنفس والمثالية، وفي ظل هذه الكلمات الرنانة وبين الترغيب والتخويف من أخطار تداهم أمن البلاد أو ضياع حقوقها، تتوارى حقائق الموت والدمار حيث الخسارة البشرية والمادية. فالقادة الذين يشنون الحروب لا يهتمون بأنهم يلحقون ضرراً كبيراً بالمجتمع المدني، بل يعتقد الخبراء النفسيون بأنه يجب أن ينظر إلى رغبة أولئك الصقور في القتال على أنها أحد أعراض الحال الذهنية المضطربة ويشير آخرون إلى أن العالم الداخلي لهذا النوع من القادة أو من يوصفون بأصحاب الرؤوس الحامية محكوم بالعواطف البدائية.

 

 

 يقول الكاتب الأميركي جون شتاينبك إن "كل الحروب هي أحد أعراض فشل الإنسان كحيوان مفكر"، ويمكن القول، وفق أستاذ تطوير القيادة والتغيير التنظيمي بكلية إنسيد في فرنسا مانفريد أف أر كيتس دي فريز، إن "الحرب هي ردنا الافتراضي مثل ردود الفعل السريعة الشائعة بين الأطفال الصغار". بينما ذهب الفيلسوف برتراند راسل إلى أن "الحرب لا تحدد من صاحب الحق، وإنما تحدد من يتبقى"، بل إنه حتى لو لم يصَب بأذى جسدي، فلن ينجو أي جندي من الحرب.

فلماذا إذاً يبدأ القادة الحروب وهم يعلمون جيداً الآثار المدمرة لها؟، يعتبر دي فريز أن "إحدى طرق فهم هذا السؤال  فحص عقول الأشخاص الذين في السلطة. فثمة شخصيات معينة أكثر عرضة لإغراء البحث عن السلطة، وعندما يحققون ما كانوا يطمحون إليه دائماً قد ترفع الغطرسة رأسها القبيح. يمكن لمثل هؤلاء القادة أن ينفصلوا عن الواقع ويبدأوا  بالعيش في غرفة صدى. نتيجة لذلك، يميل الأشخاص المحيطون إلى إخبارهم فقط بما يحبون سماعه، فيما أن أولئك الذين يعيشون في ضباب نرجسي هم عرضة لأوهام العظمة ويخافون من أن قاعدة قوتهم قد تؤخذ منهم. كما أن الطريقة الجذابة لهؤلاء القادة لتوطيد قاعدة السلطة وترسيخ قبضتهم على رعاياهم هي خلق عدو مشترك. عندما يشعر الناس بالتهديد، فإنهم يقعون في وضع الاعتمادية ويطالبون بقائد يرشدهم نحو الطريق، بينما غالباً لا يدرك الناس الثمن الذي سيدفعونه مقابل وهم الحماية الموقت". 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يمكن أن يكون القادة السامون مبدعين في حشد السكان لقضيتهم، هذا لأنهم يعرفون جيداً العناصر الثلاثة للقيادة على طريقة الديماغوجيين، الشعبوية والاستقطاب والدعاية.

يوضح البروفيسور الفرنسي أن القادة الشعوبيين يخلقون عادة حقائق خيالية لرعاياهم، إذ يخبرون رعاياهم بما يحبون سماعه، على رغم أن هذا ربما يكون غير واقعي. كما أنهم ماهرون في خلق عالم "نحن" (الطيبون) مقابل "هم" (الأشرار)، إذ إنهم خبراء في الدفاع والإسقاط فيسارعون إلى إلقاء اللوم على الآخرين عندما تسوء الأمور. وعلى صعيد الدعاية، فإنهم يبنون عالماً يقوم على حقائق بديلة، كما قال الكاتب المسرحي اليوناني القديم إسخيلوس، "في الحرب، الحقيقة هي أول ضحية"، إذ تقدم الأكاذيب لتهدئة الضمير العام وتستبدل الحقيقة بالدعاية.

منظمة الحلفاء

ربما ينطبق تشريح دي فريز لأصحاب الرؤوس الحامية على أولئك القادة الذين يحكمون بطرق استبدادية في الداخل مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أو حليفه البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، وثمة مثال أقرب إلى ذلك التشريح وهو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يقمع معارضيه في الداخل ويثير عداوات مع جيرانه ويزيد من مواقفه المتشددة من أجل مكاسب انتخابية، لا سيما في ظل شعبيته المتراجعة، ويشبهه حليفه رئيس أذربيجان إلهام علييف، فالأمثلة عدة على أولئك. ومع ذلك ثمة قادة شعبويون حتى في الديمقراطيات الغربية ممن يفضلون الصراع على السلام، كما أن المنافسة الجيوسياسية بين واشنطن وبكين تثير القلق أحياناً من اندلاع صراع من نوع آخر. لكن في قلب هذا المشهد العالمي المتفاقم يتساءل كثيرون عن غياب الحكماء، فثمة قادة سابقون حققوا السلام يمكن التعويل عليهم في الوساطة أو أن يكونوا صوتاً للحكمة، كما أن هناك أمثلة عدة على دول قادها رؤساؤها نحو العمل كوسيط محايد لإنهاء حروب شرسة.

عام 2007 أسس الزعيم الجنوب أفريقي الراحل نيلسون مانديلا منظمة "الحكماء" التي تتمثل مهمتها في التواصل مع القادة العالميين والمجتمع المدني على جميع المستويات لحل النزاع ومعالجة أسبابه الجذرية وتحدي الظلم وتعزيز القيادة الأخلاقية والحكم الرشيد".

 

 

ضمت المنظمة في عضويتها دبلوماسيين وسياسيين سابقين وحقوقيين ودعاة سلام حاصلين على جوائز نوبل، كما ترأسها الأمين العام للأمم المتحدة الراحل كوفي أنان ويتقلد الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون حالياً منصب نائب رئيس المؤسسة. وعام 2016، كان ثلاثة من أعضائها حاضرين للتوقيع على اتفاق سلام تاريخي بين حكومة كولومبيا والقوات المسلحة الثورية لكولومبيا (فارك). وتعمل المنظمة بنشاط للتوسط في تهدئة صراعات عدة وحلها، وعلى رأسها الحرب الأهلية في إثيوبيا والوضع المتأزم في أفغانستان منذ استيلاء حركة "طالبان" على الحكم، كما زار بان كي مون وعدد من أعضاء المنظمة أوكرانيا لإظهار الدعم لكييف، لكنها في الوقت نفسه تتجاهل صراعات أخرى لا تستحوذ على الاهتمام الغربي، كما ينظر إليها آخرون على أنها منحازة للأطراف الغربية مما يعوق عملها أحياناً

واقعية كيسنجر لا تناسب المتغطرسين

على أي حال يبدو أن العقد الثالث من القرن الـ21 يقوده الصقور من الرؤوس الحامية. فمنذ بداية اشتعال الصراع في أوكرانيا، حل وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، الدبلوماسي الأسطوري، ضيفاً على عدد من مراكز الأبحاث الغربية التي تسابقت للاستماع إلى الرجل صاحب الـ99 سنة الذي عرف بالدبلوماسية البراغماتية فكان رائداً في سياسة الانفراج مع الاتحاد السوفياتي وساعد في فتح العلاقات مع الصين والتفاوض على اتفاقات باريس للسلام وإنهاء حرب فيتنام الطويلة والدامية. كانت هذه من بين عشرات الإنجازات البارزة الأخرى التي يرتبط معظمها بتسهيل عمليات التهدئة السلمية باسم السياسة الواقعية.

بالفعل، دعا كيسنجر إلى اتباع نهج أكثر واقعية لإنهاء الحرب والمعاناة الإنسانية غير الضرورية في أوكرانيا من خلال الدخول في محادثات سلام مع روسيا، لكن سرعان ما رفضت كييف نصيحته.

 الدبلوماسي الأميركي الأسبق سعى جاهداً إلى إقناع القوى الغربية بالسلام منذ اشتعال شرارة الحرب قبل نحو عام، وكتب مقالة أخيراً بعنوان "كيف تتجنب حرباً عالمية أخرى"، يقارن فيها بين الحرب العالمية الأولى والصراع الحالي الذي يدور في أوكرانيا. ووجه النصيحة إلى كييف (بالتالي، إلى المجتمع الدولي الغربي) بضرورة الاستفادة من فصل الشتاء لوقف المناورات العسكرية الكبيرة على طول الخطوط الأمامية والسعي إلى الدخول في محادثات سلام مع روسيا. وأشار إلى أن الوضع يشبه عام 1916، إذ أدرك الطرفان الآن أن هذه الحرب لن تنتهي بسهولة وبسرعة كما كان متوقعاً وسجل الجانبان عدداً أكبر كثيراً من القتلى مما كان متوقعاً، فتشير التقديرات إلى خسارة حوالى 100 ألف جندي لكل منهما. أيضاً، ربما لا يكون هناك وقت آخر للعودة للوضع السابق، أي خطوط المواجهة قبل عام 2022. لكن كيسنجر يرى أن هذا هو الوقت أيضاً "للبناء على التغييرات الاستراتيجية التي أنجزت بالفعل ودمجها في هيكل جديد" أثناء التفاوض على السلام.

 

 

ومع ذلك وعلى رغم منطقه الذي لا تشوبه شائبة، فإن حجج كيسنجر تسقط أمام القادة الأوكرانيين. يقول الزميل لدى معهد دانوب للأبحاث السياسية في بودابست تاماس أوربان إن "كييف لا تريد أن تسمع أياً من هراء السياسة الواقعية، كما يراها قادتها، إذ وعد الرئيس فولوديمير زيلينسكي بتحرير شبه جزيرة القرم ودونباس، لذلك لا ينبغي لأحد أن يتوقع طريقاً مختصراً في هذه الحرب". وذهب مستشار الرئيس الأوكراني ميخايلو بودولاك إلى أن "كيسنجر لم يفهم بعد أي شيء. لا طبيعة هذه الحرب ولا تأثيرها في النظام العالمي، يجب أن يتذكر جميع مؤيدي الحلول البسيطة أن أي اتفاق مع الشيطان، سلام سيئ على حساب الأراضي الأوكرانية، سيكون انتصاراً لبوتين ووصفة لنجاح المستبدين في جميع أنحاء العالم".

لكن يبدو أن التشدد هو سيد الموقف في مثل هذه النزاعات، ويرى أوربان أن "حجة بودولاك تبدو معقولة، ومع ذلك، فإنه إذا تنازل عن غطرسته، فسوف يدرك أن كيسنجر موجود منذ ما يقرب من قرن من الزمان وربما يعرف عن المعتدين أكثر من أي شخص آخر على هذا الكوكب".

 

 

النساء يحققن السلام

المشهد العالمي المتفاقم على رغم مساعي الحكماء يسلط الضوء على الحاجة إلى مزيد من النساء في المناصب القيادية العليا وتصدرهم للدبلوماسية سواء الوقائية أو المتعلقة بحل الصراعات وتزداد احتمالية أن تحقق الدول سلاماً دائماً بعد انتهاء الصراع عندما تدعى النساء إلى طاولة المفاوضات.

رصد تحليل أجرته منظمة الأمن الشامل الأميركية لـ182 اتفاق سلام موقعاً بين عامي 1989 و2011، أن "فرص استمرار الاتفاق لمدة 15 عاماً في الأقل تزداد بنسبة 35 في المئة إذا تم تضمين النساء في المفاوضات والوساطة والتوقيع. ومع ذلك فإن عدد النساء المشاركات في محادثات السلام لا يزال ضئيلاً". وبحسب دراسة للأمم المتحدة فإن 2.4 في المئة فقط من الوسطاء وتسعة في المئة من المفاوضين هم من النساء، بينما بلغت نسبة النساء الموقعات على 31 عملية سلام أربعة في المئة فقط، في حين أن إشراك النساء يمكن أن يحدث فرقاً كبيراً في استمرار أمد السلام.

تنجح النساء كوسيطات ومفاوضات بسبب الصفات التي ينظر إليها تقليدياً على أنها أنثوية. ففي إيرلندا الشمالية والصومال وجنوب أفريقيا، اكتسبت المشاركات في عمليات السلام سمعة طيبة في تعزيز الحوار وإشراك جميع الأطراف. وغالباً ما ينظر إليهن أيضاً على أنهن وسيطات نزيهات وأكثر جدارة بالثقة وأقل تهديداً، لأنهن يتصرفن خارج هياكل السلطة الرسمية. وعلى رغم تصور النعومة والمرونة، فإن أفعالهن غالباً ما تكون قوية، ففي عام 2003 قادت ناشطة السلام الليبيرية ليما غبوي تحالفاً من آلاف النساء المسلمات والمسيحيات في الاعتصامات والصلاة والصوم، مما ساعد على إنهاء الحرب الأهلية الوحشية في البلاد التي استمرت 14 عاماً. وحصلت غبوي الذي أطلق عليها لقب "المحاربة من أجل السلام" على جائزة نوبل للسلام لعام 2011.

المزيد من تقارير