Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

" وضع حد"... عن الهوس بالأسلاك الشائكة وأبراج الحراسة

"اقتربنا من نهاية اللعبة التي بدأت قبل آلاف السنين حينما اخترعنا للمرة الأولى تقسيم الأرض"

شهدت العقود الأخيرة ضغطاً من العالم الغربي على حكوماته ومؤسساته الدولية وبنوكه من أجل تيسير عبور السلع للحدود (أ ب)

لو أننا صدقنا جان جاك روسو، وأميل شخصياً إلى أن أصدقه دائماً، فإن المجتمع المدني نشأ عندما جاء شخص، للمرة الأولى، إلى قطعة أرض فأقام حولها سياجاً، وقال "هذه ملكي" ووجد من الناس سذَّجاً يصدقونه. هذا الشخص بحسب روسو "هو المؤسس الحق للمجتمع المدني". ومعنى هذا، أو على الأقل من المعاني المحتملة لهذا، أن المجتمع الإنساني قائم على البغي. ولا أعرف هل من الصعب فعلاً أن نصدق هذا، ولم لا، والدين يخبرنا أيضاً أن من أولى خطوات البشر نحو الحضارة خطوة اتخذها قاتل حين تعلم كيف يواري قتيله، ومن ذلك القاتل تناسلنا، وعنه أخذنا الدفن، والقتل أيضاً.

صاحب السياج الأول إذن هو الذي يُنسب إليه فضل تأسيس المجتمع، أو ربما هو المدان بذلك. فلا شك أن سياجه أغرى آخرين بأن تكون لهم أسيجتهم، وبغتةً، بات كل من أولئك ملزماً بحماية ما يتجاوز جسمه، صار عليه أن يحمي تلك القطعة من الأرض بما عليها، صار لديه إحساس بملكية الأرض والحيوانات والبشر أيضاً. صار إحساسه تجاه ذلك السياج كإحساسه تجاه جلده نفسه. ولا شك أن ذلك غرس في نفس هذا الشخص مشاعر جديدة، وأقام بينه وبين الآخرين من أصحاب الأسيجة علاقات جديدة، وطبيعي بل إنساني أن تكون علاقات تعاون وتعاضد، وطبيعي وإنساني بالقدر نفسه أن تكون علاقات تنافس وتباغض.

"حافة السهل"

في كتاب حديث بعنوان "حافة السهل: كيف أقامت الحدود العالم وكيف قوضته" يقول المؤلف، وهو الصحافي والإعلامي الاسكتلندي جيمس كراوفورد "إن هوسنا بالحدود بلغ بنا حد الأزمة، وإننا اقتربنا من نهاية اللعبة التي بدأت قبل آلاف السنين حينما اخترعنا للمرة الأولى تقسيم الأرض".
لكن ربما ليست الحدود فقط هي التي وصلت بنا إلى نهاية اللعبة. ليست الأسلاك الشائكة المشدودة، وأبراج الحراسة، ودوريات الحرس. ليس ذلك فقط ما يفصل بين الناس والناس. ليست تلك الخطوط الحمراء المتقطعة التي تمزق أواصل الكوكب في أطالسه وخرائطه. ولكن أيضاً اللغات، والأديان، وألوان البشرة، والتاريخ، والخطط المختلفة المتعارضة للمستقبل. الزجاج بين العميل والمصرفي. اللقب العلمي قبل الاسم، أو الرتبة، أو الزيّ الموحد. كل هذه حدود وتقسيمات وصلت بنا إلى نهاية اللعبة. اللعبة التي تعمينا عن جوهرنا الواحد، ومأزقنا الواحد، ومصيرنا الواحد. وتجعلنا في عمانا الجمعي نقتتل ونتحارب ويأكل بعضنا أجساد بعض. مع أن كل ذلك يسهل جداً أن نعده من أسباب التنوع التي تثير فضولنا تجاه بعضنا البعض وتحرضنا على دعوة الإسلام إلى التعارف بين الشعوب والقبائل.

اليوم، كما يقول ناشر الكتاب في بيان إطلاقه، تتصادم القوميات وتغيّر المناخ والعولمة والتكنولوجيا والهجرة الجماعية مع الحدود التي تزداد صلابة. ولا بد من تنازل إحدى القوتين. لأن مستقبل العالم كما نعرفه معرض للخطر. فالحدود هي الامتحان الأكبر. وعلينا أن نواجه أنفسنا: هل بوسعنا أن نتخلى عن هذه الخطوط التي تفصلنا؟ أم مقدّر لنا أن نكرر أخطاء الماضي، بينما يمضي عالمنا إلى الغضب والاحترار والانقسام والكارثة؟
في مزيج من التاريخ وأدب الرحلات والتحقيق الصحافي، يمضي بنا "حافة السهل" عبر تاريخ الحدود، ابتداءً من أول واضعي العلامات بين الحقول، وصولاً إلى أسوار تقام في شتى أرجاء العالم اليوم. قصة يحكيها جيمس كراوفورد في أربعة أقسام: التكوين، والتحريك، والاجتياز، والاختراق، مستكشفاً في كل جزء جانباً مختلفاً من دورة حياة الحدود في العالم وعبر التاريخ: كيف تقام، وكيف يمكن تغييرها، وتطورها، وكيف يمكن اجتيازها أو اختراقها، وأخيراً، كيف يمكن التغلب عليها؟
"جرح في جسد الأفق"
تتساءل لورين ريدنيس في مستهل استعراضها للكتاب (نيويورك تايمز 8 يناير/ كانون الثاني 2023): ما الحدود؟ وتنقل إجابات مختلفة عن كراوفورد. فالحدود قد تكون "قصة هوية" أو "مكاناً يمثل في آنٍ واحد موضع خوف وموضع إجلال"، و"يرسم كراوفورد الحدود في بعض الأحيان، جغرافياً وأخلاقياً، فهي "جرح في جسد الأفق" وكثيراً ما توجد في الفضاء الاستعاري، إذ تعيّن "الرحلة من الولد إلى الرجل، والهامش بين العقل والجنون. والحدود على أي حال ليست أبداً محض خط، أو علامة، أو سور، أو حافة. هي أولاً وأخيراً فكرة".

وهذه الفكرة في نظر كراوفورد فكرة رديئة ممجوجة دائماً. وتقول لورين ريدنيس إن كراوفورد يجري استقصاءً طموحاً لهذه الشبكة الهائلة من الخطوط الجارية في جميع أرجاء الأرض. فيزور بقايا "سور أنطونين الحجري" الذي كان يمثل الحد الشمالي للإمبراطورية الرومانية، ويخوض في مجامع المطر في جبال الألب الفاصلة بين إيطاليا والنمسا، ويكتب عن أوطان لا تعرف الحدود مثل شعب سامي من السكان الأصليين في شبه الجزيرة الاسكندنافية. ولكن الكتاب يعود المرة تلو الأخرى إلى مشاهد القسوة والوحشية، والآفاق الطبيعية المدمَّرة والحيوات المحطمة على الحدود ذات الطبيعة العسكرية في عالمنا اليوم. ويستشهد كراوفورد بناشط بيئي يقول إنه "حيثما توجد حدود، فستجد أشد أشكال الظلم تركيزاً".

"من أمثلة هذه الأماكن مدينة مليلية، وهي منطقة تابعة للسلطات الإسبانية تتمتع بحكم ذاتي، وهي مقتطعة من الساحل الشمالي الشرقي للمغرب. ومليلية بحسب ما يوضح كراوفورد، هي إحدى منطقتي حدود بريتين بين أوروبا وأفريقيا. وتنتهي المدينة عند "خط يعين الفاصل بين فارق ثمانية أمثال في نسبة إجمالي الدخل الوطني لكل نسمة". في داخل مخيمات مليلية، ينتظر المهاجرون ويستعدون لاختراق عقبة المسار المميت المكوَّن من أسيجة وأسلاك شائكة وخنادق وحراس مسلحين، فمن وراء ذلك كله ثمة أوروبا على شكل ملعب غولف، ومركز اعتقال، وفرصة للجوء لمَن يعبرون كل تلك العراقيل ناجين. وبسبب الخطر الهائل والاحتمال الكبير للرجوع أمام "حشود أفراد الشرطة العسكرية المزودين بالهراوات ودروع مكافحة الشغب" يقدم الناس على حدود مليلية في مجموعات، تبلغ المئات في بعض الأحيان. ويتسلقون حفاة، ليكونوا أرشق حركة على الأسيجة، وتكون "المرحلة الأخيرة لعبة أرقام، أو هي يانصيب جسدي وحشي" بحسب ما يكتب كراوفورد، "إذ يقفز أولئك على الأرض راجين أن يكون عددهم أضخم من قدرة الشرطة على الاحتواء".
ما الداعي لبناء سور من الأساس؟
في زيارته لـ"سور أنطونين الحجري" يكتب كراوفورد إن "هذا الحد كان بمثابة استعراض كبير ورمز بطول 37 ميلاً، للقدرة الرومانية على ترويض البرية والطبيعة". ولكن ما الداعي لبناء سور من الأساس؟ يجيب كراوفرود على سؤال ستيفن بول في استعراضه للكتاب (صحيفة الغارديان، 11 أغسطس/ آب 2022) بأن "رغبة الرومان في إقامة حد ملموس للإمبراطورية التي كانت ذات يوم بلا حدود قد نشأت عن أزمة افتقاد الأمن. ومثل ذلك قد يقال عن الأسوار الإلكترونية التي تحاصر مواطني البلاد في محاولة لمنع وصولهم إلى الإنترنت الأوسع. فإذا كان صد الهمج وإبقاؤهم بعيداً وظيفة من وظائف الحدود، فإن أسر المواطنين وظيفة أخرى. وهذا ما يفعله جدار الحماية الصيني ونظيره الروسي إذ يطبقان نوعاً من الحَجْر الصحي المعرفي".

لكن بعيداً من تمثيل السور الملموس بالسور الرقمي، ثمة أمثال أخرى للسور الروماني في عالمنا اليوم. إذ تكتب فريدنيس في مقالها أن "ثمة منطقة حدودية خطيرة أخرى تقع في أريزونا، وهي منطقة النصب الوطني لصبار أنابيب الأرغن، التي تمثل محمية خاضعة لحماية هيئة اليونسكو، تتضمن الخط الحدودي بين الولايات المتحدة والمكسيك. وفي صيف 2019، أعملت إدارة ترمب الجرافات في النظام البيئي الهش هناك لإفساح مجال أمام بناء فولاذي بارتفاع ثلاثة طوابق تقريباً، وحينما تولى جو بايدن الرئاسة توقف العمل في البناء بعد عام ونصف العام، ليبقى "أطلالاً". ويكتب كراوفورد عن جهود الفنانين المفاهيميين للحفاظ على النماذج الأولية للسور الحدودي معلماً فنياً وتاريخياً، أو شاهداً "على حماقة الحقبة الترمبية". يحاور كراوفورد في كتابه فنانين يعملون على ذلك الحد الجنوبي لأميركا. فيجري مقابلة مع ماركوس راميريز وديفيد تيلور اللذين أقاما سلسلة من الصلب المغلفن بمحاذاة خط معاهدة آدمس-أونيس، سنة 1821 التي اعتبرت نصف مليون ميل مربع مما يعرف اليوم بالولايات المتحدة الأميركية أرضاً مكسيكية.

يوجز هذا منهج كراوفورد في كتابه، فهو يتعقب تاريخ منطقة حدودية متنازع عليها، ويبحث عن فنانين ونشطاء وصحافيين لعرض وجهات النظر المعاصرة من خلالهم. ففي الضفة الغربية على سبيل المثال يناقش الصراع مع الناشط الفلسطيني وعالم الاجتماع بهاء حلّو والمعماري البريطاني الإسرائيلي إيال وايزمان. كما يخصص فصلاً للصحافي غيليرمو آبريل والمصور كارلوس سبوتورنو اللذين سافرا في أطراف أوروبا في الفترة بين عامي 2014 و2016 بتكليف من صحيفة "إل باييس" الأسبانية. ويبني كراوفورد كتابته عن الوضع في مليلية وغيرها من المناطق الحدودية الأوروبية على مقابلات مع آبريل وسبوتورنو.

تسمي لورين ريدنيس هذا النهج بغرفة المرايا "إذ نشاهد كراوفورد وهو يشاهد آخرين شاهدوا الحدود. وهؤلاء الفنانون والمثقفون يكافحون لكي يكونوا شهوداً على مآسي الحدود والهجرة ويبرزوا جانبها الإنساني" فكأن الكتاب ليس فقط تجسيماً لما تمثله الحدود إبرازاً لهذه المآسي، ولكن فيه جانباً مطمئِناً أيضاً إذ يوثق لنوع آخر من "حرس الحدود"، نوع من "المرابطين" الذين لا يراقبون الحدود لضمان عدم نفاذيتها، بل لفضح وحشية الجهود المبذولة من أجل ذلك. قد يكون من دواعي الطمأنينة حقاً أن نعلم بوجود بشر منا كرسوا حياتهم، أو بعضها، للقيام بهذا الدور، لكنه بعد الطمأنة قد يكون إشارة إلى دور لا يقوم به بقيتنا، وهو ليس بالضرورة دور الشهادة أو الرصد، وإنما هو دور آخر ينبغي أن يترتب على ذلك، ويجدر بنا نحن أن نحدده.

تقول لورين ريدنيس "إننا نسمع فقط عن أعمال أولئك الفنانين من دون أن نعاينها، فيبقى قراء كراوفورد على مسافة من الأعمال الفنية، ناهيكم عن مسافتهم من البشر الذين يفترض بهذه الأعمال الفنية أن تستحضر حياتهم. وكراوفورد في مقدمته يكتب أنه بحث عن الناس الذين استهلكت الحدود حياتهم. عن الذين يعيشون ويعملون على الهوامش". وتشير ريدنيس إلى أن كراوفورد في ما يبدو، لم يجر مقابلة مع أي من المهاجرين، أو طالبي اللجوء، أو المهربين، أو الساسة. بل إنه في الفصل المخصص لمليلية يسأل سبوتورنو، المصوّر، عما لو كان لديه أي تصور لما يشعر به الحرس تجاه عملهم، فتعلق ريدنيس بقولها إنه "ليس واضحاً السبب الذي جعل كراوفورد يمتنع عن تجاوز الوسيط ليتحدث مباشرة مع حارس حديثاً شخصياً".


الخط الفاصل

في استعراضه للكتاب، يكتب ستيفن بول أن كثيراً من حدود العالم السياسية تطابق فواصل طبيعية من قبيل البحار والأنهار والصحاري والجبال، لكن حتى هذه الفواصل الطبيعية لا يمكن الاعتماد على ثباتها، فالحدود بين إيطاليا والنمسا تتحرك كل عام لأن الجليد الذي يعيِّنها يذوب طول الوقت. يحكي أحد الذين حاورهم كراوفورد أنه نجح في اختراق حرم بيروقراطي ليكتشف أن حدود إيطاليا مع سلوفينيا والنمسا وسويسرا وفرنسا محددة في وثائق رسمية محفوظة في ثلاث خزائن متينة، لكنها لا تكف عن التقادم بسبب تغير المناخ. فالطبيعة بوضوح لا تحترم الحدود، ولا تعترف بها.

وتؤكد هذا ريدنيس إذ تشير إلى مقابلة لكراوفورد مع ديزي هوغلاند، الباحثة في الفيروسات التي تظهر في قسم متأخر من الكتاب، وتحديداً في الفصل المخصص لمسببات الأمراض باعتبارها من منتهكي الحدود، وتحديداً "الخط الحدودي النهائي" الفاصل بين الحياة والموت. "لقد أبرز وباء كوفيد بصفة خاصة، كيف أن العدوى لا يمكن احتواؤها بقوة الحدود السياسية. ويصدق ذلك على كثير من تحديات زمننا، من التغيّر المناخي إلى المعلومات المغلوطة. فالحدود التي تسم عالمنا إما عديمة الفعالية أو عديمة الإنسانية أو كلاهما".

يكتب كراوفورد أن جسد الواحد منا أفق معرض للهجوم الدائم وكذلك كان دائماً. أفق لا يتوقف عن مراقبة محيطه خشية الاختراق أو الدخول غير المصرح به. والعلماء الذين يدرسون مسببات الأمراض لا بد أن يعملوا في مختبرات معتمدة "مؤَمَّنة حيوياً" ذات حدود لا يمكن اختراقها من العالم الخارجي. وما كل الفوضى التي تسبب فيها "كوفيد 19" إلا لأنه يتسبب في رد فعل مغالى فيه من الجهاز المناعي. ويعلق كراوفورد تعليقاً قاتماً فيقول "إن النظام المناعي يركز انتباهه تماماً على دخول أجسام غريبة، ويمزق نفسه في محاولة لصدها وردها. ومن المغري القول إنه ما من فيروس أكثر منه ملاءة لعصرنا الراهن".

وليس بمنفصل عنه في آثاره، كما يكتب ستيفن بول، جدار العزل الذي أقامته إسرائيل فحاولت في البداية أن تحمل الجميع على تسميته السياج. غير أن لنا بصيصاً من نور الارتياح في "غرافيتي" شاهده كراوفورد على الحاجز يقول "اصنعوا الحمص لا الأسوار"، فما كان منه إلا أن اشترى عبوة من رذاذ الطلاء وأسهم في الغرافيتي بإعادة صياغة لعبارة سومرية تعني "الأرض المشاع". يقول عالم الاجتماع الفلسطيني بهاء حلو لكراوفورد إن "هذا الجدار لا يفصل في الحقيقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين" فعلى كل جانب من جانبيه فلسطينيون وإسرائيليون "لكن الجدار عائق. عائق بين الفلسطينيين والفلسطينيين".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بين هنا وهناك
يقول ستيفن بول إنه "دونما حدود على الإطلاق... لن يكون من سبيل إلى التفرقة بين هنا وهناك، وعلماء السياسة يميلون إلى الاتفاق على أن الحدود الوطنية ضرورة لعمل دول الرفاه. وحتى الشعوب التي لم تعرف الدول مثل شعب سامي الاسكندنافي قد ترحب بالحدود ما دامت تضمن الحماية وحقوق الصيد في البحار". كما يلفت الكتاب النظر إلى نوع قد يكون حميداً من الحدود، لا عنف فيه، ويضرب لذلك مثلاً بـ"السور الأخضر العظيم" المقام من الشجر بعرض قارة أفريقيا لمكافحة تمدد التصحر، وها هنا ينقل كراوفورد عن الناشط البيئي الكاميروني تابي جودا قوله "نحن الأفارقة نعيش وسط الكثير من الحدود المصطنعة، المفروضة. وأشعر أن ذلك ليس حال أفريقيا وحدها، لكنني أعتقد أن العالم كله بحاجة إلى إعادة تعريف ما يمكن أن نسميه الحدود. فعلى العالم كله أن يرى نفسه نظاماً بيئياً واحداً". والحق أن العالم كذلك بالفعل. لولا أنه لا يبدو كذلك حين ننظر إليه في الخرائط المبسوطة على طاولات الساسة، أو القادة العسكريين، أو المخططين الاقتصاديين، أو الطامعين في ما تحت الأرض، وما يدب عليها، وما يظللها وصولاً إلى أغوار الكون السحيق. فبيننا وبين النظر إلى العالم بوصفه نظاماً بيئياً واحداً حاجز خفي، ربما يصح أن نسميه حداً من الحدود، كلنا نشعر به إذ ترتطم فيه وجوهنا كلما حاولنا اجتيازه ولو في خيالنا، لكنه الحاجز الحقيقي الذي يعترض طريق الإنسانية إلى مستقبل مشترك للإنسانية كلها.
عبور الحدود
قبل أسابيع قليلة كتبت لي يوبي أستاذة النظرية السياسية في مدرسة لندن للاقتصاد، مقالة قصيرة في صحيفة الـ"غارديان" عن سلحفاة عابرة للحدود، وصفت فيها صفوف الواقفين لختم جوازات السفر على الحدود بين ألبانيا واليونان، بينما على مقربة منهم تعبر سلحفاة الحدود من أحد البلدين إلى الآخر دونما اضطرار إلى إبراز أوراق ثبوتية، أو إحساس بأدنى تغير بين الرايتين المرفوعتين على كلا جانبي السياج. ذلك إذن من جرائر ما فعله المؤسس الأول، الحقيقي، للمجتمع المدني: أصبحت الحيوانات أكثر حرية من البشر في الحركة على وجه الأرض. ومثل ذلك كان قد أشار إليه ببراعة الشاعر السوري محمد الماغوط في فيلم "الحدود" الشهير الذي تنكر فيه دريد لحام في شكل خروف عسى أن يعبر الحدود فاكتشف الحرس أمره، وأنكروا عليه ما لم ينكروه على الخراف. وليست هذه حال البشر مع الحيوانات فقط، فالعقود الأخيرة شهدت ضغطاً من العالم الغربي، حكوماته ومؤسساته الدولية وبنوكه، من أجل تيسير عبور السلع للحدود بأقل قدر ممكن من الرسوم أو الضرائب أو التعرفات، كما شهدت تلك العقود نفسها، محاولات حثيثة من الغرب نفسه من أجل منع عبور البشر للحدود نفسها، حتى بتنا نرى شعوباً كاملة تختار لبلادها رؤساء لا فضل لهم إلا خطاب كراهية وسياسات معتزمة مناهضة للهجرة، أو الإعلان عن بناء سور، لا سياج، لمنع المتسللين من البشر، ومرحباً بالحيوانات.

لكن، مرحباً بالفيروسات أيضاً، فهذه تعرف كيف تنتقل من بلد إلى بلد دونما جوازات سفر. ومرحباً بالإرهاب الذي لم تحصره يوماً حدود. ومرحباً بألعاب الفيديو المحرضة على الانتحار التي تأتي محمولة على الهواء. ومرحباً بالأفكار ضيقة الأفق وبالتعصب وبالكراهية. وبالطبع لا أحد يرحب بشيء من كل ذلك أو يريده، لكنها تعبر قوبلت بترحاب أم برفض، وتستوطن، وتفضح عوار السياج القديم، والأسيجة الحديثة.

عنوان الكتاب:  The Edge of the Plain: How Borders Make and Break Our World

تأليف:  James Crawford

الناشر:  W. W. Norton & Company

المزيد من كتب