Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ماهر والنقراشي والبنا... حين أصبح الرصاص لغة السياسيين

"الإخوان" العامل المشترك بين الاغتيالات الثلاثة بعد أن شكل التنظيم قوة منافسة للدولة في مصر الملكية

في 24 فبراير 1945 اغتيل رئيس الوزراء المصري أحمد ماهر باشا في بهو البرلمان (مواقع التواصل)

منذ بداية القرن الـ20 هزت العالم العربي عمليات اغتيال كثيرة غيرت في مسارات الأحداث والتطورات وبدلت في تاريخ المنطقة. معظم هذه الاغتيالات تمت بالرصاص قبل أن تتحول إلى عمليات تفجير ومعظمها كان نتيجة الصراع السياسي. "اندبندنت عربية" تفتح بعض ملفات هذه الاغتيالات، وفي هذه الحلقة نتناول ثلاثة اغتيالات هزت مصر بين عامي 1945 و1949.

في 24 فبراير (شباط) 1945 اغتيل رئيس الوزراء المصري أحمد ماهر باشا، وفي 29 ديسمبر (كانون الأول) 1948 اغتيل رئيس الوزراء الذي خلفه وهو محمود فهمي النقراشي باشا، وفي 12 فبراير 1949 اغتيل مؤسس ومرشد حركة الإخوان المسلمين حسن البنا.

والعامل المشترك بين هذه الاغتيالات الثلاثة هو وجود "الإخوان المسلمين" الثابت والمؤثر، فقد كانوا المنفذين مرتين وكانوا الضحية مرة. ومنذ ذلك التاريخ لم يخرج "الإخوان" عن هذا التأثير حيث سيكون لهم حضور ودور في اغتيالات أخرى من بينها محاولة اغتيال الرئيس المصري جمال عبدالناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية عام 1954، ثم اغتيال الرئيس الذي خلفه محمد أنور السادات في عام 1981.

كان لعلاقة الحكم في مصر مع "الإخوان" تأثير كبير في تبدل المسارات من التنسيق والاستفادة المتبادلة إلى الصراع المفتوح وتصفية الحسابات، فمنذ أيام الملكية والملك فاروق إلى جمهورية جمال عبدالناصر ثم أنور السادات وحسني مبارك وصولاً إلى الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي، شكل تنظيم "الإخوان" قوة منافسة للدولة العميقة في مصر منذ بداية القرن الماضي، وقد أثبتت التجارب أن هذه الدولة هي الأقوى وأن النظام القائم والمتغير بحسب التطورات هو الأبقى، وأن الجماعة مرت بمراحل قوة وبمراحل ضعف، وهي وإن حاولت أن تفرض نفسها لاعباً قوياً ومؤثراً، فقد عجزت عن أن تسيطر على النظام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الاغتيالات التي طالت ماهر والنقراشي والبنا حصلت بينما كانت مصر تسير نحو بناء الدولة، وقد شهدت تلك المرحلة محطة بارزة ومصيرية تركت تأثيراتها في كل الدول العربية وليس على مصر وحدها، وهي حرب 1948 وقيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين وخسارة الجيوش العربية التي لم تكن بعد قد أكملت بناءها الدول الجديدة التي شاركت في الحرب، وخصوصاً مصر والأردن وسوريا ولبنان. لذلك لن تبقى هذه الدول بمنأى عن الارتدادات التي نتجت عن هذه التطورات.

وفي هذا المجال يأتي اغتيال كل من ماهر باشا والنقراشي والبنا. وإذا كانت علاقة سياسية متينة جمعت بين الأول والثاني في حزب "الوفد" ثم في الخروج منه، وكذا في السلطة، فإن البنا دخل على الخط من خارج سياق السلطة والنظام بعد تأسيسه تنظيم "الإخوان" عام 1928 في الفترة التي شهدت اعتقال ماهر باشا والنقراشي بتهمة القيام بعمليات عسكرية ضد البريطانيين في مصر باعتبار أنهما كانا من ضمن التنظيم السري الذي نشأ بعد ثورة 1919، وكان يتولى هذه العمليات ضد الإنجليز في ظل قيادة الزعيم الوطني سعد زغلول رئيس حزب "الوفد". وعلى الضفة الأخرى كان التنظيم السري الذي نشأ في "الإخوان" هو الذي تولى تنفيذ اغتيال ماهر والنقراشي.

أحمد ماهر باشا

تولى أحمد ماهر باشا رئاسة مجلس الوزراء في مصر لفترتين الأولى من الثامن من أكتوبر (تشرين الأول) 1944 وحتى 15 يناير (كانون الثاني) 1945، والثانية من 15 يناير 1945 وحتى 24  فبراير  1945، وقد عينه الملك فاروق على إثر إقالته مصطفى النحاس باشا.

أثيرت شكوك حول صلة ماهر باشا مع النقراشي بالجماعات التي كانت تقاتل الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1922 بعد مصرع حسن باشا عبدالرازق وإسماعيل زهدي، فتم القبض عليهما لكن لم يثبت الاتهام بحقهما فأطلقا ليعاد اعتقالهما عام 1925 بتهمة الانتماء إلى التنظيم السري المتهم بالوقوف وراء الاغتيالات، وشكل سعد زغلول هيئة للدفاع عنهما كان على رأسها مصطفى النحاس باشا، الذي حصل لهما على البراءة بعد أقل من عام. وبعد عشرة أعوام فرقت السياسة بين النحاس وأحمد ماهر والنقراشي حينما انشق الأخيران عن حزب "الوفد" قبل أن يصبح ماهر رئيساً للوزراء ليواجه مسألة الموقف من المحاور في الحرب العالمية الثانية والمواجهة مع تنظيم "الإخوان" الصاعد.

 

فى 24 فبراير 1945، وبعد أن ألقى ماهر بيان الحكومة حول إعلان الحرب على خصوم الحلفاء في مجلس النواب وأثناء انتقاله إلى مجلس الشيوخ عبر البهو الفرعوني، قام محمود العيسوي بإطلاق الرصاص عليه وقتله وعلل إقدامه على اغتياله بأنه تسبب في إعلان مصر الحرب على ألمانيا واليابان. وعلى إثر مقتل أحمد ماهر تم تأليف وزارة النقراشي من دون أي تغيير باستثناء وجوده على رأسها وتوليه وزارة الداخلية.

بعد الحادثة ألقي القبض على مؤسس "الإخوان" حسن البنا وأحمد السكري وعبدالحكيم عابدين وآخرين من الجماعة بعد الاعتقاد بأن العيسوي عضو فيها، لكن تم الإفراج عنهم بعدها بأيام بسبب اعتراف العيسوي بانتمائه للحزب الوطني، وفي مراحل لاحقة انتشرت كتابات وشهادات من قيادات إخوانية تؤكد علاقة الجماعة بالعيسوي وبأنه كان عضواً في النظام الخاص السري التابع للجماعة، وتم الربط بين الاغتيال والدخول في الحرب وبين إسقاط المرشد حسن البنا في الانتخابات بدائرة الإسماعيلية، حيث كانت ذريعة إعلان الحرب حجة للتخلص من ماهر باشا.


محمود فهمي النقراشي

شارك النقراشي في ثورة 1919 ضد الإنجليز في مصر وحكم عليه بالإعدام واعتقل أكثر من مرة. وتولى رئاسة الوزراء التي تشكلت بعد اغتيال أحمد ماهر في 24 فبراير 1945. وجاءت رئاسته في جو تسوده التظاهرات والاضطرابات التي عمت البلاد التي تصدى لها بعنف شديد، ومنها تظاهرة الطلبة التي خرجت من جامعة فؤاد الأول إلى قصر عابدين، التي سلكت كوبري عباس حيث حاصرتهم الشرطة المصرية ووقع ما عرف بـ"حادثة كوبري عباس".

تولى النقراشي رئاسة الوزارة مرة أخرى في التاسع من ديسمبر 1946، وهذه هي الوزارة التي اتخذت قرار دخول مصر الحرب في فلسطين. واغتيل في 28 ديسمبر 1948 في القاهرة، بعد 20 يوماً على إصداره أمراً عسكرياً بحل جماعة "الإخوان" وفروعها ومصادرة أموالها واعتقال قادتها والزج بهم في السجون، كل هذه الأمور دفعت "الإخوان" إلى أن ينظروا إليه على أنه خانهم وباع البلاد، فقرروا الانتقام منه. لذلك أطلق عليه النار عبدالمجيد أحمد حسن عضو النظام الخاص في الجناح العسكري للجماعة. وكان متخفياً بزي ضابط شرطة وقام بتحية النقراشي حينما هم بركوب المصعد ثم أطلق عليه ثلاث رصاصات في ظهره. وقد اعتقل واعترف بقتله لأنه أصدر قراراً بحل الجماعة.

 

وأصدر حسن البنا عقب هذه الحادثة بياناً استنكر فيه ما جرى وتبرأ من فاعليه وقال إنهم "ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين"، وذلك نتيجة الحملة القاسية التي شنتها السلطة على "الإخوان" في محاولة للإفلات من الملاحقة الأمنية، لكن هذا الإعلان لم يحل دون ذلك. وقد حكم على المتهم الرئيس بالإعدام شنقاً وعلى شركائه بالسجن مدى الحياة. 

 

حسن البنا

هو مؤسس جماعة "الإخوان" عام 1928 والمرشد العام الأول لها ورئيس تحرير أول جريدة أصدرتها الجماعة عام 1933، وصاحب الفكر الرئيس المؤثر في أفرادها من خلال الرسائل التي ألفها، ويعتبرونه مجدد الإسلام ويلقب بين أنصاره بـ"الإمام". وبحسب الباحثين الغربيين فإن البنا هو الذي وضع ركائز وأهداف الإسلام السياسي المعاصر، وأبرز دعاة الوحدة الإسلامية في القرن الـ20.

اعتبر البنا القرآن والسنة هما الدستور الوحيد المقبول، ودعا إلى أسلمة الدولة والاقتصاد والجيش والمجتمع ورفض مفهوم الوطنية الحديث والقومية العربية. وقد جاء هذا التأسيس عقب إلغاء نظام الخلافة العثمانية في تركيا عام 1924، وكان هدفه إعادة الخلافة الإسلامية، بينما كانت مصر لا تزال تحت الاحتلال البريطاني وترسم طريقها نحو الاستقلال في ظل النظام الملكي.

خاض البنا وجماعته على مدى عقدين من الزمان (1928 - 1949) عديداً من المعارك السياسية مع الأحزاب الأخرى الوطنية وبخاصة حزب "الوفد". وقد قاومت الأحزاب المصرية فكر الجماعة وسرعة نموها السياسي والشعبي.

اهتم البنا بقضية فلسطين واعتبرها قضية العالم الإسلامي بأسره، ودعا إلى الثورة والقوة والدم في مواجهة ما سماه التحالف الغربي - الصهيوني ضد الأمة الإسلامية، ودعا إلى رفض قرار تقسيم فلسطين الذي صدر عن الأمم المتحدة.

كانت المنطقة العربية تغلي بالأحداث، وجاءت حرب فلسطين لتزيدها تعقيداً، فالحركة الطلابية تصدرها "الإخوان" الذين ضغطوا من أجل الانخراط في المواجهة في فلسطين بقوات متطوعة وليس عن طريق الجيوش النظامية التي اعتبرت الجماعة أنها تأتمر بأوامر القصر الملكي الذي كان خاضعاً للسلطة البريطانية. وقد أرسلت الجماعة متطوعين للقتال وقامت باستعراضات في الشارع كمزايدة على الحكم، وفي هذا الجو كان قرار النقراشي باشا بحلها ومصادرة ممتلكاتها واعتقال رجالها وزجهم في السجون باستثناء البنا، الذي صادرت الحكومة سيارته واعتقلت سائقه وسحبت سلاحه المرخص، وقبضت على شقيقيه اللذين كانا يرافقانه في تحركاته، وقد طلب إعادة سلاحه إليه، والسماح له بأن يكون لديه حارس مسلح يدفع هو راتبه، لكن لم يستجب لطلباته ووضع تحت المراقبة اللصيقة.

في 12 فبراير 1949 دعي البنا إلى اجتماع مع الحكومة في مبنى جمعية الشبان المسلمين، وقد قبل حضور اللقاء بعد محاولات عديدة من سكرتير الجمعية محمد الليثي لإقناعه بجدوى هذا الاجتماع، فطلب البنا من صهره عبدالكريم منصور مرافقته.

 

كان الاجتماع الذي استمر ثلاث ساعات بهدف التفاوض على تسوية أوضاع الجماعة لكنه لم يأت بنتيجة، فنزل البنا وصهره في الساعة الثامنة من الجمعية بعد أن أوقف السكرتير سيارة أجرة لنقلهما، وعندما ركبا فيها إذا بمسلحين يطلقان النار على البنا.

وقد رن الهاتف داخل الجمعية فعاد رئيسها ليجيب وسمع إطلاق الرصاص فخرج ليرى البنا وقد أصيب بطلقات تحت إبطه وهو يعدو خلف السيارة التي ركبها القاتل، وأخذ رقمها وهو "9979" وقد عرف في ما بعد أنها السيارة الرسمية لمدير عام المباحث الجنائية بوزارة الداخلية محمود عبدالمجيد، كما ظهر في التحقيقات.

عندما قامت الثورة في 23 يوليو (تموز) 1952 أخذت حكومة الثورة على عاتقها محاكمة المتورطين في اغتيال حسن البنا نظراً إلى التقارب الذي كان موجوداً بين قادتها وقادة "الإخوان" في البداية، وقدم القتلة للعدالة وصدرت أحكام ضدهم لكنها لم تطل أصحاب قرار الاغتيال، حيث أعادت سلطات الثورة التحقيق في ملابسات الحادثة في الأيام الأولى على وقوعها، وقبض على المتهمين باغتياله وقدموا أمام محكمة جنايات القاهرة وصدرت ضدهم أحكام بالسجن في أغسطس 1954، وجاء في حيثيات الحكم "أن قرار الاغتيال اتخذته الحكومة السعدية بهدف الانتقام، ولم يثبت تواطؤ القصر في ذلك"، لكن القاضي أشار إلى أن العملية تمت بمباركة البلاط الملكي. وقد أفرج عن القتلة في مدد متفرقة لأسباب صحية ولم يقض أي منهم مدة الحكم بالسجن كاملة.

لكن تلك العملية لم تكن خاتمة الصراع بين "الإخوان" والسلطة، وتلك المرحلة لم تكن تهتز فيها مصر وحدها فقد كانت سوريا على موعد مع بداية مرحلة من الانقلابات، ولم يكن لبنان بعيداً أيضاً. فبعد خمسة أشهر على اغتيال البنا يتم إعدام رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي في لبنان أنطون سعادة، ولم يكن قد مضى إلا أربعة أشهر على أول انقلاب عسكري في سوريا بقيادة حسني الزعيم، الذي لجأ سعادة إليه بعد ثورة فاشلة وعده فيها بالمساعدة، ولكنه قبض عليه وسلمه إلى السلطات اللبنانية التي كانت تواجه أول محاولة انقلابية بعد ستة أعوام فقط على نيل الاستقلال.

المزيد من تحقيقات ومطولات