Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أندريه ميكيل المستشرق الفرنسي المتعدد المعارف

 وضع كتباً موسوعية عن الحضارة العربية وأعاد ترجمة "ألف ليلة وليلة" مع جمال الدين بن شيخ

المستشرق الفرنسي أندريه ميكيل (معهد العالم العربي)

ينحدرالمستشرق الفرنسي أندريه ميكيل الذي رحل قبل أيام، لأبوين مدرسين من البرجوازية الصغيرة، ولعائلة تنتمي إلى إقليم أوكسيتاني في الجنوب الفرنسي. درس في مونبيلييه، وقاده اهتمامه باللغات القديمة إلى العربية منذ خمسينيات القرن العشرين، فكان لقاؤه الفعلي مع الثقافة العربية في دمشق حيث حصل على منحة المعهد الفرنسي للدراسات العربية فيها، وتخصص باللغة العربية في أكاديمياتها بين العامين 1953 و1954، حيث ستظل نصوصه تحمل الروح الشامية شعراً ونثراً.

حصل أندريه ميكيل على دكتوراه الدولة في الآداب عام 1967 عن أطروحته في الجغرافية البشرية عند العرب، وكان مدخله إليها ترجمته لمؤلف شمس الدين المقدسي "أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم"، وقد شغل بين الأعوام 1984 إلى 1987 منصب المدير العام للمكتبة الوطنية بباريس، وهو المنصب ذاته الذي شغله أنطوان غالان في القرن الثامن عشر، الذي نقل "ألف ليلة وليلة" إلى الفرنسية، ليأتي ميكيل بعد قرنين من الزمان فيعيد إحياء الليالي بمراجعاته النقدية الخاصة. لا بد من الإشارة إلى أن ميكيل انتخب أستاذاً في كوليج دو فرنس وصار مديراً عاماً لهذا المعهد النخبوي من عام 1991 إلى 1997.

سنوات السجن في القاهرة

 

عنون أندريه ميكيل سيرته الذاتية "شرق حياتي" في إشارة واضحة إلى الشرق الذي شكل تلك الحياة، وقد ابتدأت من إشارة إليه من قبل المستعرب الشهير ريجيس بلاشير بترجمة "كليلة ودمنة"، وقد فعل. ولعل أكثر أعماله السردية غير التخييلية وجدانية كتابه "وجبة المساء/ يوميات دبلوماسي فرنسي في سجن مصري" الذي ترجمته رشا صالح، وصدر عن المجلس القومي للترجمة في القاهرة عام 2015. يروي ميكيل الذي يشكل أحد الأقطاب الكبار في حركة الاستعراب أحداث احتجازه في السجون المصرية على يد مباحث أمن الدولة لمئة وخمسة وثلاثين يوماً بين خريف 1961 وربيع 1962. لقد وضعوه في الزنزانة ذاتها مع محكومين بالإعدام، ومع آخرين متهمين بجرائم السرقة والنهب، ومع مخربين، أما هو فكان متهماً بالتجسس ضد مصر مع مجموعة من الدبلوماسيين الفرنسيين، الذين على رغم تمتعهم بالحصانة، سجنوا ونكل بهم. حدث ذلك حين عين ملحقاً ثقافياً فرنسياً في الجمهورية العربية المتحدة، إذ قضت اتفاقية زيورخ التي وقعت في عام 1958 باستئناف العلاقات الدبلوماسية بين مصر وفرنسا بعد العدوان الثلاثي على مصر. كتب العمل على شكل يوميات تبدأ بوصوله القاهرة التي استعار لوصفها عبارة هنري الرابع عن باريس "ليست مدينة وإنما مدائن"، لينقلنا بعد سلسلة من الرحلات التعريفية الأخاذة التي تحدث عنها بشغف إلى نقطة انعطاف بقوله "أغلق باب الزنزانة عليَّ، وفي ركن كان هناك غطاء ووعاء صغير من المطاط للاستخدام المألوف، أخيراً وجدت نفسي وحيداً".

 

يتحدث عن أنه كان يسمع صوت زوجته تدافع عنه وهم يضعون الأصفاد في يديه "لم يفعل زوجي شيئاً سيئاً... إن الأمر يتعلق بأوراق تنتمي إلى موظفين سابقين وهم أناس مسالمون على أي حال! يسألونها: كيف عرفت؟ تجيب: لا يتولى منصب الملحقين الثقافيين الفرنسيين إلا أناس شرفاء". يتحدث ميكيل بعدها عن معاناة يومية في التحقيقات، وعن أوقات إذلال عصيبة ومخيفة أعتقد أننا جميعاً يجب أن نشعر تجاهها بالأسف والعار، إذ تضاف هذه القطعة المؤلمة إلى أدب السجون العربية، لكنها هذه المرة مكتوبة بقلم أجنبي محب للثقافة العربية، وقد بقي صاحبها محباً لها على رغم كل ما حدث. تشير المترجمة في مقدمتها إلى أن ميكيل حتى في أصعب لحظاته أثناء التحقيق معه من قبل المصريين لم يتنازل عن عدله، ولم يبخس الإنسان الشرقي مودته وتعاطفه وروحه النبيلة، كما لم يتخل عن عمليته التي تظهر في الحجاج مع الذين يحاكمونه، وتقول إن تلك العملية "تلخص روح الحوار بين الشرق والغرب".

روح الأكاديميا والاستشراق الجديد

أسهم أندريه ميكيل في ثورة الطلاب 1968 في فرنسا حين كان أستاذاً في المعهد التطبيقي للدراسات العليا في باريس، إذ كانت تعقد لقاءات ثقافية بين الطلبة والأساتذة الكبار لرسم مستقبل الجامعة الفرنسية وتطوير مفهومها وأدواتها، وفي ذلك الوقت بدأ يكتب موسوعته الشهيرة "جغرافية دار الإسلام البشرية حتى منتصف القرن الحادي عشر" التي جعلها في أربعة أجزاء، وعمل عليها بين 1967 و1988، وظهر فيها ممثلاً للمدرسة الفرنسية الجديدة في الاستشراق، والتي يفضل باحثوها تسميتهم بالمستعربين بدلاً من المستشرقين، مبتعدين عن الاستشراق التقليدي المرتبط بالحركة الاستعمارية، والمؤسس على فكرة عبء الرجل الأبيض الجوهرية، التي أنتجت الصورة النمطية السلبية عن الشرق المعربد والمستهتر، وقد ظهرت هذه المدرسة قبل ظهور المدرسة الأميركية التي تنطلق من الرد على المركزيات. يرى ميكيل أن التخلص من أدران المدرسة القديمة ليس سهلاً إذ يرث المستشرقون تقاليدها، غير واعين في كثير من الأحيان، كأنما يدخل التنميط في جيناتهم الثقافية، ويكون التحرر منها في غاية الصعوبة. ويرى بأنه يجب أن يعامل الشرق بوصفه نسقاً ثقافياً اجتماعياً قائماً بذاته، من غير تطبيق قواعد الغرب عليه لغة، أو اجتماعاً، ومن غير إسقاط أية تصورات أو معايير، ذلك أن فكرة الثقافة غير معيارية ألبتة، ولا تفاضلية.

مختبر جديد لليالي العربية

 

كتب أندريه ميكيل قصائده باللغة العربية ثم ترجمها إلى الفرنسية، وقد ضمها كتابه "أشعار متجاوبة"، كما كتب أعمالاً روائية وقصصية أشهرها "الابن الراحل قبل أوانه"، وذلك بعد تجربته في فقد ولده في ريعان الصبا. يشير الشاعر كاظم جهاد في كتابه "أندريه ميكيل" الذي نشر بالتعاون بين جائزة الملك فيصل ومعهد العالم العربي في باريس عام 2020 ضمن مشروع "مئة كتاب وكتاب"، إلى أن أهم أعمال ميكيل الإبداعية المتأثرة بالثقافة العربية هي "وجبة المساء" و"ليلى يا عقلي" الذي يستند إلى حكايات المجنون قيس بن الملوح، وسيرة روائية بعنوان "أسامة: أمير سوري في مواجهة الصليبيين" نتجت عن ترجمته كتاب "الاعتبار" لأسامة بن منقذ.

لعل أشهر ما عرف عن ميكيل بالنسبة إلى دارسي الأدب العربي هو ترجمته الكاملة لـ"ألف ليلة وليلة" وذلك حين عمل في السوربون الجديدة مع زميله الأكاديمي والكاتب الجزائري جمال الدين بن شيخ، وقد أنتج في هذا الإطار نشاطاً واسعاً مع الطلبة في تحليل الحكايات وإحيائها وفق المناهج الحديثة في السرديات الثقافية، واهتم بجانب مفهومي يتعلق بالغريب والعجيب والفانتازي، وربطه بالسياقات الاجتماعية الواقعية، فالمفاهيم المشار إليها هي مكونات ذرائعية لقول ما لا يمكن قوله باللغة السردية الصفرية. ويشير كاظم جهاد إلى أن ما يميز ميكيل عن بقية المستعربين باستثناء جاك بيرك طبعاً هو الحرص على الجمع بين دقة البحث العلمي وجماليات الكتابة.

 

استطاع أندريه ميكيل البحث والكتابة في الأدب العربي الكلاسيكي بأدوات لغوية وبلاغية قوية، وبمعرفة عميقة بالسياقات الثقافية، وباعتبار شديد للنزاهة البحثية، وقد ركز على الظواهر الثقافية الأدبية لتكون عنواناً للحقبة التاريخية، وليس على تقسيم العصور السياسية كما يفعل الدارسون عادة، كما اهتم بظاهرة التأثر والتأثير بين النصوص المنتخبة (Canon) التي نشأت في شبه الجزيرة العربية، والنصوص المهجنة ثقافياً التي نشأت في الحواضر الكوزموبوليتانية مثل بغداد، فدرس بناءً على ذلك شعر المتعة عند المحدثين من الشعراء مثل أبي نواس وبشار بن برد، والشعر التقليدي عند أبي تمام والبحتري والمتنبي، ففتحت له أبواب المقارنات فكتب كتابين يعدان نقطتي علام في رؤية المستعربين للأدب العربي، وهما "الأدب العربي" و"الإسلام وحضارته"، ومع ذلك لم يقص من دراساته الاهتمام بالأدب المعاصر، وهو مثله مثل جاك بيرك ومكسيم رودنسو يرون في الإسلام نسقاً ثقافياً قابلاً للحياة، ويمكنهم تحليله بموضوعية أدت بهم إلى الإعجاب منحين عن أفق رؤيتهم الأفكار المسبقة، ولم يضرهم في هذه العلاقة أحداث العنف والتطرف التي نمت في أزقة المدن الفرنسية وعشوائياتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اهتم ميكيل أيضاً بحركة تأليف الموسوعات، وبالسير الشعبية، وبمدونات الرحلات التي أنتجها العصر الذي سمي سياسياً بعصر الانحطاط، وقد رفض، سيراً على خطاه، دارسون كثر هذه التسمية، مفضلين عليها عنوان عصر الدول المتتابعة، إذ عدوا هذه المرحلة مرحلة تدوين وحفظ لنتاجات المراحل السابقة، خشية اندثار الملفات الثقافية للهوية العربية الإسلامية مع هجوم المغول على الدولة الإسلامية، وقد سمى ميكيل مخرجات هذه المرحلة بـ"أدب الذكرى" كما يشير كاظم جهاد.

لعل هذا العصر هو الذي أنتج فعلياً حكايات "ألف ليلة وليلة" بشكلها النهائي، والتي اكتملت في خواتيمه، بحيث تحيل حكاياتها على حركة الشارع العربي اليومية بمتنه وهامشه، ممثلة بجغرافيات أيقونية مثل بغداد والبصرة والقاهرة وحلب، بوصف هذه الحكايات غطاء جمالياً يخفي تحته نقداً أنثروبولوجياً ثقافياً للسلطة السياسية في المجتمع العربي، وإن حكاياته ليست حكايات لقيطة أو مغتصبة من ثقافات أخرى كما يحلو لبعض النقاد أن يشيروا إليها، بل هي مولودة في مجتمع عربي متعدد، ومحملة بروح عربية حية وناقدة، تعكس ديناميكية هذا المجتمع وأنساقه المسيطرة والمغيبة والمهمشة، وتحمل معتقداته ومعارفه، وهي موقعة بتوقيعه وموسومة بهويته.

 استطاع أندريه ميكيل أن يصوغ علاقة شهرزاد وشهريار في قصة مبتكرة بعنوان "قصة صباح الليلة الأولى بعد الألف"، يقدم فيها حواراً ودياً بين الشخصيتين ليصارحنا بالحقيقة بدلاً من المجاز الحكائي، الذي استغرقته القصة الإطارية لحكايات ألف ليلة وليلة بأسئلتها التي قد تكون راودتنا جميعاً، ومنها سؤال حول عدم اعتراف شهرزاد بوقوعها في حب شهريار أو العكس. تفشي قصة ميكيل السر، فشهرزاد التي تمسكت بحكاياتها ردت على الملك حين سألها عن المتعة الجسدية قائلة: إن متعة العقل أقوى وأكثر دواماً، وإن الحب الحقيقي هو حب العقل للعقل، وإنه لو حدث فوقع في شهوة جسدها فحسب لقتلها بعد الليلة الأولى، لكن الجانب المعرفي الذي تحمله الحكاية هو الذي جعله يتعلق بها، نعم لقد تعلق بها منذ القرن الثاني عشر الميلادي إلى اليوم.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة