Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نخل وأمن ورطب

"في تراثنا ولغتنا وبيئتنا رمزية تتميز بها هذه الشجرة الجميلة الكريمة"

أشجار النخيل الخضراء في واحة الأحساء في السعودية (موقع روح السعودية)

دار جدل بين مواطني العالم الافتراضي حول النخل والرطب التي وردت في سورة مريم بالقرآن الكريم بالآية (25)، "وهُزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رُطباً جنياً".
وكان محور الجدل حول توقيت طلع النخل وثماره وأنه لا يعقل أن يثمر النخل في ديسمبر (كانون الأول) الذي يعتقد المسيحيون بأن السيد المسيح بن مريم ولد بنهايته، وحسم النقاش أحد الأذكياء بضرورة تصديق المؤمن بتلك المعجزة لأن حمل السيدة العذراء مريم بنت عمران وولادة عيسى المسيح وتكلمه وهو بالمهد كلها معجزات ربانية يؤمن بها المسلمون والمسيحيون معاً، فلم لا نصدق أن نخلة أثمرت في غير موسمها؟ والحق بأن الجدل حول النخلة وجذعها وهزها وتساقط الرطب منها هو جدل قديم موجود في كتب التراث والتفسير حول الجذع وهل كان يابساً لكن إرادة الله أرادت له أن يكون مثمراً يانعاً يتساقط منه الرطب، أو أن الجذع هنا تدل على أسفل النخلة فحسب، بمعنى أن العالم الافتراضي لم يختلق هذا الجدل في العصر الحديث فهو موجود في كتب التراث والتفسير الإسلامية بل حتى المسيحية.
للنخلة في تراثنا ولغتنا وبيئتنا رمزية تتميز بها هذه الشجرة الجميلة الكريمة، فهي تمثل الارتباط الجيني بالأرض العربية، وهي الصلبة الصعبة التي تتحدى قسوة المناخ الحار والجفاف واليباس وشح الماء في الجزيرة، لكنها على رغم قدرتها على التحمل، إلا أنها حساسة تستدعي الاهتمام والرعاية والحنان.
حدثني السيد يوسف النصف الذي يعد من خبراء النخل في الكويت والجزيرة العربية أن النخلة التي يتردد عليها المزارع ويهتم بها تعطي أفضل التمر والرطب، وتلك التي لا يزورها مزارعوها تكون أقل عطاء وجودة، وكأنما النخلة تستعطف حب المزارع مقابل العطاء والجودة.
يعج تراثنا الشعري والغنائي بوصف وتوصيف النخلة، أستذكر قصيدة للشاعر الصديق سليمان الفليّح، رحمه الله، في الإشادة بصلابة النخلة في وجه قسوة الريح الصرصر، بقصيدة رمزية يشبه بها أهل الصمود والتمسك بالقيم والمبادئ النبيلة كالنخلة التي لا تنحني أمام الرياح العاتية

تفيء إليها القوافل من وطأة الشمس ثم تَقيل

لا تُشدُّ الرحال إليها ولكن يُشدُّ إليها الرحيل

لقد هادنت كل أشجارنا الريح... مالت بها واستمالت ولكنها لا تميل

مبدأٌ ليس في الجديد:

تُميت الفصول جميع النباتات... ويبقى إزاء الفصول النخيل

 ويستخدم تشبيه الطول الفارع بالنخلة، ولا أعرف لماذا يرتبط الطول بالبلادة والهبل، فيقال في مصر، طويل وهبيل، وفي الجزيرة العربية، الطول طول نخله، والعقل عقل صْخَله! فهل يعني هذا أنه لا يوجد بين قصار القامة بليد أهبل؟
اشتهرت في العراق أغنية "فوق إِلنه خل فوق"، وهي تُغنّى خطأ "بفوق النخل فوق"، وللأغنية قصة رومانسية لشاب بغدادي يسكن غرفة بوسط بيوت العائلات ببغداد بعدما تأكدوا من حسن أخلاقه لأنهم ما كانوا يسمحون للأعزب بالسكن وسط بيوت العائلات، لكنه رأى وجه فتاة جميلة مرة يضيء كالقمر من فوق السطح وهو عائد ليلاً، ولم يستطع أن يكلمها لأن العادات والتقاليد تمنعان ذلك، فقام ينشد من غرفته، "فوق إِلنه خل فوق، مدري لمع خدّه، مدري القمر فوق". وقد غناها مطربون عدة، لكن أشهرهم كان ناظم الغزالي وصباح فخري.
ومن تحريف هذه الأغنية، اشتهر القول "فوق النخل" لوصف الحال التي عليها من يسأل عن حاله، كناية عن أنه بأحسن الأحوال فهو "فوق النخل"، وعن مدى رفعته وعلو حاله التي تجاوزت النخل علوّاً.
ومن أغاني أهل مصر الشهيرة التي غنتها وردة الجزائرية من ألحان بليغ حمدي وكلمات صالح جودت أيضاً

"يا نخلتين في العلالي يا بلحهم دوا، يا نخلتين على نخلتين طابوا ليالي الهوا".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


ولا أدري لماذا نخلتين تحديداً في هذه الأغنية؟ يُذكر أن شعار المملكة العربية السعودية يتزين بنخلة أيضاً في رمزية لأهمية النخل وعمق جذورها في الجزيرة العربية، بل في المنطقة العربية عموماً باستثناء بلاد الشام ومناطق جنوب السودان.
يُحكى أن "حكيم العرب" الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، غضب أشد الغضب من مقاول أزال نخلة كان ينظر إليها الشيخ زايد بتقدير ومحبة كلما مر عليها بطريقه إلى مكتبه. القصة تتردد على ألسنة من عرفوا الشيخ عن قرب كدلالة من دلالات عدة على اهتمامه بالنخلة والشجرة عموماً.
يقول خبراء التغذية الاستراتيجيون إن النخلة تعتبر مصدراً للأمن الغذائي في منطقتنا لما في ثمرها من فوائد غذائية جمة، بحيث كان عرب الجزيرة قبل النفط يعيشون بالدرجة الأولى على التمر وحليب الإبل، فمن النخل ينتج العلف والليف والدواء والظل وتخفيف الحرارة والتمر بأنواعه الكثيرة التي بدورها تنتج أشكالاً لا تعد من الحلوى والغذاء الصحي والمفيد. في طفولتنا كان التمر هو الحلوى شبه الوحيدة التي نعرفها، فلا "تشوكليت" ولا سكريات مصنعة وحلوى ملونة تسبب مرض السكري الشائع بين الأطفال هذه الأيام.
مع تزايد أخطار الحرب المشتعلة بين روسيا وأوكرانيا، وحروب أخرى مرشحة للاشتعال في كوسوفو وبين الكوريتين وبين الصين وتايلاند، وخطر الأوبئة والمجاعات، يتهادى نخيل الأرض العربية، يسابقه حفيف السعف بأهزوجة ضاربة جذورها في الأرض، ليذكرنا النخل بأنه حين يحل خريف الفاقة والعوز فهذه الأرض مليئة بالخيرات التي نهملها ولا نلقي لها بالاً...
ليت الاهتمام بالنخل ومنتجاته يكون منهجاً استراتيجياً لبلداننا لغذاء هذه المنطقة التي يتضور ملايين من أهلها جوعاً ومسغبة، لا أن تكون بلداننا

"كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ... والماء فوق ظهورها محمول"

اقرأ المزيد

المزيد من آراء