"نحن نحب الحياة"، شعار لطالما تغنى به المواطن اللبناني، لكن ثقافة الحياة هذه تتراجع أمام مسلسل الموت بسبب السلاح المتفلت الذي يتنقل عشوائياً بين المناطق من دون رادع من قانون أو أمن.
انتقل استعمال هذا السلاح إلى مرحلة جديدة، فبعد أن كانت الرصاصات العشوائية تطلق في الهواء ابتهاجاً أو حزناً أو بسبب إطلالة زعيم على شاشات التلفزة، أصبح أصحاب هذا السلاح يستعملونه للمطالبة بحقوق يعتبرونها شرعية لهم من دون الاحتكام إلى الدولة والقانون، وأصبح القتل أمراً عادياً ولأتفه الأسباب، قد يكون للأفضلية على حق المرور أو موقف سيارة.
الشواهد كثيرة، لكن ما حصل في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت، وهي منطقة ذات طابع أمني خاص، كما أنه من المعروف أن منطقة الضاحية تعد معقلاً أساسياً لـ"حزب الله"، كان سافراً لدرجة أن شاباً وهو من آل زعيتر خرج مدججاً بالسلاح على دراجته النارية وفي وضح النهار وأطلق النار على واجهات مطعم معروف في المحلة، وبحسب ما أعلن هذا الشاب ويدعى حسين زعيتر، عبر صفحته على "فيسبوك" أن صاحب "مطعم الآغا"، كان قد ادعى على شقيقه علي، متهماً إياه بابتزازه عبر طلب مبالغ مالية منه، لافتاً إلى أن إطلاق النار جاء رداً على توقيف مخابرات الجيش لشقيقه.
وكان قد صدر عن قيادة الجيش مديرية التوجيه بتاريخ 17 يونيو (حزيران) 2019 بيان جاء فيه أنه "بعد عملية رصد وتعقب، أوقفت مديرية المخابرات المدعو حسين عباس زعيتر لإطلاقه النار على أحد المطاعم في الضاحية الجنوبية، برفقته شقيقه مهدي الذي كان يقود الدراجة النارية أثناء إطلاق النار، وبوشر التحقيق معهما بإشراف القضاء المختص".
ومن ثم بعد أيام قليلة من هذه الحادثة نشرت صفحة تدعى "وينية الدولة" "أين هي الدولة" وهي صفحة موثوقة، على "فيسبوك" مقطع فيديو قالت إنه يتعلق بشخصين "من آل المقداد وآل شمص توجّها إلى حي من أحياء الضاحية الجنوبية أيضاً، وأقدما على افتعال مشاكل والتهديد بمسدسات حربية ومتوعدين كل من تسول له نفسه الخروج عن طاعتهما في المنطقة المذكورة".
ماذا يقول قانون العقوبات اللبناني بخصوص السلاح؟
وفق المادة 75 من المرسوم الاشتراعي الرقم 137 الصادر عام 1959 والمعدّل في 1966 "أنّ كل من يُقدم على إطلاق النار في الأماكن الآهلة أو في حشد من الناس، من سلاح مرخص أو غير مرخص به، يعاقب بالحبس من ستة أشهر إلى ثلاث سنوات وبالغرامة من 500 ليرة إلى ألف ليرة (2.6 دولار) أو بإحدى هاتين العقوبتين".
وماذا لو تحوّل إطلاق النار إلى جريمة وحالة قتل؟، هنا يعاقب الشخص ضمن سياق القتل غير المتعمد.
كما تنص المادة 573 من قانون العقوبات اللبناني على "من هدّد آخر بالسلاح عوقب بالحبس مدة لا تتجاوز ستة أشهر، وتتراوح العقوبة بين شهرين وسنة إذا كان السلاح نارياً واستعمله الفاعل".
المادة 642 معدلة وفقاً للقانون 513 تاريخ 6/6/1996
يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة إذا جرى ارتكاب أي من الجرائم المنصوص عليها في المادة 641 المعدلة من قانون العقوبات، بفعل شخصين مسلحين أو أكثر استعملوا السلاح أو هددوا باستعماله أو إذا رافق ارتكاب الجريمة عنف على أحد.
السبب التربوي
يشرح المحامي والبروفسور بول مرقص عن ارتفاع ظاهرة السلاح المتفلت "أن هذه الظاهرة لم تغب مع انتهاء الحرب اللبنانية، وكانت موجودة دائماً، لكن الإعلام يسلط الضوء على أحداث متزامنة، أما عن أسباب انتشار السلاح المتفلت فهناك العديد منها والأهم هو السبب التربوي".
يتابع مرقص "الثقافة التربوية عند العرب بشكل عام واللبنانيين بشكل خاص تشجع على حمل السلاح حيث يقال "السلاح زينة الرجال"، ويسلّم اللبناني ومنذ الصغر بندقية صيد، وأول ما يفعله هو أن يصوب نحو مصباح البلدية، وبذلك تنشأ لديه ثقافة العداء للمصلحة العامة، كما أن اللباس الرائج بين الشباب هو اللباس العسكري، كلها مظاهر سلبية ينشأ الصبي ويتربى عليها من قبل الأهل وتجعل منه مشروع "أزعر" (أي سيّء الخلق).
أضاف مرقص "أما السبب الثاني فهو عدم وجود سياسة ردعية وقمعية لدى السلطات اللبنانية، ما يجعل من حمل السلاح أمراً متسامحاً به إلى حدود كبيرة، خصوصاً في القرى اللبنانية". وتابع "لكن كي نكون منصفين، في حال وصول إخبار إلى النيابة العامة لا تتأخر بالإجمال عن الادعاء، ولدينا نحن المحامين أمثلة كثيرة عن محاضر ملاحقات، مع أنها ليست بالفاعلية المطلوبة، ولكن يجب الإشارة إلى النقاط المضيئة في هذا الملف، بما معناه أن الأمور ليست متفلتة إلى اللاحدود".
السلاح ابان الوجود السوري
لكن بسؤاله عن الأمن الذي كان ممسوكاً إلى حد كبير إبان وجود النظام السوري، يوضح الدكتور مرقص في هذا الخصوص "كان هناك خوف أكثر من حمل السلاح إبان الوجود السوري، وهذا ما تفتقده السلطات اللبنانية الحالية، إذ إنها لا تترك الأثر النفسي الردعي القمعي لدى المواطن، ليس المطلوب بثّ الرعب في النفوس ولكن على الأقل إعادة هيبة السلطات لدى المواطن اللبناني واحترامها"، "وذلك عبر نشر الأحكام الصادرة بحق المخالفين كي يرتدع من تخوله نفسه القيام بأعمال مماثلة، وعلى الإعلام مسؤولية الإضاءة على الحسنات في هذا الملف وليس فقط المخالفات".
أما من أين يحصل المواطن العادي على هكذا أسلحة تصنف بالخفيفة إلى متوسطة يقول مرقص "إن هناك سوقاً سوداء توفر السلاح كما في مجمل بلدان العالم". ويختم مرقص عن الرابط بين سلاح حزب الله والسلاح المتفلت "أن السبب الرئيس للسلاح المتفلت غياب سلطة الدولة وهيبتها وعدم وجود سياسات قمعية وردعية، إضافة إلى التربية والتنشئة المدنية".
السلاح... سببه إسرائيل
هذا في القانون أما في السياسة، يقول الحاج هاني قبيسي وهو نائب منتخب عن المقعد الشيعي في مدينة بيروت ويمثل حركة أمل في مجلس النواب اللبناني، وعضو في لجنة الإدارة والعدل النيابية، "أن سبب وجود السلاح أولاً وجود إسرائيل على الحدود الجنوبية للبنان وهو ما يمثل تهديداً دائماً، أما السلاح المتفلت في الداخل، فكل من يحمل سلاحاً يعتبر خارجاً عن القانون وعلى الدولة أن تضبط وجود هكذا سلاح، لكن ظروف الحرب مع إسرائيل والحرب التي مر بها لبنان فرضت وجود سلاح في كل بيت".
لكن الحرب الأهلية اللبنانية انتهت منذ 30 سنة تقريباً، فلماذا بقاء السلاح؟
يقول النائب قبيسي "إنه لا يبرر وجود السلاح لكن ظروف لبنان المعقدة أدت إلى هذه التركيبة، كما أن لبنان مر بحربٍ مع إسرائيل في يوليو (تموز) عام 2006، لكن السلاح المتفلت والرصاص الطائش الذي يطلق ابتهاجاً أو حزناً ويودي بأرواح على الدولة ضبطه، والقوانين الرادعة موجودة وهي شاملة ووافية".
لم لا تطبق هذه القوانين إذاً؟!
في هذا الشأن يشير النائب قبيسي إلى "أنه من يجب أن يسأل هي الحكومة اللبنانية، لم لا تطبق هي القوانين وتلاحق المخالفين؟!". ويتابع "لا أعلم من أين يحصل هؤلاء الناس على السلاح". قد يربط المواطن المخالف في ذهنه بين سلاح يملكه حزب مسلح وبين سلاح يملكه هو في خزانته، هنا يشرح النائب قبيسي "أن هذا مختلف جداً، فسلاح المقاومة مقدس ونحن ندعو إلى تعزيز وضعه، أما السلاح المتفلت في الداخل فلا قيمة له، وعلى حامله أن يعاقب ويوضع في السجن".
عموماً، إن ازدياد ظاهرة الموت العلني بسبب السلاح المتفلت والرصاص الطائش وحوادث الشغب، يستدعي تحركاً من قبل دولة تُتهم أن أمنها بالتراضي، ويوم أعلنت الحكومة اللبنانية عن نيتها جعل بيروت مدينة منزوعة السلاح، سارعت جهات حزبية إلى وأد هذا الاقتراح مبررةً ذلك بوجود مراكز أمنية لها في عدد من أحياء العاصمة.