Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المونديال في وداع درامي تلتقي فيه الأحلام والجماهير

الملعب مسرح مفتوح واللاعبون ممثلون يتسابقون وراء كرة القدم

درامية لعبة كرة القدم في لوحة للروسي فلاديمير كيريلنيكو (صفحة الرسام - فيسبوك)

لا يمكن القول إن هذا الاستعراض العالي للطاقة البشرية في لعبة كرة القدم مجرد نوع من الرياضة البدنية وحسب، بل يمكننا قراءة هذه اللعبة الأكثر شعبية في العالم عبر مستويات متعددة. وكي لا نغالي في خضم هذه المقاربة بين كرة القدم والعرض المسرحي، نجد أن هناك أكثر من مسرب من مسارب المقارنة. فلا غرابة أن ينجح البريطانيون في "مأسسة" هذه "المسرحية" وتحديد قواعدها وإبرامها كامتداد لنصوص شكسبير وصراعات شخصياته الخالدة، بل كأبرز مظهر من مظاهر الروح الجماعية في بلادهم. فالتراجيديا التي تنبأت بموت "أخيل" من كعبيه عادت لتظهر احتفاء خاصاً بقدميه عبر رهافة خاصة هيمنت فيها الأقدام على مصائر لا تنتهي، لنكون أمام نوع آخر من كتابة درامية أزاحت ما يعرف بـ"الخطأ التراجيدي" في المسرح لتحيله إلى نوع فني عال من الدراما قوامه البانتومايم في أعلى تجلياته الحركية.


تقوم "مسرحية" كرة القدم هذه على فضاءات متنوعة أهمها الفضاء اللعبي- المسرحي الذي يجعل من تناقل الكرة بالأقدام شرطاً من شروط اللعب. وهنا يبرز أيضاً مفهوم مايرخولد عن المسرح، "البيوميكانيكا" التي تنوط كل أفعال الممثلين- اللاعبين. فبوصف "البيوميكانيكا" علماً من العلوم التي تدرس الخاصية الميكانيكية للأنسجة الحية للأعضاء، يصير من المشروع أن نرى تلك العلاقة بين كرة القدم كلعبة بدنية لها قواعدها وقوانينها الصارمة، والمسرح وفق مايرخولد الذي يعلي من شأن الإعداد الفيزيقي للممثل المسرحي، بل ويعتبره آلة حية من آلات ضبط الزمن والإيقاع.

هكذا نرى تمازجاً تاماً بين اللاعب الذي يشكل أحد أهم تجليات الآلة الجسدية، والحلم الجسدي الذي يشكله هذا الممثل- اللاعب، عندما يتوق من خلال الحركة لإحراز أعلى درجة من جسديته المنوطة والمضبوطة، الآخذة من الكرة المقادة بالأرجل- وبالأرجل فقط- داخل خطوط التماس مأثرة حركية لا يمكن إنكارها عند لاعب الكرة.


الارتجال والخروج عن النص

يعتبر الفضاء الأهم أيضاً في هذه "المسرحية- المباراة" هو الجمهور باعتباره شرطاً أساسياً من شروط العرض، بالتالي يمنح لنا هذا مقارنة مشجعي نادي برشلونة بجمهور مسرح باريس على سبيل المثال. فجمهور كرة القدم يصنفه النقاد الرياضيون باللاعب الـ12، وهذا النوع من الجمهور يتحلى بمستوى عال من المشاركة التي تتفوق في معناها على جمهور العروض المسرحية، فهي عند جمهور الملعب تأتي كنوع من المشاركة السياسية المؤثرة في أحداث العرض الدائر على مساحة اللعب، وهو هنا "المباراة"، أي إنها مشاركة علمانية محضة. أما المشاركة التي نتوقعها من جمهور المسرح فهي مشاركة طقسية منبعها الميثيولوجيا، بحيث لا تتيح هذه الطقسية الفرصة لمشاهد المسرح بالمشاركة إلا من خلال ما تمنحه له من خداع وإيهام، تمارسهما الشعائر والرهبة والفخامة الخطابية التي تحرم الجمهور من إبداء الرأي أو التصويت على أداء ممثل يغالي في تكلفه وعنجهيته حتى نهاية أدائه وإخلاصه للطقس المسرحي.

أجل. يصرخ جمهور كرة القدم، ولطالما تدخل عبر أعمال الشغب لإيقاف أكثر المسرحيات- المباريات انزياحاً عن أصول "المشاهدة الديمقراطية" التي يمارسها مباشرة ومن دون أي تدخل أو وساطة من موظفي الصالة- الملعب، وذلك إما عبر الهتاف والتشجيع أو عبر ترديد الصيحات والأهازيج التشجيعية، وأحياناً بالحجارة والبيض والبندورة!

إن جمهور كرة القدم غير مهذب كحال المشاهدين في صالات العروض المسرحية الذين يحافظون على صمتهم وحصافتهم حتى إزاء العروض السيئة. والأدهى من ذلك أن هؤلاء- وتحت رهبة الثقافة- يصفقون لممثلين معدومي الموهبة، فيما لا يطيق جمهور لعبة الفقراء صبراً مع لاعب بليد أو عديم الموهبة. وربما كان جمهور جماعات مشجعي فرق القدم أو ما يعرف بـ"الهوليغانز" من أفضل هؤلاء الذين باتوا يشكلون خطراً ومصدراً من مصادر القلق لدى قوات الشرطة ورجال حفظ النظام في كل بطولات الكرة ومونديالاتها الدولية. وجميعنا يذكر أحداث الشغب التي قام بها مشجعو الفريق الإنجليزي بعد هزيمة فريقهم بهدفين مقابل هدف أمام فريق الأرجنتين في نهائيات مونديال المكسيك 1986.

على مستوى آخر لا وجود للنص في لعبة كرة القدم، وهذا ما يخلصها من هيمنة الكتابة الأدبية، ويفسح المجال لكتابة نص "الخشبة- الملعب". فالصراع الذي تجسده الكرة هو صراع جماعي وسط مجابهة لا ترحم، حيث يشكل لاعب "قلب الهجوم" مثلاً شخصية رمزية مثله مثل "حارس المرمى"، إلا أن ما يميز الأخير هو قدرته على ملامسة الكرة باليد، وبقاؤه للحراسة. هنا تنعدم قوة الخطابة المدعومة بالأمثلة كما هي على المنصة، لتخفي الصفة الشخصية للممثل الذي يصبح عبر رقم يحمله على قميصه ممثلاً من الدرجة الأولى، بغض النظر عن دوره أو مكانه في الملعب. فهو أيضاً لا يلمس الكرة بيده بتاتاً، بل يحرص على الانصياع لشرط اللعبة وقواعدها عبر خطوط الجزاء والوسط، سواء في ملعبه أو داخل ملعب الخصم، مما يسهم أيضاً وفق ديناميكية الدفاع والهجوم المرتد والاستبسال في الحفاظ على شباك نظيفة. هكذا يسهم في تقديم نوعيات مختلفة من "الصراع المسرحي"، الذي عادة ما ترسمه في الملعب ميزانسينات الكرة وارتداداتها الخاطفة، إذ يمكن أن نرى الارتجال والخروج عن "النص" من أبلغ السمات التي تقدم مساحات متنوعة من الفرجة وحرية الأداء لا فوضويته.

في المقابل تتنوع الذرى الدرامية التي توزع الأدوار خارج هيمنة المخرج– المدرب، فمع أن هناك خطة- إخراج خاصة بهذا المدرب أو ذاك، فإن اللعب ولا شيء سوى اللعب، هو ما يحدد مصير كل شيء في النهاية، بالتالي نكون أمام تصور فردي لأدوار الممثلين- اللاعبين، وذلك وفق لعب جماعي حر وبريء يتيح بدوره نجومية لقيمة اللاعب، وذلك عندما يوظف هذا الأخير فرديته في خدمة الروح الجماعية التي يحققها الفريق. فلا وجود لمونودراما أو لمسرحية الممثل الواحد في كرة القدم إلا من خلال ما تتيحه روح "الفريق- الجوقة" التي لم تعد تتنبأ وتتكلم مع نفسها، بل هي عبارة عن صيغة جماعية حرة قوامها "واحد للكل، والكل في واحد".

 الحكم الحاكم

لا وجود لشخصيات نسائية في كرة القدم إلا أن الكرة التي تفرض استدارتها على جميع اللاعبين، تجعلهم يتعاملون معها بالصدور والأرجل والنطح بالرأس، وهذا يفرض جواً من الأروتيكية الخلاقة التي تصعد من طاقة 21 رجلاً، وتدفعهم بنوع من التحفيز الإبداعي نحو مرمى الخصم، مما يكرس مناخاً عالياً لروح المبارزة على المرأة المحبوبة أي "الكرة"، سليلة الدائرة، ووريثة انحناءات الجسد الأنثوي في صراع ذكوري عنيف على استحواذها والتفرد بها والظفر بتمريرها عبر الأقدام وعلى قوس الصدر، وجعلها غاية للشقاق والدوران والمداورة، وكأنها تجسد شخصية "هيلين" في ملحمة "الإلياذة" التي تسابق ملوك الإغريق للفوز بقلبها.

وعلى الرغم من كل ما يشاع عن الروح الرياضية فإن كرة القدم تقدم نوعاً جديداً من الصراع الذي يمحو أي أثر للمغزى الذي تتصارع من أجله "الشخصيات- اللاعبون". وهذا بدوره يجعل من الحكم شخصية كاريكاتيرية، فهو غير منفعل مع عبثية الصراع، مع أنه يراقب ويركض ويصفر ويوجه البطاقات الحمراء والصفراء، لكنه حيادي على نحو يبعث على الريبة. إنه باختصار صدى للشخصية الدينية "عراف العميان" أو "تريزياس الأعمى"، لكنه مر أخيراً بمحنة العولمة، وامتثل للائحة حقوق الإنسان وكوارث الحربين العالميتين، إلى أن أصبح نمطاً عجيباً من أنماط الهيئات القضائية الدولية، والمسؤولة عن "إحقاق الحق". لقد بات حكم المباراة شظايا مهشمة من الكهنوت الذي تمثله منظمة "الفيفا" لفض النزاعات، ومنح الثواب والعقاب بركلات الجزاء وسواها من أساليب العقاب الأبوي.

الحارس الحكيم

إن شخصية حارس المرمى أيضاً تقارب شخصية حامي الحمى "كريون"، في مسرحية سوفكليس الشهيرة. الحكيم المتفاني في ذوده عن عذرية شباكه، الذي يفضل موت "أنتيغون" ونفيها بسبب إخلاصها للعائلة على حساب الدولة. من هنا نستطيع أن نفهم تلك الإصابات البليغة التي يتعرض لها حراس المرمى، بما ميزتهم به شروط اللعبة مثل استخدام الأيدي، على عكس زملائهم من لاعبي الأقدام الذين يتعرضون لشلل كلي في أيديهم التي يتركونها في غرف تبديل الملابس قبل خروجهم إلى الملعب.

تلعب الأزياء أيضاً طقساً موازياً في صياغة الحضور لمجاميع اللاعبين الذين يتماهون مع أرقام قمصانهم، ليصيروا كنه الشخصية الجماعية التي يمثلونها. وهم على أبعد تقدير يشكلون في الملعب نمطاً من الترميز الدلالي الذي يلهب أكف المتفرجين، ويؤثر على عواطفهم. وهذا يمكن ملاحظته مثلاً في ما يتركه اللونان الأزرق والأصفر على مشجعي الفريق البرازيلي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من جهة أخرى يشكل العرض المسرحي ما يشبه الزمن الرمزي للصراع الدرامي، الزمن السحري الذي يعيشه الممثل وفق ازدواجية إبداعية لفن التمثيل، أي "أنا" الممثل الخالقة للدور، و"أنا" الشخصية المسرحية، التي يتقمصها الفنان على خشبة المسرح بحسب ستانسلافسكي. أما في المباراة فعلى اللاعب أن يعيش مساحته ونصيبه من الكرات التي يمررها له زملاؤه في الفريق، وبحسب هذه المساحة التي يشغلها تتحدد شخصيته وحضوره في اللعب.

لذلك يمكن أن تكون شخصية كل من "قلب" الهجوم أو "قلب" الدفاع، من الشخصيات التي تكتسب مستويات عالية من التعاطف لدى جمهور يعلو زئيره عندما يتعرض هؤلاء لإصابة أو عقوبة أو حتى إلى تنبيه بسيط. إلا أن ذلك لا يعني أن شخصيتي قلبي الدفاع والهجوم تماثلان أبطال التراجيديا، فالبطل المأساوي ماض إلى حتفه سواء أراد ذلك أم لم يرده، أو سواء أكان يعي ذلك أم لم يعه. فالتراجيديا ذات طبيعة حتمية، وتتمتع بسلطة واسعة على أبطالها، بل هي السلطة في أقسى تجلياتها وأغربها، لكن اللاعبين في كرة القدم- لا سيما نجوم الكرة- لا يتبعون لهذا النوع من السلطة، بل تشكل الكرة وأهواء أقدام اللاعبين المعيار الأول والأخير، في تقرير مصائر ملايين عشاق اللعبة، وذرفهم الدموع على فريقهم منتصراً كان أو خاسراً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة