Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الطفلة ييفا تروي كوابيس أوكرانيا بعينين بريئتين

يوميات الملجأ والهروب تحت القصف ترجمت إلى 14 لغة

الطفلة الأوكرانية لجأت إلى دبلن هاربة من جحيم أوكرانيا وإلى اليمين بيتها المدمر (غيتي)

في كتابها "أنت لا تعرف ما هي الحرب"، تقدم ييفا سكليتسكا أول يوميات مدونة لطفل أوكراني بصفته شاهداً على الأحداث. وهي التجربة التي طفقت تسجلها أولَ بأول، لا بغرض نشرها في كتاب، بل من أجل إعادة قراءتها فحسب، بعد عشرة أعوام أو حتى عشرين عاماً، حين تستتب الأوضاع ولا تبقى إلا الذكريات. لكن المدهش أن يوميات ييفا نشرت في 18 دولة وترجمت حتى الآن إلى 14 لغة، بل واعتبرتها بعض المراجعات أهم قصة في عصرنا.

الحرب بعين طفلة

تُستهل المذكرات بمقدمة مشوقة للكاتب البريطاني مايكل موربورغو مؤلف كتاب "حصان الحرب" الذي صدر في 1982 وقام المخرج ستيفن سبيلبرغ بتجسيده على الشاشة. يورد موربورغو في مقدمته حكايات رهيبة عن الحروب، قبل أن يصف كتاب ييفا بأنه قصة مقنعة تصور انحراف حياة كاتبة شابة إلى خضم الجحيم لتصل في النهاية إلى الخلاص: "ييفا تتحدث عن حقيقة يجب علينا جميعاً الإنصات إليها". وهي تبدأها بليلة الاحتفال بعيد ميلادها الثاني عشر، حين كانت تعيش مع جدتها في خاركيف بأوكرانيا، وتمارس حياتها بشكل طبيعي، سواء في مدرستها أو مع أقرانها، مستمتعة بلعب البولينغ.

وفي صباح يوم 24 فبراير (شباط) 2022 أي بعد عشرة أيام من احتفالها بمولدها، استيقظت حوالى الخامسة على صوت جلبة معدنية تردد صداها في أرجاء حيهم السكني، تشبه انسحاق عربة: "لمحت جدتي تقف جوار النافذة، تتطلع نحو الحدود الروسية. كانت تراقب صواريخ غراد وهي تحلق فوق الحقول. فجأة، طار صاروخ ضخم وانفجر بقوة لدرجة أنني شعرت بقلبي يتشظى في صدري مع ارتفاع صوت أجهزة الإنذار في إحدى السيارات المركونة، بينما تحاول جدتي التزام الهدوء متسائلة، إن بدأ بوتين حرباً مع أوكرانيا حقاً. نعم. على ما يبدو. كنت في حالة صدمة كاملة. لم أكن أعرف ماذا أقول. كنت أعرف أن الجدة تحاول تمويه الحقيقة، وكان من الصعب جداً مجاراتها. لقد كبرت وأنا أسمع عن الحرب، لكنني لم أذهب إليها أبداً. أحسست بالرعب. لم يكن لدينا وقت للتفكير. لم يخبرنا أحد بما ينبغي أن نفعله إذا ما اندلعت حرب. لم يكن أي منا مستعداً للحرب. لا أنا، ولا جدتي، ولا حتى جيراننا. كنا ندرك أن علينا مغادرة بيوتنا والوصول إلى أقرب قبو، كانت يداي ترتعشان، وأسناني تصطك. الخوف يتراكض من حولي فيما تحاول جدتي تهدئتي، وتخبرني أنني بحاجة ماسة إلى تمالك نفسي. وضعت قلادة صلبة حول رقبتي ثم وضعت صندوق مجوهراتها بعيداً في خزانة الملابس... ركضنا إلى الشارع وتوجهنا إلى القبو. وما إن دلفنا إليه حتى اعترتني نوبة جديدة من الذعر، لم أستطع التنفس، تعرقت يداي ببرودة مخيفة، هكذا بدأت الحرب".

"نسيت شيئاً في بيتي"

في جو القبو الخانق، بدأ الكبار في إعداد المكان كي يصلح للعيش مع تجهيزه بأسرّة من البطانيات وقطع الكرتون، وهم ينصتون إلى انفجار القنابل التي تتساقط في الخارج. أحد الجيران حرص على جلب طاولة ووضع عليها ألعاباً للأطفال لصرف ذهنهم عن أصوات القصف، والخراب الذي يجري على أشده على بعد خطوات منهم. بعضهم راح يرسم، والبعض انشغل في لعب الكوتشينة، وحاولت ييفا الانهماك في لعب الدومينو. لكنها سرعان ما أدركت أن السبيل الوحيد لاحتمال ما يحدث هو الشروع في تدوينه على الفور، لتبرهن من جديد على دور الحكي في امتصاص الصدمة بعد أن أثبت فعاليته كوسيلة ناجحة للاستشفاء. وما لبثت أن أقنعت المرأة العجوز التي تتظاهر برباطة الجأش بالذهاب إلى شقتهما لجلب شيء مهم نسيته. كان هذا الشيء عبارة عن رزمة من أوراقها البيضاء وعدة أقلام وربما نظرة أخيرة على المكان الذي تربت فيه، وتركت على جدرانه آثار كفيها وخربشات قلمها الرصاص. هذا المكان لم يعد كائناً الآن ولا يمكنك التعرف حتى إلى أطلاله وسط كل هذه الأنقاض. أكثر من ثلثي البنية التحتية دمرت بالكامل منذ بداية حرب روسيا على أوكرانيا، وهو ما جعل أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية تدعو أخيراً إلى تغريم روسيا ثمن الدمار الذي تسببت فيه، من الأموال المجمدة الخاصة بالفئة الحاكمة وأصول البنك المركزي.

بدأت ييفا في تدوين مذكراتها في المخبأ الرطب تحت القصف، مستمرة في سرد تحركاتها هي وجدتها، في رحلتهما اليائسة غرباً هرباً من الصراع المحتدم حولهما، ووصف إقامتها الطويلة في مركز مزدحم للاجئين في غرب أوكرانيا، ثم اللجوء إلى منزل أحد الأصدقاء في الجانب الآخر من المدينة وعبر الحدود إلى بودابست. تقودها قدماها الصغيرتان في نهاية المطاف، بمساعدة فريق إخباري من القناة الرابعة، وهو الذي ساعدها على نشر كتابها عن دار بلومزي، إلى دبلن، تحت رعاية زوجين من إيرلندا رحبا بضيفتهما بعد أن استحوذت على قلوب العالم لدى ظهورها على شاشات التلفاز. وهناك، بدأت بشجاعة في تكوين حياة جديدة، على أمل أن تتمكن من العودة إلى بلدها ذات يوم، حتى بعد تدمير المدينة، مدينة الحدائق والأديرة والمباني القديمة التي لا يمكن تعويضها.

ما لم تكن هناك، فأنت لا تعرف ما هي الحرب

إلى جانب اليوميات، يضم الكتاب الكثير من مراسلات ييفا مع زملائها في المدرسة، أسهمت في طرح وعي جديد للحرب من خلال تلك العيون المستديرة فزعاً، في تلك المرحلة المتعطشة للحياة. وهو ما يدعونا إلى مراجعة مفهومنا عن الحرب التي كنا نظن أننا نعرفها تمام المعرفة، فإذا بكتاب طفلة ينبه العالم إلى أن ليس بوسع الصحافة ولا وسائل الإعلام ببثها المباشر من قلب الأحداث، ولا حتى كتب التاريخ وحكايات الخيال، أن تمدنا بنسيج حي عن هول الكلمة بقدر ما تستطيع عيون الأطفال. تقول ييفا: "كان من المؤلم أن نتشارك مشاعرنا حول ما يحدث، لكننا حاولنا أن ندعم بعضنا بعضاً".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يتضمن الكتاب أيضاً مجموعة من الصور الفوتوغرافية لها، بعين جدتها الساهرة في غفوة من حفيدتها، لتسجل بمنتهى القسوة كيف ينبت الخوف على مسام الجلد، فيقشعر البدن، ويبعثر الروح في كل اتجاه. بالإضافة إلى خرائط مرسومة باليد وعناوين من الأخبار وملاحظات تفصيلية تمدنا بفهم أوسع لرحلة ييفا عبر أوكرانيا والمجر وإيرلندا في النهاية، وهو ما يجعل القصة المروية بكلمات مباشرة لم تعبث بها يد التحرير على ما يبدو، شديدة الواقعية. وعلى رغم عيوب الواقع وفظاظته الجالبة بلا شك للبكاء والألم، لا يصعب على القارئ العثور على صور شعرية وأخرى تدعو إلى الحبور عن طبيعة النفس البشرية القادرة على المواجهة حتى في أحلك الظروف: "كل شيء كان يبدو بالنسبة لي صعباً أو بشعاً في الماضي، أصبح الآن نافلاً".

أكثر من 7 ملايين لاجئ توزعوا في أنحاء أوروبا بسبب هذه الحرب، وتقول وكالة اللاجئين الرئيسية التابعة للأمم المتحدة، إن ثلثي أولئك من الأطفال، غير أننا مللنا سماع الأحداث عبر الأعين الكبيرة الناضجة، وهذه هي المرة الأولى التي يتسنى لنا قراءتها من خلال عيني طفل.

الآن، تذهب ييفا إلى مدرسة في إيرلندا، تختلف تماماً عن مدرستها في أوكرانيا التي دمرتها الحرب. وعليها أن تتعلم اللغة الإنجليزية، وفي الوقت نفسه تتابع أخبار بلدها من خلال رسائل أصدقائها الذين لم يحالفهم الحظ في الخروج من خاركيف. في يوم من الأيام، تأمل ييفا في العودة إلى وطنها ورؤيته مرة أخرى. وعلى رغم أن شقتها التي قضت فيها كل طفولتها، تم تدميرها تماماً، تقول: "أفهم أن الأمر لن يكون كما كان من قبل". "ربما سأعود لأرى ما حدث في مدينتي. وأنا أعلم أنه لا يوجد مستقبل هناك لأن الجامعات والمدارس وحتى الطرق والغابات، وكل شيء تقريباً، لم يعد موجوداً ما دامت القنابل تنفجر في كل مكان".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة