الاحتفال بـ "اليوم" العالمي للمرأة يجب ألا يتوقف زمنياً عند يوم واحد، فقضية المرأة بل قضاياها لا تزال مطروحة بقوة مثيرة الزيد من السجال الذي لا خاتمة له. ولعل كتاب "الجنس الآخر" أو "الجنس الثاني" للكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار الصادر عام 1949 يعد بمثابة الدستور المؤسس للحركات النسائية في العالم، وقد ألمّت من خلاله الكاتبة، بما سمّته تاريخ "اضطهاد" المرأة في التاريخ، مؤكدة أنّ الجنس البشري لم يعط الأفضلية، على امتداد التاريخ، للجنس الذي ينجب، أي المرأة، وإنما للجنس الذي يقتل ويقاتل، أي الرجل/ المحارب/ الصياد. لا شكّ في أنّ تغييراً عميقاً قد طرأ على هذه النظرة في مراحل معيّنة من التاريخ وبالخصوص خلال المرحلة الزراعية، لكن ذلك لم يحدّ من سلطان الرجل على المرأة، بل ربما ازداد القمع استفحالاً كلما تقدمنا في التاريخ. وبنبرة واثقة، تقول الكاتبة، بعد تحليل طويل لحضور المرأة في المجتمع الإنساني: "إن الشخص لا يولد امرأة بل يصبح امرأة". فالبيئة والثقافة والسياسة مجتمعة هي التي ترسخ في العقول والأذهان صورة مخصوصة للمرأة تعيد إنتاجها في الواقع. بعبارة أخرى المرأة ليست كياناً طبيعياً فحسب بل هي كيان ثقافي أيضاً. بناء على هذا ترى الكاتبة الفرنسية أن تحرر المرأة رهين تغيير الصورة التي يحملها عنها الرجل.
هذه الأفكار كانت الأسس الأولى التي انبنت عليها المقاربات الجندرية في العديد من مجالات المعرفة. ذلك أن القراءة الجندرية، كما يؤكد الكثير من الباحثين، صالحة للتطبيق على كل النصوص وعلى كل الثقافات باعتبار الجندر "مفهوماً عابراً لكل الثقافات"، عابراً لكل الأزمنة، يتجلى بصور عديدة وأساليب مختلفة.
باحثات جندريات
نذكر في هذا السياق، بعض القراءات الجندرية الأولى التي أنجزها عدد من الباحثات منها على سبيل المثال قراءة الباحثة رجاء بن سلامة "بنيان الفحولة، أبحاث في المذكر والمؤنث" الصادر عام 2000 وكتاب الباحثة أمال قرامي "الاختلاف في الثقافة العربية الإسلامية، دراسة جندرية" الصادر في عام 2007 وقراءة الباحثة وفاء الدريسي "الجواري والغلمان في الثقافة الإسلامية" الصادر عام 2016.
ويندرج كتاب "مرائي النساء" الذي أنجزته الباحثة التونسية جليلة الطريطر في ما يقارب 500 صفحة من القطع الكبير، ضمن هذه القراءة الجندرية التي اختارتها الباحثة، عن وعي عامد، للانعطاف على كتابات الذات في الأدب العربي بالنظر والتأمّل. وتسوغ الكاتبة هذا الخيار المنهجي قائلة: إن مفهوم الجندر يمثل "الأداة المنهجية الأكثر تلاؤماً مع دراسة طبيعة علاقات السلطة بين الجنسين في المجتمع، والأكثر جدوى في تحليل مظاهر الصراع النسوي ضد الهيمنة الذكورية التي وجدتها تحتلّ مركز الصدارة في الإنتاج الذاتي النسائي العربيّ وكلّ ذلك يمثل في تصوّري وجهاً آخر من وجوه تفعيل قوّة المرجع في هذه الكتابات و"كتابات الذات". وقد ورد في هذا الشاهد مصطلح أدبيّ يشير، في النقد الغربي، إلى منظومة أجناسية، نجد فيها "المؤلف يطابق الراوي، والراوي يطابق الشخصيّة، بما يؤول إلى تطابق المؤلف مع الشخصيّة". ففي هذا الضرب من الأدب تتقلص المسافة بين الكاتبة والكتابة، بين الوجه والمرآة، بين القائل ومقول القول. فمن خصائص "كتابات الذات" أنها تحدّ من قوة الخيال لصالح قوّة المرجع، فهي لا تفتأ تراهن على قول الحقيقة التاريخية والنفسيّة بأمانة وصدق، من أجل "كسب مودّة القارئ" والاستحواذ على تعاطفه. وتضمّ هذه المنظومة: السيرة الذاتية، والمذكّرات، والبورتريه الذاتيّ، والرسائل الخاصّة، ومحكي الطفولة.
أدب الذات
الواقع أنّ "أدب الذات" مع كلّ ما ينطوي عليه من أسئلة، كان محور كل الأعمال التي انكبت على تأليفها، منذ عقود، الكاتبة جليلة طريطر. فقراءة سريعة لعناوين البحوث التي أنجزتها، تؤكد الوشائج القويّة التي تنتظم كل دراساتها والتي تستهدف مجتمعة استكناه أسرار الأدب الذاتي، والاقتراب من جوهره، والدّخول في خرائط عالمه المعقّدة. لقد أتاحت لها معاشرتها الطويلة لهذا الأدب عقد حوار ثريّ مع أهمّ نصوصه، والوقوف على أهمّ مسائله، والإلمام في الوقت ذاته، بحدوده ومآزقه. فمنذ حصولها على شهادة الدكتوراه التي دارت أطروحتها حول السيرة الذاتية، عكفت الباحثة على دراسة "كتابة الذات" في الأدب العربي، والمُساهمة في الإجابة على أسئلتها الكثيرة، آخذة على نفسها استكمال مشروعها المتمثل في تسليط الضوء على الأدب الذاتي في ثقافتنا، وإبراز أهمّ مقوماته.
لكنّ الكاتبة لم تكتف بذلك، بل عملت على تتبع التحوّلات التي ما فتئت تطرأ على جسد هذا الأدب والتي تقتضي من الدّارس استقراءها وتحليلها. فمغامرة "أدب الذات" ظلّت مغامرة مستمرّة تستعصي على كلّ تحديد، وتَتَأبَّى على كلّ ضبط، فكلّما تصوّر القارئ أنّه أدرك أغوارها وهتك أسرارها، انفلتَتْ من بين يديه ساخرة من كل محاولات الإحاطة بها، واكتشاف قوانينها.
وممّا زاد الباحثة عزْماً على المضيّ قُدُماً في هذه الطريق أن الدّراسات التي كتبت في هذا الموضوع لم تُحط، بأيّة حالٍ، بما أرادت الخوض فيه من مسائل وقضايا. فـ"اليوميات" و"المذكرات" و"السير الذاتية"، وهي المحاور الكبرى التي دارتْ عليها بحوثها الجامعيّة، لم يتبسّط في تحليلها النّقاد، ولم يولوها العناية التي تستحقّ. لهذا تصدت لَها ولم يكنْ أمامنا مثلٌ تحتذيه، أو دراسة تستدلّ بها باستثناء بعض الإشارات السريعة التي جاءت في تضاعيف بعض الكتب من غير أن تشَكِّلَ موقفاً نقديّاً متكاملاً. من هنا كان انكبابها على دراسة النقد الغربي، تستلهم مناهجه ومفاهيمه ومصطلحاته، من أجل فهم هذا الضرب من الأدب الذي تحدّر من الثقافة الغربية تحدر الوليد من الوالدة.
أسئلة مشققة
والحقّ أن الأدب العربي لم يعرفْ، في أيّ عصرٍ من العصور، ما عرفه في عصرنا الحاضر، من تشقيقٍ لأسئلته. وأكثر من هذا فإن كثيراً من هذه الأسئلة لَمْ يردْ قطّ في أذهان السّابقين من النّقاد والباحثين، لا لشيء إلا لأنّ ما طرأ على الأدب العربيّ من تحوّلاتٍ حاسمة ولّدت العديد من الأسئلة الجديدة التي استدعت النّظر فيها واستقصاءها بطرائق ووسائل جديدة.
إن هذه الدّراسات، وإن حملت أحياناً في تضاعيفها بعض ملامح اللّحظة التّاريخيّة التي صدرت عنها، وأومأت على نحوٍ خفيّ، إلى المناخ الثّقافي الذي تبلورت فيه، فإنّها تؤكّد، على تقاذف المسافات الزمنيّة بينها، على رغبة الباحثة في العُثُور على أنجع السُّبل لمحاورة الأدب واستدراجه حتّى يبوح بأسراره الكثيرة.
مرائي النساء
وهذا العمل الجديد "مرائي النساء" الصادر عن الدار التونسية للكتاب، يطرح قضايا كتابات الذات النسائية التي آن الأوان، في نظر الكاتبة، للتصدّي لها باعتبارها تمثل رافداً أساسيّاً لاستكمال الأفق الأدبيّ العربيّ وتحيينه، بكلّ ما يخترقه من قضايا، سواء ما تعلّق بقضايا كتابة المرأة في سياقها العربيّ، أو بقضايا الكتابة الأدبيّة في الثقافة العربيّة عامّة.
لقد أبرزت الكاتبة من خلال هذه الدراسة وجود "مدرسة" عربية إصلاحية نسائية عالمة في طور التشكل بالتوازي مع مدرسة أعلام التنوير. لكن هذه الأخيرة حجبتها بل حاولت استيعاب أعضائها ضمن نسيجها الذكوريّ. وهو ما يفسر هيمنة السلطة الذكورية على الثقافة وتمثيلاتها الرمزية.
جليّ أن الكاتبة وهي تدرس الذات النسائية قد وظفت مقولة الجندر لأنها، في نظر الكاتبة، "الأداة المنهجية الأكثر تلاؤماً مع دراسة طبيعة علاقات السلطة بين الجنسين في المجتمع، والأكثر جدوى في تحليل مظاهر الصراع النسوي ضد الهيمنة الذكورية التي وجدتها تحتلّ مركز الصدارة في الإنتاج الذاتي النسائي العربيّ وكلّ ذلك يمثل في تصوّري وجهاً آخر من وجوه تفعيل قوّة المرجع في هذه الكتابات".
في هذا السياق تتأمّل الكاتبة "تيار تحرير المرأة التنويري الرجالي"، من خلال كتابات قاسم أمين والطاهر حداد، مؤكدة أن هذا التيار لا يمثل، في الواقع، قطيعة عميقة مع بنية "الهيمنة الذكورية" المتحكمة في المجتمع العربيّ، على رغم أنّ هذا التيار كان يقدم نفسه، في الكثير من المناسبات، باعتباره مناهضاً للفكر الذكوري المحافظ السائد. واستناداً إلى الكثير من الشواهد التي تنتزعها الكاتبة من أعمال المصلحين، تؤكد خضوع هذين الكاتبين للتفكير النسقي الذكوري، يعيدان إنتاجه من جديد. من ذلك أنهما حرصا على عدم تداخل الأدوار الاجتماعية للرجال والنساء. فكلاهما كان يؤكد أن تحرير المرأة لا يعني التنكّر لأدوارها الاجتماعية التي يعتبرها المجتمع الأبويّ طبيعية بامتياز.
السيرة الذاتية بصيغة المؤنث
تعد السير الذاتيّة مجالاً إبداعيّاً جديداً اقتحمته المبدعات العربيّات خلال النصف الثاني من القرن العشرين. تستمد السير الذاتية قيمتها من كونها تعبر بشفافية وعمق، عن قضايا المرأة العربية وتكشف "رهانات الحياة الشخصيّة الحميمة للكاتبات العربيّات".
لعلّ أهم ما يلفت الانتباه في هذه السير الذاتيّة تطابق الهويات الثلاث التي هي: الكاتب والراوي والشخصية. فهذه العناصر على تعددها واحدة. والكاتب كائن واقعيّ، والراوي، منتج النص، ضمير عائد إلى المؤلف، وهو في الوقت نفسه المتحدث بذاته عن ذاته، غير منفصل عن الشخصية السير- ذاتية التي يروي قصة حياتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تتناول الكاتبة بالنظر والتامل السير الذاتية الأنثوية من خلال عدد من الأعمال مثل "رحلة جبلية، رحلة صعبة" لفدوى طوقان و"حملة تفتيش أوراق شخصية" للطيفة الزيات و"أوراقي حياتي" لنوال السعداوي وغيرها. كل هذه الأعمال، على اختلافها، تنهض بوظيفة واحدة، هي المراهنة على فرض الذات في عالم تهيمن عليه قيم الذكورة القامعة. الكتابة هنا تحولت إلى حلبة صراع، إلى محاولة للاستحواذ على الذاكرة والجسد، إلى أسلوب إقامة في الأرض.
تذهب الباحثة إلى أنّ أهم ما يميز كتابة الأنثى توترها. فاللغة تتأبى على الكاتبة وتستعصي عليها لأنها لغة مسكونة بذكورية كتابها. اللغة رهينة إذن، ووظيفة الكتابة تتمثل في تحريرها، وتحرير اللغة يفضي بالضرورة إلى تحرير المرأة. من هنا تصبح الكتابة، كتابة المرأة، تحريراً للذات من خلال تحرير اللغة... فاستحواذ المرأة على مملكة الأسماء، دخول في مرحلة جديدة من التاريخ، بحيث باتت المرأة تمتلك ناصية الأبجديّة، ومن ثمّ تمتلك قوة التعبير عمّا ظلّ مخفيّاً، ومستتراً، ومسكوتاً عنه.
مغامرة وجودية
بسبب من هذا عدّت الباحثة النصوص السير- ذاتية مغامرة لأنها تتخطّى الحجاب التخييلي المسدل على تفاصيل الحياة الحميمية وتكشف بجرأة مقومات الذات الأنثوية. إن المغامرة السير- الذاتيّة النسائية، كما كانت تردد الباحثة، ليست مجرّد حبكة قصصيّة بالمعنى التخييلي للعبارة، وإنّما هي مغامرة وجودية، أي استراتيجيّة سرديّة تراهن على فهم أطوار تاريخ الحياة الفرديّة الواقعيّة عبر مرحلة زمنيّة معيّنة، وتفكيكها. والغرض من ذلك إعادة كتابة تاريخ المرأة، والكشف عما انطوى عليه هذا التاريخ من أشكال شتى للعنف والتهميش.
لكن الكاتبة لم تكتف بتأمل السيرة الذاتية النسائية بل تأملت أجناساً أدبية ألطف منها "الشهادة" من خلال كتاب "ولي خطوات في فلسطين، امرأة تونسية في الأراضي الفلسطينية" للكاتبة نجاة البكري و"الشهادة الأدبية" من خلال شهادات الكاتبة عروسية النالوتي الأدبيّة. كما تأملت "اليوميات" النسائية من خلال كتاب "بغداد وقد انتصف الليل فيها" لحياة الرايس وكتاب "النجمة والكوكوت" لحفيظة قارة بيبان.
كان غرض الباحثة رصد "أزمة الذات" في الكتابة النسائية. وهذه الأزمة التي تعدّ خيطاً ينتظم كلّ أعمال هذا الأدب، ليست أزمة انفصال الفرد عن الجماعة، كما تقول الكاتبة، بل أزمة كيفيات اتصاله بها. وهو ما يزداد رسوخاً يوماً تلو يوم، بعد عقود من فشل النخبة في تأكيد "القطيعة الإبستمولوجية بين مرجعيات منظومة التخلف ومرجعيات الحداثة".
لا بد إذاً من الاهتمام بأدب الذات النسائية العربيّة، وهو الأدب الذي لم يحتف به نقدنا العربي، ولم يوله العناية التي يستحق، فظل، بسبب من ذلك، مجهولاً يشق على الدارس قراءته أو الإجابة عن أسئلته الكثيرة.