منذ نشوئه في أوروبا في القرن الخامس عشر، لأسباب دينية واستعمارية، شكّل الاستشراق، بما هو حركة ثقافية تهتم بدراسة الثقافات الشرقية، موضوعاً مثيراً للجدل، اختلفت مواقف الشرقيين منه، بين مؤيد له بداعي اهتمامه بالتراث الشرقي وحفظ كنوزه المعرفية، ومعارض له بداعي اهتمامه بالشرق لأهداف استعمارية ودينية. وكثيراً ما طغى الموقف الثاني على الأول في النظرة إلى هذه الحركة الفكرية، ووصمها بالسلبية. غير أن الاطلاع على الدور الذي لعبته مدرسة الاستشراق الهولندية في الاهتمام بالتراث العربي الإسلامي وحفظ بعض آثاره من الاندثار من شأنه أن يكسر النظرة النمطية السلبية للاستشراق، ويدعو إلى إعادة النظر في هذه الحركة، وهو ما يتيحه لنا كتاب "مدرسة الاستشراق الهولندية ودورها في حفظ التراث الإسلامي المخطوط" للباحث العراقي حيدر قاسم مطر التميمي، الصادر أخيراً عن "الدار العربية للعلوم ناشرون" في بيروت، والمزدان بسبعٍ وعشرين صورة نصية لصفحات من مخطوطات مختلفة، ما يمنح الكتاب قيمته العلمية.
عربية وغربية
في المقدمة، يشير الباحث إلى عاملين اثنين، ذاتي وموضوعي، حديا به إلى وضع الكتاب؛ أمّا الذاتي فهو الوفاء لوالده الذي رحل عنه في آذار 2021 واستكمال الطريق الذي اختطّه له. وأمّا الموضوعي فهو رغبته في تقديم صورة واضحة عن الدور الذي لعبته مدرسة الاستشراق الهولندية في حفظ المخطوطات العربية، في ظل قلة الدراسات العربية التي عنيت بهذا الدور. إذ يقتصر عدد الدراسات الصادرة في هذا الموضوع على دراستين عربيتين لكل من قاسم السامرائي ونجيب العقيقي، وتسع دراسات غربية لمجموعة من المستشرقين، نذكر منهم، على سبيل المثال لا الحصر، المستشرقين الهولنديين: يان نات، يان فوغل، يان بروجمان، فرانك شرودر، وغيرهم. ولا تفوت الباحث الإشارة إلى اعتماده المنهج التاريخي في دراسة نشأة الدراسات العربية وتطورها في هولندا في الفصل الأول، واعتماده المنهج الوصفي في وصف المخطوطات والرسائل الشرقية المحفوظة في مكتبة عائلة جوينبول في الفصل الثاني. وهو ما نتناوله أدناه.
تأصيل تاريخي
الفصل الأول من الكتاب يُخصّصه صاحبه للتأصيل التاريخي لمدرسة الاستشراق الهولندية، من خلال قسمين اثنين؛ يتناول في الأول منهما الدراسات العربية في هولندا وعلاقتها بالتأثير الاجتماعي، ويرصد في الثاني دور عائلة جوينبول الاستشراقية وسليلها غاوتيير جوينبول في جمع المخطوطات وحفظها. ويتبين لنا من خلال هذين القسمين أن محاور اهتمام الاستشراق الهولندي تراوحت بين تجشّم عناء السفر لجمع المخطوطات وحفظها، وضع الدراسات الاستشراقية، طباعة الكتب، تدريس اللغة العربية، تخصيص كراسٍ جامعية، وإنشاء الكليات والمعاهد المهتمة بالدراسات الاستشراقية. وهذه المحاور لا تختلف في تبرير الاهتمام بها عن التبريرات الأوروبية المعروفة، الدينية والمنفعية والاجتماعية والاقتصادية والدبلوماسية، ممّا يمكن وضعه تحت عنوان واحد هو العنوان الاستعماري. وفي سياق المنطق التبريري، تتعدد المبرّرات وتتراوح بين: فهم أفضل للغة العهد القديم، مواجهة الإسلام، تسهيل تعلم العبرية، تعزيز العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية بين هولندا والعالم الإسلامي، والتعرف إلى الآخر الشرقي، وغيرها.
خدمات ثقافية
على أنه، وبمعزل عن الأهداف والمبرّرات، فقد تمخّضت هذه الحركة عن نتائج متقدمة وخدمات جُلّى للتراث العربي والإسلامي المخطوط. فنقرأ في العرض التاريخي المختصر لنشأة المدرسة الاستشراقية الهولندية وتطورها مجموعة من الوقائع التاريخية التي تعكس أهمية هذه المدرسة، من قبيل: بدء الدراسات الاستشراقية في جامعة ليدن عام 1591 بعد ستة عشر عاماً فقط على تأسيسها، تأسيس المعهد الهولندي للشرق الأدنى المرتبط بالجامعة عام 1939، ترشيح توماس إربينيوس أوّلَ أستاذ لغة عربية فيها عام 1613، قيام الطالب الألماني ليفينيوس فارنر ألف مخطوطة شرقية آلت جميعها إلى الجامعة بعد موته عام 1665، تزويد العامل الدبلوماسي جاكوبوس غوليوس الجامعة بمخطوطات عام 1625، وقوف عالم النصوص مايكل يان دي خويه وراء طباعة تاريخ الطبري في عام 1897، وتأسيس كراس للغة العربية في جامعات أمستردام وأوتريخت ونيميخن الهولندية، ناهيك بالدراسات المختلفة وسواها من الوقائع المهمة التي لا يتسع المقام لها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في السياق نفسه، يُفرد الدارس القسم الثاني من الفصل الأول للجهود التي قامت بها عائلة جوينبول الاستشراقية، وهي عائلة أرستقراطية هولندية معروفة منذ عام 1629 لعب ستة أفراد منها على الأقل أدواراً مؤثرة في الدراسات الإسلامية والشرقية، بدءاً من عالم اللاهوت ثيودور جوينبول الذي جمع بين تدريس اللغتين العربية والعبرية في جامعة ليدن. على أن مطر يولي اهتماماً خاصاًّ بالجهود التي بذلها سليل العائلة غاوتيير جوينبول؛ وتتمظهر في: القيام بأمانة قاعة المطالعة الشرقية في ليدن، دراسة أدب الحديث النبوي وتطوره، دراسة أصل الإسلام، نشر كمٍّ كبير من الكتب ذات الصلة، وضع موسوعة الحديث النبوي، والتبرّع بأملاكه لإنشاء مؤسسة جوينبول الهادفة لدراسة اللغة العربية والإسلام. وبذلك، يحقق حيدر قاسم مطر هدفه في رسم صورة مشرقة للاستشراق الهولندي تتخطى المنطلقات التأسيسية المشتركة مع الاستشراق الأوروبي، وتتمخّض عن خدمة كبيرة للتراث العربي، من حيث يقصد المؤسسون أو لا يقصدون.
مخطوطات وقصاصات
الفصل الثاني من الكتاب هو عمل بيبليوغرافي – وصفي. يتناول فيه الدارس بالوصف مجموعة من المخطوطات والقصاصات والأفلام والمواد والرسائل؛ ففي المخطوطات، يصف ست عشرة مخطوطة، تشتمل الواحدة منها على نص واحد في الحد الأدني وستة نصوص في الحد الأقصى، وتتراوح موضوعاتها بين اللغة والدين والتاريخ والفقه والشعر والنقد والقافية والبلاغة والنحو وسواها من الحقول المعرفية المتصلة باللغة العربية. ويتناول في وصفه عدد النصوص، وهوية الورق، ونوع الخط، ولون الحبر، وعدد الأسطر في الصفحة الواحدة، وإخراج النص...، وسواها من التفاصيل الشكلية المعبرة عن مضمون ما. ومن العناوين التي نقع عليها في هذا السياق، على سبيل المثال: "دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصلاة على النبي المختار" لمحمد بن سليمان الجزولي (ت 1464م)، "منحة السلوك في شرح تحفة الملوك" تعليق محمد عبد اللطيف بن الملك (ت 1450م)، "الفقه الأكبر" لأبي حنيفة النعمان، "كفاية المتحفظ في اللغة" لأبي إسحق ابراهيم بن اسماعيل الطرابلسي (القرن الثاني عشر الميلادي)، كتاب في علم القافية لمحمد بن يعقوب الكومي (ت 1407م)، وغيرها.
وفي القصاصات، يتناول الدارس بالوصف ستاًّ وأربعين قصاصة في موضوعات مختلفة، وتتراوح بين الرسالة والاستشارة والجدول والنص والتميمة والدعاء والشعر وغيرها، ويصف ما يتعلق بشكل القصاصة من ورق وخط وحبر وإخراج وسواها من مظاهر مادية، وما يتعلق بمضمونها من نوع أدبي وحقل معرفي ولغة كتابة وغيرها. وفي الأفلام المصغرة، يتناول الدارس سبعة أفلام، يبين رقم الحفظ ومكانه وتاريخه ومحتواه. إضافة إلى مواد مخطوطات ومواد أرشيفية مختلفة نقلت من مكتبة جوينبول إلى مكتبة ليدن في أوقات مختلفة. وبذلك، يقدم مطر عملاً بيبليوغرافياً يشكّل قيمة مضافة إلى الكتاب، ويعزز مصداقيته العلمية.
"مدرسة الاستشراق الهولندية" يكسر الصورة النمطية السلبية للاستشراق، ويحفل بالمعلومات التاريخية الموثقة والوصف البيبليوغرافي الدقيق، ويضيف جديداً إلى مكتبة الاستشراق العربية، ولا يعود قارئه من الغنيمة بالإياب بل بالمتعة والفائدة.