Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عمر نعيم يحول الصحراء الساحرة إلى بلاتو سينمائي

"سكة طويلة" فيلم تشويق ومفاجآت بصرية يعرض على "نتفليكس"

الشقيق والشقيقة في رحلتهما المحفوفة بالمفاجآت (ملف الفيلم)

نوعان من الأفلام يمسكان بمقاليد السينما العربية: التجاري المحض وأغلب ما فيه رديء وسطحي يهدف إلى الاستهلاك الداخلي، والفني الذي يحلو للبعض تسميته بـ"أفلام المهرجانات". نادرة جداً الأعمال التي تجمع بين الترفيه والعمق، تخاطب الجمهور العريض وهواة السينما في آن واحد. "سكة طويلة" من هذه الأفلام الجماهيرية القليلة المشغولة بإتقان التي تفتقدها الشاشة العربية، خصوصاً في ظل غياب الصناعة السينمائية، بحيث أصبح هذا الصنف حكراً على السينما الأميركية وبعض السينمات الأوروبية المجتهدة.  

فيلم "سكة طويلة" المعروض حالياً على "نتفليكس" للمخرج اللبناني المقيم في أميركا عمر نعيم، سعودي الإنتاج والحكاية والتصوير وكذلك المكان. عمر نعيم (ابن الممثلة والمسرحية نضال الأشقر والمخرج والإعلامي فؤاد نعيم)، ابن الثالثة والأربعين الذي صور قبل 18 عاماً "القطع الأخير" مع روبن وليامز. يومها، لم يكن تجاوز السابعة والعشرين. في "القطع الأخير"، حاول نعيم البحث عن خلود ما للبشر يمكن أن يتمثل في القرن الحادي والعشرين بالصورة التي تعوض الفقدان كما تمثل في ملحمة جلجامش التي سبقت عصرنا بعشبة الخلود. كل ذلك ابتدعه خيال مخرج درس السينما في الولايات المتحدة ليبتكر في فيلمه هذا شخصية رئيسية هي آلان هاكمان (وليامز)، مركّب الأفلام الذي يعيش في عالم بات 2 في المئة من الأشخاص يملكون ذاكرة رقمية، تُزرع لهم بطلب من أهلهم وتسجل بالصورة كل تفاصيل حياتهم.

 على الطريق

 

صحيح أن عمر نعيم بدأ في صناعة السينما في سن مبكرة، إلا أنه عاد واختفى من رادارات النقاد على رغم أنه قدّم أفلاماً عدة لم ترتق إلى المستوى السابق. وها إنه يطل عربياً هذه المرة، في عودة إلى المنطقة التي ولد فيها، مع هذا العمل الذي حمله إلى صحراء السعودية. بعد النص المعقد الذي قدمه في بداياته، يأتينا بفيلم بالغ البساطة، أقله في جانبه الذي يتجلى على الشاشة، مع العلم أن البساطة السينمائية في أحايين كثيرة تحتاج إلى الكثير من العمل لبلوغها. خطوة الانتقال من عمل متشعّب ورؤيوي يحمل الكثير من الغموض والتعقيد، إلى "فيلم طريق" (روود موفي) حيث الشخصيتان الأساسيتان تسلكان مساراً يتسم بالاستقامة، تذكّرنا بما فعله المخرج ديفيد لينتش في "قصة مستقيمة"، قافزاً من أفلامه السوريالية إلى فيلم كله شفافية وكأن الأمر يتعلق بمياه تبحث عن نهر تصب فيه.

 

فيلم آخر يجتاح الذاكرة ونحن نتابع أحداث "سكة طويلة". الفيلم المقصود هو "مبارزة"، ثاني الأعمال الروائية الطويلة لستيفن سبيلبرغ الذي يرينا رجلاً يتوجه بسيارته إلى موعد عمل، فتعرقله شاحنة تمشي ببطء شديد وينبعث منها الدخان المزعج. يقرر تخطيها من دون أن يتخيل للحظة أن هذا الفعل سيفضي به إلى مبارزة عنيفة وخطرة بينه وبين الشاحنة الغامضة، تستمر طوال الفيلم وتأخذ بُعداً غير متوقع. آتي على ذكر هذا الفيلم لأن أمراً مشابهاً يحدث لمريم وناصر (فاطمة البنوي وبراء عالم) في "سكة طويلة"، شقيقان يتوجهان بسيارتهما من الرياض إلى أبو ظبي لحضور حفلة عرس والدهما. فجأةً، يظهر خلفهما سائق سيارة رباعية الدفع، يجهلان هويته تماماً، ولا يكف عن مطاردتهما. ناصر الذي يقود السيارة يحاول تجنبه وقطع حبل الشر، لكن المحاولات تتكرر بشكل مستفز إلى أن يصبح واضحاً أن السائق يستهدفهما ويريد إلحاق الأذى بهما. السؤال الذي يلح في أول نصف ساعة: مَن يكون هذا الشخص الغامض الذي لا نرى وجهه بوضوح وماذا يريد منهما؟ يحمل النص حدثين متوازيين: أولاً السبق بين السيارتين الذي يتيح المجال للمخرج أن يقدّم مشاهد محملة بالثراء البصري وحركة لافتة، وثانياً التقارب الحميم بين الشقيق وشقيقته، اللذين شهدت علاقتهما بعضهما ببعض فتوراً بعد وفاة أمهما، وتشكّل الرحلة محاولة للنقاش وإعادة المياه إلى مجاريها. بيد أن ثمة سراً قديماً يتشاركانه ويعود إلى زمن طفولتهما، وهذا قد يوضح لماذا يوجد رجل يطاردهما وهما يتوجهان إلى عرس الوالد!

مشاهد مشوقة

 

من اللحظة الأولى حتى صعود جنريك النهاية، لا يتوقف الفيلم عن صناعة المفاجآت وتأجيل الكشف عن الغموض إلى أبعد أوان. ثمة مشاهد تحبس الأنفاس فعلاً، وهذا فن في ذاته، يعرف عمر نعيم كيف يبلوره لقطة بعد لقطة، بعناصر قليلة وإمكانات محدودة. القاعدة الكلاسيكية تؤمن أن أشياء مثل الخوف والتشويق والريبة تجد حضناً دافئاً لها في الليل والظلمة. لكن منذ "شمالاً إلى الشمال الغربي" لهيتشكوك نعلم جيداً أن التشويق قد يأتي بمفعول غير متوقع في وضح النهار إذا عرف المخرج كيف يمسك بالمشاهد، وكيف يقنعه، وكيف يضعه في فضاء جاهز للانفجار في أي لحظة. يوظف الفيلم الصحراء والبيئة السعودية والطريق التي لا نهاية لها، أفضل توظيف عرفه فيلم سعودي إلى الآن. قد لا يكون السيناريو مبتكراً أعلى درجات الابتكار، وقد لا تكون الأحداث جديدة لمَن شاهد مئات الأفلام الأميركية، لكن الجديد يتجسّد في ترتيب الأحداث في هذا المكان تحديداً، وتحويل الصحراء السعودية إلى بلاتو سينمائي يبرز جمالياتها، بعيداً كل البعد من الاستشراق والعين المنبهرة بما لا تعرفه وتكتشفه للتو. لا يوجد أدنى شك أن المكان، وهو شخصية في ذاتها، ألهم المخرج، فجاءت النتيجة على هذا القدر من الجودة. فعلى رغم مدة الفيلم التي تبلغ الساعة وثلث الساعة، لا تكرار ولا هبوط للإيقاع، بل تماسك مطلق. هناك دائماً شيء يتحضر في الأجواء ننتظره بحماسة. هذا على مستوى الحكاية، أما بصرياً فالكاميرا تجد باستمرار زوايا غير مستهلكة لنقل مسار الشقيقين نحو المجهول، بعدما قرر سائق السيارة الذهاب معهما إلى النهاية، على قاعدة "عليّ وعلى أعدائي". 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في عالم عربي غير معتاد وقليل الانفتاح على سينما النوع ("الجانر")، يتميز هذا الفيلم الذي يشهد على موهبة عمر نعيم في المجالات التي تتيح صناعة منتوج سينمائي بمعايير دولية يستحق الإشادة به. سواء على مستوى الكادرات أو التمثيل أو المونتاج، فنحن إزاء عمل تُرفع له القبعة. يشهد لعمر نعيم تفوقه على الصعيد التقني ولكن هذا لا يجعله يهمل البُعدين الإنساني والنفسي، مع العلم أن هذا الجانب ليس من أولويات نوع السينما الذي يقترحه. القصة ما هي سوى ذريعة لإنجاز فيلم ترفيهي جيد مشدود يفي بوعوده ويمجد المتعة البصرية، وهذا هو المطلوب منه. 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما