Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أصحاب القدرات الخاصة... درس إنساني من وحي "الخروج إلى النهار"

متخصصة نفسية: المجتمع يميل إلى رفض الاختلاف والسخرية منه أو محاربته... والثقافة تحتاج الكثير من التعديل والتوعية


رحمة خالد (23 عاماً) متعددة المواهب فهي بطلة سباحة وخريجة سياحة وعارضة أزياء وأخيراً مذيعة (خاص إندبندنت عربية)

تمشي الصغيرة (12 عاماً)، صاحبة القدرات الخاصة، مع والدتها في الشارع، فيمعن العاملون في المحلات النظر لملامح وجهها. بعضهم يمصمص شفتيه أسفاً على الصغيرة وعطفاً على الأم، والبعض الآخر يتبادل نظرات فيها كثير من السخرية وقليل من الاستحياء.

أسرة لديها ابن يعاني إعاقات حركية وذهنية. كلما جاءهم ضيف يسأل عن الأستاذ "حسين"، ربّ الأسرة، سأله البواب أي أستاذ "حسين" يقصد، من يسكن الطابق الثالث أم من لديه ابن "متخلف"؟.

يصعد شاب إلى عربة المترو مصطحباً شقيقه الأصغر المصاب بـ"متلازمة داون". لا يجد البعض حرجاً في إطالة النظر إليهما، والتعليق على طريقة كلام الأخ الأصغر، بل وسؤال الشاب عن سبب "تخلّف" شقيقه!

في الوقت نفسه، تظهر الغالبية تعاطفاً شديداً واستعداداً حقيقياً للمساعدة ورغبة فعلية في معرفة أبعاد "القدرات الخاصة" أو "الإعاقات"، حتى لو سماها البعض "تخلفاً".

يشير قاموس المعاني إلى أن كلمة "متخلّف" تعني "تأخر النمو الإدراكي". وهذه حقيقة مجتمعية تبدو واضحة حين تنمو وصمة الإعاقة وتتضخم وتتوغل لتدفع الأب إلى حبس ابنتيه المعاقتين مدّة 20 سنة، في مكان مخصص لتربية الدواجن في مصر. وآخر يحبس ابنته المعاقة أيضا في قفص حديدي 16 عاماً في كينيا، وثالث يحتجز ابنه المعاق لمدة 20 عاماً في غرفة مظلمة، ورابع يحبس ابنته المعاقة 28 سنة في البيت في باكستان، وخامس يحتجز ابنه المعاق 20 عاماً في قبو في الأردن. وقصص "وأد" الأبناء والبنات من المعاقين، لا سيما ذهنياً، في مخازن تحت الأرض وغرف مغلقة حتى يموتوا، كثيرة جداً.

لكن كثيرة جداً أيضا نقاط الضوء وإن ظلّت فردية، وأمارات الخلاص من الوصمة وإن بقيت قليلة، لكن نجاحاتها تبقى ملهمة وتكرارها يلوح في الأفق. رحمة خالد (23 عاماً)، بطلة سباحة وخريجة سياحة وعارضة أزياء وأخيراً مذيعة. والمستقبل ينتظرها فاتحاً ذراعيه. رحمة منذ صغرها تحلم بأن تكون مذيعة. والدتها السيدة "أمل عطيفة" لم تفعل مثل الغالبية من بقية الأمهات ممن هن في مثل موقفها. لم تذرف الدمع تعاطفاً مع حلم الصغيرة الذي يصعب، وربما يستحيل، أن يتحقق. ولم تحاول أن تقنعها بأن تعدل دفة الأحلام أو تغيّر وجهة الآمال حتى تكون أكثر واقعية. الأم فعلت العكس تماماً. ضاعفت من حجم دعم الصغيرة وتشجيعها ودفعها نحو الحلم.

حلم "رحمة" متعدد الأبعاد تبلور في فوزها ببطولات محلية وإقليمية ودولية وبارليمبية في مجال السباحة. ومنها إلى التخرج في معهد السياحة والفنادق، ثم خوض مضمار عروض الأزياء، مستقرة كمذيعة في أحد أشهر وأكبر برامج "التوك شو" الصباحية، وهو "8 الصبح" المذاع على شاشة "دي إم سي" المصرية، لتكون أول مذيعة من صاحبات القدرات الخاصة، إذ إنها من المصابات بـ"متلازمة داون".

تقول والدتها السيدة أمل عطيفة، وهي تعتبر في نظر كثيرين أمّاً ملهمة وصاحبة القدرة على إثبات أن طموح أصحاب القدرات الخاصة لا سقف له إلا ثقافة المجتمع المقيدة والمحجمة، إنها أعطت "رحمة" منذ صغرها ما ينبغي أن تعطيه كل أمّ لابنها أو ابنتها. "لم أدع نفسي أصدق ما يقوله المحيطون من أن طفل (متلازمة داون) له حد أقصى من المعرفة والتعلم والطموح. ولم أطرق الطريق السهل، حيث أستعين بخدمات مربية أو مدرسة داخلية لأتخلص من عبء رعاية طفل له احتياجات خاصة. وعلى الرغم من أنني استعنت بمعلمين في البيت ليشرحوا لـ(رحمة) ما يصعب عليها فهمه وقت كانت في المدرسة، لكنني كنت أتابع معها بعد ذلك مراحل المذاكرة بنفسي. وكنت أصطحبها للتمارين الرياضية من سباحة وتنس طاولة، وألازمها بهدف دعمها وطمأنتها".

صحيح أن الظروف المادية والاجتماعية التي ولدت فيها "رحمة" مكنتها من الحصول على تعليم وتنشئة ورعاية بالغة الجودة، لكن والدتها ترفض تماماً تعليق قلة الرعاية، التي يبررها البعض من الأهل بضيق ذات اليد وقلة الموارد المتاحة لدعم الابن صاحب القدرات الخاصة. تقول "ليس مطلوبا من كل صاحب قدرات خاصة أن يكون بطلاً رياضياً أو مذيعاً، لكن المطلوب أن يحظى كل صاحب قدرات خاصة بالدعم الأسري والحب والدفء والاحترام داخل أسرته، ومن ثم داخل المجتمع كله".

"شمّاعة" الفقر يستخدمها البعض من الآباء والأمهات المصريين الذين يتعاملون مع وجود ابن أو ابنة من ذوي القدرات الخاصة وكأن الصغير ميّت. لا رعاية أو عطف أو مودة أو تعامل باعتباره فرداً من أفراد الأسرة. "لا الحضن أو القبلة أو الرحمة مكلفة. العكس هو الصحيح، ولنعتبرها استثمارا في الصغير صاحب القدرات الخاصة".

صاحب القدرات الخاصة يعاني في أغلب الأحوال، ليس فقط من "شمّاعة" الفقر، لكنه يجد نفسه كذلك موصوماً منذ الولادة. وصمة الإعاقة، لا سيما الذهنية، سائدة وشائعة. الأبّ الذي يقيد ابنه المعاق ذهنياً في الأريكة لسنوات طويلة، والأم التي تمتنع عن زيارة أو استقبال الأهل والجيران خوفاً أو حرجاً من نظرات الاستهجان لابنها أو ابنتها نماذج منتشرة في المجتمع المصري.

"سماء" أم لأربعة أبناء أصغرهم ولد مصاباً بإعاقة ذهنية. ولأن شكله وتصرفاته مصنفة مجتمعياً بـ"الغريبة"، قررت أن تغلق بابها على نفسها وأولادها حقناً للحرج ومنعاً للشماتة. تقول "بعض أقاربي لا يعرفون أن لدي ابناً معاقا من الأصل. يتصورون أنني غير اجتماعية أو أنني قررت مقاطعتهم. في البداية حين كبر ابني وأصبح في سن الثالثة، كنت أصطحبه لشراء احيتاجات البيت، لكن نظرات الناس في الشارع وتعليقات الأطفال جعلتني تدريجياً أقرر عدم اصطحابه".

وتشير "سماء" إلى أن القرار القاطع بعدم نزوله إلى الشارع جاء حين عرفت من إحدى جاراتها أن البعض من الجارات يروجن لفكرة أن "ابنها يتصرف ويبدو هكذا لأن روحاً شريرة أو شيطانا يسكن جسده".

الموروث الشعبي السائد في الكثير من الثقافات الشعبية العربية والشرقية يشير إلى أن المعاق الذهني إما شيطان في صورة إنسان، أو "بركة" تحلّ على البيت وأهله. تقول متخصصة العلاج النفسي، نجلاء نجيب، إن المجتمع بوجه عام يميل إلى الوصم والتنمر بكل ما هو مختلف، "اللون الأسود، المرأة، الشعر المجعد، المطلقة، السمنة، وأيضاً أصحاب القدرات الخاصة. هي ثقافة تحتاج الكثير من التعديل والتوعية والتعليم منذ الصغر. نحن نميل عموماً إلى رفض الاختلاف والسخرية منه أو محاربته".

وتشير نجيب إلى أن الوضع يتفاقم في حال وجود ابن أو ابنة من أصحاب القدرات الذهنية الخاصة، "لأن كلاً منا يريد أن يرى ابنه الأحسن والأفضل والأذكي والأنجح، لذا حين يفاجأ بأن صغيره مختلف، يميل كثيرون إلى حجبه عن الأنظار، أو الشعور بالحرج من شكله وتصرفاته، أو الاضطرار إلى تبرير اختلافه، وكأن اختلافه ذنب يستوجب الاعتذار أو الشرح".

وتلوم نجيب على بعض الأعمال الدرامية التي تقدم نماذج للمرض النفسي أو العقلي، و"بدلاً من أن تسهم هذه النماذج في توضيح الصورة وتصحيح المفاهيم الخاطئة، تكون كمن (كحّلها فعماها). ينتج عن بعض هذه الأعمال قدر أكبر من ترهيب الناس من المرض العقلي أو الذهني. ويغرق البعض الآخر في الإفراط في مشاعر التعاطف التي تسيئ كذلك وتجرح كلاً من الأهل والابن".

وترى نجيب أن النموذج الأمثل للتعامل مع الابن صاحب القدرات الذهنية الخاصة هو اعتباره فرداً من أفراد الأسرة بكل بساطة. "بالطبع يحتاج قدراً أكبر من العناية والرعاية، لكن التعامل معه باعتباره فرداً من الأسرة على القدر نفسه من الأهمية. فذلك يمدّه بالإحساس بالانتماء لأسرة تحبه وتدعمه، وتجعله يشعر بآدميته التي ربما يهدرها قطاع من المجتمع. وتضيف "الدراما الجيدة تعلّم الشعوب القبول، قبول بعضهم البعض باختلافاتهم حلوها ومرها".

وترى نجيب أن ظهور المذيعة رحمة خالد على شاشات التلفزيون أمر بالغ الإيجابية "بمرور الوقت سيعتاد المشاهدون فطرة أن بيننا مصابين بمتلازمة داون، وأنهم ليسوا كائنات فضائية، أو شياطين، أو حتى بركة. هم أفراد لهم قدرات مختلفة وعندهم طموحات ولديهم نقاط ضعف وقوة مثلهم مثل الجميع".

وترى نجيب أن "على الأسر أن تعي أن خروج ابنهم إلى الدنيا متمتعاً بصحة جسدية وعقلية جيدة ليس بفضل منهم أو شطارة، وكذلك خروجه مريضاً ليس خطأ منهم إلا لو كانوا أتوا بأفعال أو تصرفات أدت إلى ذلك".

تقول والدة رحمة، المذيعة والبطلة الرياضية وعارضة الأزياء صاحبة متلازمة داون، إن "رحمة وغيرها من الأبناء والبنات ليسوا عقاباً أو مكافأة. هم أبناء علينا حبهم ورعايتهم ودعمهم قدر المستطاع. ولو كنت استسلمت لما سمعته حولي وقت كانت رحمة صغيرة، لصدقت أن قدراتها محدودة ولن تتمكن من التعليم أو ممارسة الرياضة وأن قدراتها لها سقف لا يمكن أن تتعداه".

تقول "أبناؤنا يثبتون لنا كل يوم أننا لا نعرف الكثير عن قدراتهم. ما زلنا نتعلم وما زالوا يعلموننا".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات