أجرى النظام السوري تغييرات جوهرية في قيادة الأجهزة الأمنية في البلاد، وتحديداً في رئاسة الشُعب الأمنية الأربع الأكثر حساسية، الأمن العسكري والأمن السياسي، إلى جانب شعبتي المخابرات العامة والجوية، والتي تعتبر الذراع التنفيذية لحكم النظام السوري، وعلى المستويات كافة. فهذه الأجهزة الأربعة، إلى جانب تسعة أجهزة أمنية أخرى، تتحكم بتفاصيل الحياة العامة السورية، وازداد دورها بشكل ملحوظ خلال السنوات الثماني الأخيرة، لأنها اعتبرت نفسها الطرف الحقيقي والوحيد الذي حافظ على بقاء النظام السوري.
دلالتان مباشرتان
مراقبون على دراية بتفاصيل هيكليات الأجهزة الأمنية السورية وعلاقاتها وارتباطاتها الداخلية والخارجية، أكدوا لـ"اندبندنت عربية" أن كل التغييرات التي حصلت أنما كانت بتوجيه وإشراف روسيين مباشرين، وأن رأس النظام السوري يخوض مفاوضات مُضنية مع الطرف الروسي منذ قرابة الأسبوعين، إلا أنه لم يتمكن من الصمود في وجه المطالب الروسية، ولذا أصدر قراراته الأخيرة، بالذات في ما يخص ترقية اللواء ديب زيتون، الرئيس الأسبق لشعبة المخابرات العامة السورية (أمن الدولة)، والضابط المُقرب من المستشارين والضباط الروس. فالقرار الجديد نص على تولي زيتون منصب "مكتب الأمن القومي"، خلافاً للضابط النافذ علي مملوك. حيث أن هذا المكتب هو بمثابة الخلية المركزية التي تتحكم بالأجهزة الأمنية السورية وينسق في ما بينها، ويربطها بالقصر الجمهوري.
كذلك رأى المراقبون أن هذه التغييرات في الأجهزة الأمنية السورية أنما ذات دلالات سياسية واضحة، تؤشر إلى تبدلات في مواقف النظام السوري من أزمة البلاد. فهي أتت بعد يوم فحسب من الزيارة المفاجئة لوزير الخارجية العُماني يوسف بن علوي، الذي تشكل بلاده نقطة تفاوض ولقاء بين مختلف الخصوم السياسيين في المنطقة، وتشكل خلية تفاوض غير معلنة بين هذه الدول. كذلك فإنها صدرت بعد تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عقب لقائه الأخير بالمبعوث الأممي لسوريا غير بيدرسن يوم الأربعاء الماضي، إذ نقلت صحيفة "كوميرسانت" الروسية عن لافروف قوله إن روسيا توصلت إلى حل وسط بين سوريا والأمم المُتحدة بشأن اللجنة الدستورية السورية، وأن هذه اللجنة ستأخذ مسارها، بعدما أُعيقت لستة أشهر.
على أن الدلالة الأبرز للتغيير السياسي الواقف وراء هذه القرارات، هو التسريبات المتطابقة التي قالت إن الأسد سيُصدر خلال الساعات المقبلة قراراً بتعيين اللواء علي مملوك، المدير السابق لمكتب الأمن القومي، نائباً له. هذا الأمر الذي قد يفتح مجالاً لدخول النظام السوري في مساومات مع القوى الإقليمية والدولية، وحتى مع أطراف مع المعارضة السورية. فالمملوك طوال سنوات رئاسته لمكتب الأمن القومي، كان يقود شبكات تفاوض النظام السوري غير الرسمية، التي يبدو أنها ستخرج إلى العلن مع تعيين مملوك نائباً للأسد.
إخراج الأمن الجوي من جعبة إيران
التغيير الأبرز طال رئيس شعبة المخابرات الجوية السورية اللواء جميل الحسن، الذي كان يُعتبر من أكثر الضباط الأمنيين السوريين قرباً من النفوذ الإيراني، إلى جانب كونه مترئساً لأكثر الأجهزة الأمنية السورية عنفاً ودموية تجاه القوى المدنية السورية المنتفضة.
استبدال اللواء الحسن بنائبه غسان جودت إسماعيل يعتبر ضربة روسية قاصمة. فشعبة المخابرات الجوية كانت الأكثر عصياناً على الروس على الدوام، بعدما سيطرت روسيا على قيادة أركان الجيش وشعبتي المخابرات العامة والسياسية، بقيت شُعبتا الأمن العسكري والجوي قريبتين من النفوذ الإيراني.
تقول المعلومات إن الحسن كان موعوداً قبل إطاحته، إلا أن عقدة المنشار حول مصيره توقفت على مسألتين جوهريتين، الأولى تعلقت برفضه إدماج الفيلق الخامس في كيان الفرق النظامية للجيش السوري. فالحسن كان يصر على أن هذا الفيلق الذي أسسته روسيا في أواخر عام 2016 أنما هو منصة للنفوذ الروسي على كافة الفرق العسكرية السورية النظامية. خصوصاً أن هذا الفيلق مكون بالأساس من آلاف المتطوعين، الذين كانت روسيا تسعى عبرهم لمنافسة الفصائل غير النظامية التي شكلتها إيران في مختلف المناطق السورية.
كذلك فإن الحسن لم يوافق على الطرح المقدم لتقليص الوجود الإيراني في بعض المناطق السورية، خصوصاً الجنوبية منها. معتبراً أن أي تحرك في ذلك الاتجاه سيدفع بالنظام مباشرة إلى الدخول في صفقة سياسية مع القوى السياسية السورية الأخرى، فالتأييد الإيراني وحده المطلق للنظام السوري بحسب رؤية اللواء الحسن.
مصادر مطلعة أشارت إلى تدهور صحة الحسن خلال الشهور الأخيرة، وأن عملية استبعاده تمت منذ أواخر العام الماضي، فجميع الضباط التنفيذيين ضمن شعبته كانت توسَّع صلاحياتهم وتكليفاتهم على حساب نفوذ الحسن، وأنه كان عاجزاً على ممانعة ذلك.
مناقلات دقيقة
إضافة إلى التغييرات الثلاثة الرئيسية، المتعلقة بمملوك وزيتون والحسن، فإن باقي الترتيب الذي أصدره الأسد اليوم كان في السياق ذاته، الذي يسعى لتكون الأجهزة الأمنية السورية قريبة من روسيا، وتستبعد الضباط النافذين طوال فترة الحرب. إذ عين الأسد اللواء حسام لوقا، الرئيس الأسبق لشعبة الأمن السياسي، رئيساً جديداً لشعبة المخابرات العامة، خلفاً للواء ديب زيتون، الذي أصبح رئيساً لمكتب الأمن القومي، كذلك عين اللواء ناصر العلي، النائب السابق للوقا، ليتولى منصبه في رئاسة شعبة الأمن السياسي. كذلك فإن الأسد عين الطبيب العميد علي حسن تُركماني، مستشاراً أمنياً في القصر الجمهوري. وتُركماني هو نجل حسن تُركماني، وزير الدفاع السوري الأسبق ورئيس خلية الأزمة السورية التي تم تفجيرها في صيف عام 2012. وعُرف عن العميد المُعين قيامه بمهام سياسية ودبلوماسية غير معلنة، وهو معروف بشدة قربه من النفوذ الروسي.
المراقبون أشاروا إلى أن الأسد تقصد خلق توازن طائفي سُني علوي في شبكة المناقلات الأمنية الحالية، خصوصاً ضمن الشعب الأربع الأكثر نفوذاً، لكنهم أضافوا أن ذلك لا يعني أن هذه الأجهزة تختلف فيها درجات الولاء للأسد.