Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خصخصة الشركات العامة صداع مؤلم للحكومات التونسية

صندوق النقد الدولي أفاد بأن الحكومة عبرت عن رغبتها في هذا التحول

مناصرون لاتحاد الشغل يرفعون لافتات خلال تظاهرة بالعاصمة التونسية، في 16 يونيو الماضي (أ ف ب)

عاد الجدل المحتدم حول خصخصة الشركات الحكومية إلى واجهة الأحداث على الساحتين الاقتصادية والسياسية في تونس وذلك إثر تصريحات الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل (أكبر منظمة نقابية في البلاد) نورالدين الطبوبي التي كشف فيها عن مخطط حكومة نجلاء بودن للشروع في خصخصة أو "التفويت" على حد تعبيره بـثلاث شركات حكومية وهي بنك الإسكان ووكالة التبغ والوقيد وأجزاء من أكبر ميناء في تونس.
وأعادت تصريحات الطبوبي النقاش الحاد والمستمر منذ ما لا يقل عن 10 أعوام في شأن ملف خصخصة الشركات الحكومية في تونس، بخاصة الشركات التي تعاني صعوبات مالية جمة في حين أن موازنة البلاد لم تعد قادرة على ضخ الأموال لمواصلة نشاطها.
وتعالت أصوات المتخصصين وأساتذة الاقتصاد وعدد من الأحزاب بوجوب إنهاء هذا الملف الذي أرهق جل الحكومات المتعاقبة بعد عام 2011، لا سيما أن وضعية هذه الشركات زادت سوءاً وأضحت عبئاً ثقيلاً على موازنة البلاد، بينما اعتبر "اتحاد الشغل" في مرحلة أولى أن خصخصتها خط أحمر ثم انفتح على إصلاحها "حالة بحالة" في مرحلة ثانية.

صداع مزمن وإرث ثقيل

شكل إصلاح المؤسسات العمومية صداعاً مزمناً للحكومات التونسية المتعاقبة ويعد من أهم الملفات المتشعبة التي تخوض فيها حواراً مزدوجاً، الأول مع "اتحاد الشغل" والثاني مع "صندوق النقد الدولي"، إذ عبّر الأول عن تحفظه الشديد بسبب ما يرى أنه "نية للتفويت في الشركات المملوكة من قبل الدولة"، بينما يشترط صندوق النقد على الحكومة إجراء إصلاحات للحصول على برنامج تمويلي جديد.
من جهتها نفت رئيسة الحكومة التونسية نجلاء بودن في مايو (أيار) الماضي وجود نية للخصخصة في المؤسسات العمومية، مشيرة إلى أنها ستحظى ببرنامج إصلاح هيكلي، لكنها لفتت إلى "المؤسسات ذات الطابع الاستراتيجي التي ستخضع لعمليات إعادة تدقيق بعدما بات من الضروري إصلاحها لدورها المحوري في تنفيذ السياسات الاقتصادية والاجتماعية للدولة".
وأفادت بودن بأنه "من أولويات الحكومة تحسين نجاعة القطاع العمومي من خلال إصلاح الوظيفة العمومية ورقمنة الإدارة وتحديثها وإحكام التصرف بالموارد البشرية، إضافة إلى تطوير منظومة التأجير لتحفيز الكفاءات ودعم الإنتاجية وهي الإصلاحات التي ضمنتها الحكومة في الوثيقة الموجهة إلى صندوق النقد الدولي وتأمل من خلالها الحصول على برنامج تمويل جديد".

وحصلت تونس في منتصف أكتوبر (تشرين الأول) على اتفاق مبدئي على مستوى الخبراء من "صندوق النقد الدولي" لقرض بقيمة 1.9 مليار دولار يسدد على أربع سنوات شريطة التزام الحكومة الحالية جملة إصلاحات جوهرية في مقدمتها إصلاح الشركات الحكومية.

رفض وصمود

وقال الطبوبي إن "الحكومة تعهدت لصندوق النقد بالتفويت في بنك الإسكان ووكالة التبغ والوقيد وبعض الأرصفة من ميناء رادس"، متهماً في تصريح إعلامي الحكومة بـ"المغالطة" في علاقة بملفي "التفويت ورفع الدعم" ومشدداً على أن "الاتحاد سيواصل نضاله ضد برنامج الحكومة الخاص بالملفين المذكورين" وأن ذلك يعتبر "معركة مجتمعية بالنسبة إلى الاتحاد"، وأضاف الطبوبي أن "اتحاد الشغل مصر على اعتبار هذه المسائل خطوطاً حمراء، بخاصة التفويت في المؤسسات العمومية ومراجعة منظومة الدعم بالشكل المطروح من قبل الحكومة".

ويرى متخصصون أن "التفويت" في بنك الإسكان ووكالة التبغ والوقيد سيدر على خزانة الدولة أموالاً بقيمة 9 مليارات دينار (حوالى 2.9 مليار دولار) ستخصص لسد عجز الموازنة.

تونس أبدت رغبتها في الخصخصة

يذكر أن ما ألهب الجدل في شأن خصخصة الشركات الحكومية كان تصريح مديرة صندوق النقد الدولي كريستينا جورجيفا التي كشفت عن أن الحكومة التونسية هي من أبدت رغبتها في عملية الخصخصة وأن الأمر لم يكن مفروضاً من الصندوق.

وأقرت جورجيفا بأن الاتفاق مع تونس كان "النقطة المضيئة" مؤكدة أن "البلاد استحقت هذا القرض بفضل برنامجها" وأشارت في لقاء تلفزيوني خاص إلى أن القيمين على الصندوق كانوا "يتطلعون إلى أن تعمل تونس على خصخصة بعض المؤسسات، لكن المبادرة جاءت من الجانب التونسي، إذ أبدى رغبته في خصخصة بعض المؤسسات العمومية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


مديونية مفرطة

وتنامت مديونية الشركات الحكومية (111 مؤسسة) بنسبة 8.2 في المئة في الفترة الممتدة بين عامي 2018 و2020 وفق ما أفصحت وزارة المالية بسبب تفاقم العجز المالي في ثلاث مؤسسات هي الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية وشركة نقل تونس وشركة الخطوط التونسية.
وتعد تلك الشركات الثلاث مسؤولة عن 71 في المئة من هذه الزيادة تقريباً، بحيث بلغت ديون الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية 180 مليون دينار (60 مليون دولار) وشركة نقل تونس 107 ملايين دينار (35.6 مليون دولار) والخطوط التونسية 64 مليون دينار (21.33 مليون دولار).
وتمثل الديون الجبائية بمفردها 41 في المئة من الديون المستحقة على المؤسسات العمومية للدولة، إذ بلغت 2.7 مليار دينار (900 مليون دولار) عام 2020.
وعلاوة على ذلك ارتفعت مديونية المؤسسات العمومية إلى 6.5 مليار دينار (2.16 مليار دولار) في 2020 بزيادة 8.2 في المئة مقارنة بـ6 مليارات دينار (مليارا دولار) في 2019، وتعاني شركات عدة على رأسها الخطوط الجوية التونسية وشركة فوسفات قفصة سوء الإدارة وتردي الحوكمة وضعف الاستثمار وركوده وزيادة نسبة الديون.
وفي المجمل تعاني معظم الشركات الحكومية العمومية من مديونية مفرطة وعجزت كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة عن معالجة هذا الملف، نظراً إلى صعوبة المفاوضات مع الاتحاد العام التونسي للشغل الذي ينظر بريبة إلى التعامل الحكومي مع هذا الملف وخشيته من "التفويت" في تلك المؤسسات التي اعتبرها "من مقدرات الشعب التونسي" لمصلحة القطاع الخاص وتبعات ذلك على نظام العمل والأجور.

الشركات ذات الإسهامات الضعيفة

واقترح أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسية رضا الشكندالي أن "يقع ضمن مشروع قانون المالية لعام 2023 إقرار اجراءات بالنسبة إلى المؤسسات العمومية تتمثل في التفويت في المؤسسات ذات الإسهام الضعيف جداً للدولة".
أما بالنسبة إلى المؤسسات الاستراتيجية الأخرى، فاقترح "إعادة حوكمتها لتحسين جودة خدماتها حتى تكون المؤسسة في أفضل حالاتها الاقتصادية وتدر الأرباح في حال التفكير بخصخصتها لاحقاً أو بيع جزء منها".

لا للتكتم

وانتقد الشكندالي بشدة "تكتم الحكومة على برنامج إصلاح المؤسسات الحكومية، مما أثار مخاوف الاتحاد العام التونسي للشغل"، مؤكداً أن "القلق على مصير آلاف الموظفين ربما يدفع النقابات إلى الاحتجاج ويهدد السلم الاجتماعي"، وقال إن "بيع أصول الشركات الحكومية يجب أن يكون مصحوباً ببرنامج يضمن حقوق الموظفين، سواء بالاتفاق مع المشتري على تعويضهم مالياً أو عدم تسريحهم أو إعادة تشغيلهم في مؤسسات أخرى"، لافتاً إلى أن "النقابات ستلجأ إلى كل الوسائل من أجل الدفاع عن حقوق منتسبيها"، وأضاف أن "غياب هذه الضمانات وعدم التفاوض مع الاتحاد العام التونسي للشغل في شأن خطة التفويت قد يقوض عملية الإصلاح برمتها".

 ووفق الشكندالي فإن "إدارة السلطات لملف المؤسسات الحكومية تتضمن أخطاء عدة منها اختيار المؤسسات المزمع بيعها وطريقة التفويت فيها"، معتبراً أنه "من غير المجزي بيع أصول مؤسسات تعاني صعوبات مالية وسوء حوكمة" وأضاف أن "بنك الإسكان الذي تنوي الحكومة التفويت في أصوله يحقق أرباحاً جيدة بعد عملية الهيكلة التي خضع لها عام 2017، في المقابل تواصل تونس الاحتفاظ بمؤسسات أخرى تتلقى دعماً حكومياً مما يثقل كاهل المالية العامة".

لا يحق لاتحاد الشغل أن يأخذ المؤسسات العامة رهينة

في المقابل عبر رئيس الجمعية التونسية للحوكمة معز الجودي عن رفضه التام لموقف الاتحاد العام التونسي للشغل الرافض لخصخصة المؤسسات العمومية وقال "لا يحق لاتحاد الشغل أن يأخذ المؤسسات العمومية رهينة بين يديه"، مشدداً على أن "هذه المؤسسات هي ملك للدولة وليس للاتحاد".
وانتقد شعار "لا للخصخصة" الذي يرفعه الاتحاد مبيناً أنها "ليست عيباً إذا ما تمت بطريقة مدروسة وهي إجراء معمول به في كل بلدان العالم".
وتحدث عن شركة الخطوط التونسية داعياً إلى "عدم مواصلة سياسة الهروب إلى الأمام" وقال إنه ضد بيع هذه الشركة في الوقت الراهن، موضحاً أنه "لو تم عرض الخطوط التونسية للبيع بالدينار الرمزي في الوقت الراهن، فلن تقدم أي جهة على اقتنائها"، علماً أن جودي كان شدد مراراً على ضرورة بيع بعض المؤسسات المفلسة التي تكبد الدولة خسائر فادحة وتضطرها إلى الاستدانة.

في المحصلة يتواصل نزيف الخسائر الذي يتكبده الاقتصاد التونسي في ظل غياب التوافق بين الحكومة والأطراف الاجتماعية حول الملفات الاقتصادية الحارقة من ضمنها "التفويت في الشركات الحكومية" الذي يظل "ضرساً مسوساً" ينخر التوازنات المالية.