Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل الحرب حل مناسب لمشكلات أميركا الاقتصادية؟

يمر العالم بركود جيوسياسي سيخلق أزمات عالمية لكن الترابط قد يمنع الصراع

الكونغرس يضخ عادة مزيداً من المليارات حال انخراط أميركا في الحرب بشكل مباشر أو لمساعدة الحلفاء حول العالم كما يحدث لدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا (رويترز)

من المعتقدات الراسخة في العصر الحديث أن الحرب والإنفاق العسكري المرتبط بها تخلق نتائج اقتصادية إيجابية للاقتصاد الأميركي، وهو ما تدعمه استطلاعات الرأي العام في الولايات المتحدة خلال السنوات العشر الأخيرة، كما تدعمه بعض المراجعات التاريخية، وإن كانت تقارير بحثية أخرى تدحض ذلك، لكن حال الركود التي تهدد الاقتصاد الأميركي والتضخم والاستقطاب الداخلي الحاد بين الليبراليين والمحافظين وحال الركود الجيوسياسي الدولية ستخلق صدمات وأزمات خطيرة لم يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، بخاصة مع استمرار الحرب في أوكرانيا والتوترات العسكرية حول تايوان، مما قد يشجع أنصار الحرب في واشنطن على المواجهة والاستفادة من المكاسب الاقتصادية وتوحيد الجبهة الداخلية، فهل يمكن أن يتحقق ذلك أم أن أنصار السلام ستكون لهم الغلبة؟  

فوائد الحروب

على رغم أن الانخراط في الحروب وتعزيز الإنفاق العسكري والدفاعي يمثل أهمية بالغة في توفير الأمن للولايات المتحدة وكذلك المساعدة على دعم وحماية حلفائها الدوليين، فإنها تولد أيضاً بعض الفوائد الاقتصادية الإيجابية من خلال تعزيز النمو الاقتصادي، والحد من البطالة عبر تشغيل ملايين من العمال والموظفين، والمساهمة في توزيع الدخل والثروة بشكل أكثر عدالة في المجتمع، كما يمكن أن تكون الحرب مصدراً مهماً للطلب الاقتصادي في أوقات عدم الثقة والانكماش، فضلاً عن أنها تؤدي إلى تطوير تقنيات ومبتكرات جديدة، وتوليد صناعات متطورة تخلق تأثيراً مضاعفاً حينما تتدفق بعد ذلك إلى الصناعات المدنية الأخرى.

وبينما أنفقت الحكومة الأميركية 722 مليار دولار عام 2022 على ميزانيتها الدفاعية، كما حصلت وزارة الدفاع من الكونغرس على 1.94 تريليون دولار موزعة على فروعها الستة، للإنفاق على التزاماتها المالية وفقاً لموقع الإنفاق الحكومي، إلا أن الكونغرس يضخ عادة مزيداً من المليارات حال انخراط أميركا في الحرب بشكل مباشر أو لمساعدة حلفاء واشنطن حول العالم، كما يحدث حالياً لدعم أوكرانيا في حربها ضد روسيا.

تغيير للأفضل

وبحسب موقع "بارونز" الأميركي، يمكن من رحم أهوال الحرب أن يولد التغيير الذي يجعل العالم مكاناً أفضل، فقد كانت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) حمام دم استمر أربع سنوات في كل ركن من أركان العالم تقريباً، وخلفت 40 مليون قتيل أو جريح ودمرت معظم أوروبا، وساعد السلام الذي فرض على ألمانيا بعد هزيمتها في زرع بذور التضخم المفرط في عشرينيات القرن الماضي، وصعود النازيين، واندلاع الحرب العالمية الثانية الأكثر تدميراً وفتكاً، ومع ذلك، يصف البعض هذه النتيجة بأنها مثمرة جداً. ويقول إيان موريس المؤرخ ومؤلف كتاب "الحرب والصراع وتقدم الحضارة"، إن الدليل على النتائج المثمرة يبدو جلياً في إنشاء أول نظام عالمي حقيقي، وتراجع معدلات الموت العنيف مقارنة بأي وقت مضى، وتوافر ثروة أعلى مما كانت في السابق.

وعلى رغم اعترافه بأن لا أحد يستطيع إعادة الموتى أو استعادة الصحة لجرحى الحرب، فإن الهياكل المادية للحياة من طرق ومصانع ومدن يمكن إعادة بنائها، بل وتحسينها، كما أنه خلال السعي إلى تحقيق السلام يميل الناس بعد الحرب إلى دعم الحكومات التي يمكنها فرض أنظمة تكامل أكبر، والتوصل إلى معاهدات واتفاقيات تجارية وكيانات مثل الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو".

لكن اليوم، أصبح النظام العالمي الذي تطور بعد سقوط الستار الحديدي عام 1989 مهدداً بحرب أوروبية أخرى مع اقتراب الهجوم الروسي على أوكرانيا من شهره التاسع، وتصاعد الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين والتوترات العسكرية في بحر الصين الشرقي والجنوبي، كما تتعرض الثروة للهجوم بسبب الاضطرابات الاقتصادية التي غالباً ما تصاحب الحرب، من تضخم مرتفع، وركود عالمي وشيك، فما الذي يمكن أن نتوقعه في المستقبل؟

دروس التاريخ

قد يكون من المفيد التمعن في دروس التاريخ لإلقاء نظرة على أهم الصراعات الأميركية السابقة من أجل فهم طبيعة ونتائج الحروب وتأثيرها في الاقتصاد الأميركي، مما يؤشر إلى ما يمكن أن يحدث في المستقبل.

كانت الحرب الأهلية الأميركية (1861-1865) كارثة بين الأشقاء، لعب فيها التضخم المفرط دوراً مميتاً وحاسماً، ففي عام 1860 كان 90 في المئة من الإنتاج الصناعي لأميركا يأتي من الولايات الشمالية، مما اضطر ولايات الجنوب التي تريد شراء السلاح والملابس والطعام إلى طبع دولارات خاصة بالجنوب، لكن بحلول عام 1863 ارتفع التضخم إلى أكثر من 300 في المئة، وأصبح دولار الجنوب بلا قيمة، مما أسهم في انتصار القدرة التصنيعية الفائقة للشماليين على جيش المتمردين الجنوبيين.

لكن على رغم مقتل أكثر من 620000 عسكري (وهو ما يعادل خسارة أميركا في جميع حروبها الأخرى مجتمعة)، وتدمير ولايات الجنوب، فإن الحرب أوجدت حكومة مركزية أقوى عززت الروابط بين الولايات، وساعدت إعادة بناء الجنوب في خلق عصر أميركا الذهبي، إذ حقق كثيرون ثروات هائلة في عالم الرأسمالية المبكرة مثل كورنليوس فاندربيلت، وجي بي مورغان، وشيدت خطوط السكك الحديدية عبر الولايات، مما أسهم في تسهيل وتعزيز التجارة ومنح الأميركيين وسائل تنقل جديدة ويسيرة، كما أسس مناخ ما بعد الحرب لانطلاق الثورة الصناعية الأميركية التي بدأت عام 1870 حتى عام 1914، عشية الحرب العالمية الأولى.

تأثير الحروب العظمى

ونجت الولايات المتحدة من أي معركة على أراضيها خلال الحرب العالمية الأولى التي فقدت فيها أكثر من 100000 أميركي، وشهدت البلاد تضخماً يزيد على 10 في المئة من 1917 إلى 1920، أعقبه كساد اقتصادي خلال العامين التاليين، لكن كما تبعت العصر الذهبي الحرب الأهلية، خرجت الولايات المتحدة أكثر قوة من رماد الحرب العظمى، فقد كانت بمثابة سلة خبز لأوروبا خلال الحرب وبعدها، كما كانت القوة الصناعية الأولى في العالم، ومن خلال تسخير مبادئ هنري فورد للإنتاج الضخم أنتجت المصانع الأميركية ابتكارات حديثة بأعداد وفيرة مثل السيارات والطائرات والثلاجات وأجهزة الراديو.

واحتلت "وول ستريت"، التي مولت قضية الحلفاء في الحرب، مكانتها العالمية منذ ذلك الحين، وشارك عديد من الأميركيين في هذا الازدهار المتزايد، وحقق بعضهم ثروات كبيرة، وقفز مؤشر "داو جونز" الصناعي من 54.62 نقطة في 12 ديسمبر (كانون الأول) عام 1914 (اليوم الأول للتداول بعد إغلاق بورصة نيويورك لأربعة أشهر بسبب الحرب) إلى 103.73 بعد خمس سنوات، وبلغ ذروته عند 381.17 نقطة يوم الثالث من سبتمبر (أيلول) عام 1929، قبل شهر من الانهيار العظيم الذي كان بداية للكساد الكبير.

غير أن الحرب العالمية الثانية أعادت إشعال القوة الصناعية الأميركية، لكن على رغم التضخم الذي أعقب الحرب، سنوات عدة، والركود في عام 1949، فقد انطلق الاقتصاد الأميركي في سباق طويل بعد ذلك وأنهى مؤشر "داو جونز" الخمسينيات عند 679.36 نقطة، محققاً ربحاً بنسبة 239.5 في المئة خلال 10 سنوات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وظهرت علامات الازدهار الاقتصادي في الخمسينيات على الأميركيين من حيث زيادة السفر الجوي بأسعار معقولة وعبر الطرق السريعة بين الولايات، وانتشار الوجبات السريعة، وشبكات التلفزيون، والتوسع في ضواحي المدن، كما أنشأت الولايات المتحدة المجمع الصناعي العسكري، والذي كان بمثابة مستودع أسلحة للعالم منذ ذلك الحين.

الثلاثون المجيدة

وحتى بالنسبة إلى أوروبا الغربية كانت سنوات ما بعد الحرب عقوداً لإعادة البناء والازدهار السحرية، وهي سنوات يشار إليها في فرنسا باسم "الثلاثون المجيدة" نسبة إلى الأعوام من 1945 إلى 1975، وفقاً للاقتصادي توماس بيكيتي، فقد أنتجت عملية إعادة البناء، التي مولها مشروع "مارشال" الأميركي، متوسط نمو للناتج المحلي الإجمالي السنوي بلغ أربعاً في المئة في أوروبا الغربية من عام 1950 إلى عام 1970، وبلغ ضعف هذا الرقم في الولايات المتحدة، لكن عندما انتهت الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي بدءاً من عام 1990 إلى عام 2012 استقر النمو في أوروبا وأميركا عند 1.5 في المئة.

وشهدت سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية أيضاً فوائد مهمة للعالم مع تأسيس نظام عالمي استمر حتى الآن، إذ تم إنشاء الأمم المتحدة وحلف "الناتو" وتأسيس النواة الأولى للسوق الأوروبية المشتركة التي أصبحت في ما بعد الاتحاد الأوروبي، وبدأت الثورة الصناعية الرقمية عندما أخذت أجهزة الكمبيوتر دوراً متزايداً في حياة البشر.

حرب أوكرانيا

غير أن حال الاستقرار والسلام العالمي النسبية انتهت مع الهجوم الروسي على أوكرانيا الذي أدى إلى تفاقم ارتفاع الأسعار، وخلق نقصاً في الطاقة والحبوب، مما أسهم بالتوازي مع وباء "كوفيد-19" في ضغوط تضخمية أكبر في أميركا والعالم، ودفع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) إلى رفع سعر الفائدة بشكل متتال، في محاولة لكبح جماح التضخم الذي وصل إلى أعلى مستوياته منذ أربعة عقود.

لكن بالنسبة إلى المؤرخ إيان موريس فإن انتصار الغرب في حرب أوكرانيا قد يكون نقطة تحول أخرى نحو عالم أكثر أماناً وازدهاراً، غير أن النتائج الأخرى أيضاً ممكنة، فإذا بدا أن روسيا حصلت على ما تريده فسيشجع ذلك على مزيد من هذا السلوك، وترتفع أخطار نشوب حرب عالمية كبيرة أخرى، وقد يشجع ذلك الرئيس الصيني شي جينبينغ في سعيه لاستعادة تايوان بالقوة إلى الصين.

أنصار السلام

غير أن الفريق المناصر لفكرة أن الحرب تحفز الاقتصاد وتعمل على تحسين المجتمعات بعد انتهاء الحرب ينافسه فريق آخر من الباحثين الذي يفند التحليل السابق. ويشير تقرير أصدره معهد الاقتصاد والسلام وهو مؤسسة أميركية مستقلة غير حزبية، إلى أنه على رغم نجاح الإنفاق الضخم خلال الحرب العالمية الثانية في إنهاء البطالة وإعادة بناء الثقة، فإن الاستهلاك والاستثمار انخفضا خلال هذه الفترة بسبب التغييرات الهيكلية اللازمة للمجهود الحربي التي كانت ضرورية لاقتصاد السوق.

كما يظهر تحليل مكونات الاقتصاد الكلي للناتج المحلي الإجمالي خلال الحرب العالمية الثانية والنزاعات اللاحقة مثل حربي كوريا وفيتنام، أن الإنفاق العسكري المتزايد كان له عديد من الآثار السلبية على الاقتصاد الكلي كنتيجة مباشرة لمتطلبات التمويل لزيادة الإنفاق العسكري، إذ دفعت الولايات المتحدة تكاليف حروبها، إما من خلال الديون مثلما حدث في الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة، وحربي أفغانستان والعراق، أو من خلال فرض ضرائب جديدة وكبيرة مثلما حدث في الحرب الكورية.

وفي كل حالة كان دافعو الضرائب مثقلين بالأعباء، ونتيجة لذلك انخفض معدل الاستهلاك واستثمار القطاع الخاص، فضلاً عن أن الآثار السلبية الأخرى تشمل زيادة العجز في الميزانية، وزيادة الضرائب، وبغض النظر عن الطريقة التي يتم بها تمويل الحرب، فإن التأثير الكلي في الاقتصاد يميل إلى أن يكون سلبياً.

وفي كل فترة من فترات ما بعد الحروب يطفو على السطح السؤال نفسه، ما الذي كان سيحدث من الناحية الاقتصادية إذا لم تحدث هذه الحروب؟ والإجابة التي تستند إلى الأدلة هي أنه من المحتمل أن تكون الضرائب أقل، والتضخم أقل، وكان الاستهلاك والاستثمار أعلى، وبالتأكيد عجز أقل في الميزانية.

وقد تكون بعض الحروب ضرورية، لكن الآثار السلبية لعدم خوض هذه الحروب يمكن أن تفوق بكثير التكاليف الناتجة عن القتال، ومع ذلك، إذا كانت هناك خيارات أخرى فمن الحكمة استنفادها أولاً، فبمجرد أن تبدأ الحروب يصعب التنبؤ بالنتائج والمدة والعواقب الاقتصادية.

ركود جيوسياسي

لكن إيان بريمر، رئيس مجموعة "أوراسيا"، يحذر من أن الجغرافيا السياسية تمر بما يمكن تسميته دورة ركود، إذ إن المؤسسات التي أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية بحاجة إلى إصلاح عاجل يتماشى مع توازن القوى وقيم وأولويات البلدان في النظام العالمي الجديد، ومن دون ذلك من المحتمل تآكل المؤسسات ثم تبدأ في الانهيار وتصبح غير شرعية.

ويتزايد هذا الخطر لأنه خلال السنوات المقبلة ستواجه البشرية فيروسات أكثر فتكاً من "كوفيد-19"، وسيؤدي تغير المناخ الشديد إلى فرار عشرات الملايين من اللاجئين وسيتطلب من الدول الكبرى إعادة تصور حول كيف نعيش حياتنا اليومية، والأخطر من ذلك أن التقنيات الجديدة ستعيد تشكيل النظام الجيوسياسي، وتعطل سبل عيشنا وتزعزع استقرار مجتمعاتنا بشكل أسرع مما يمكننا فهمه ومعالجة تداعياتها.

عالم مترابط

وفي بيئة تكون فيها المؤسسات ضعيفة ومتآكلة وغير شرعية لن يكون النظام العالمي مستعداً على الإطلاق لمنع حدوث الأزمات، ومع ذلك ستخلق الأزمات الزخم لإعادة بناء وإصلاح تلك المؤسسات إذا كانت الدول راغبة في التعاون لبناء نظام عالمي جديد بشكل فعال.

لكن الشيء المروع في الركود الجيوسياسي هو أنه سيخلق صدمات وأزمات عالمية خطيرة، ومع ذلك لا ينبغي توقع أن ننتهي إلى حرب عالمية ثالثة، ذلك أن هذه الأزمات تحدث في عالم شديد الترابط الاقتصادي، ولذلك لا يعتقد بريمر أن الحرب الباردة بين الغرب وروسيا سوف تؤدي بالضرورة إلى تفكيك النظام العالمي، ولن يدفع إلى مواجهة بين أميركا والصين على وجه التحديد لأن هذين البلدين في أمس الحاجة إلى بعضهما بعضاً للمضي قدماً، حتى لو لم يرغبا في الاعتراف بذلك، كما أن هناك عدداً قليلاً جداً من الدول حول العالم قد تكون مستعدة لاختيار جانب في مثل هذه المعركة.

المزيد من تقارير