Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رؤساء لبنانيون خرجوا من القصر وتركوا وراءهم الفراغ

المقر الرئاسي في بعبدا هناك من دخله بعدما كان مهجوراً ومن تركه مدمراً

قصر "القنطاري" حيث لم يتسلم الرئيس كميل شمعون السلطة فيه من سلفه الرئيس بشارة الخوري وحيث بقي شمعون فيه حتى آخر عهده رغم أحداث العام 1958 (أرشيف لايف ماغازين)

في 30 أكتوبر (تشرين الأول) اليوم الأخير من ولاية الرئيس الثالث عشر للجمهورية اللبنانية ميشال عون، لم يسلم الحكم إلى خلف له، استلم الرئاسة من الفراغ وسيسلمها إلى الفراغ، وهو ليس الرئيس الأول الذي مشى على هذا الطريق وقد لا يكون الأخير، فللفراغ الرئاسي تاريخ طويل في لبنان نرصده في السطور التالية:

تجربة شمعون الحزينة

كانت لحظات مؤثرة عندما ودع الرئيس كميل شمعون المقر الرئاسي في القنطاري مسلماً السلطة والرئاسة إلى الرئيس المنتخب اللواء فؤاد شهاب. في كتابه "أزمة في الشرق الأوسط" يروي شمعون تلك اللحظات بكثير من المصداقية والعاطفة: "الله يباركك! الله يحميك! لقد أنقذت لبنان! لا تتخل عنا. هكذا كانت الصرخات يكررها كترنيمة، حشد كثيف من الرجال والنساء والأطفال بينما نحن ننزل مع مرافقينا درج المقر الرئاسي في حي القنطاري. تجمعت هذه الحشود في الشارع، وجوه كئيبة، وعيون مليئة بالدموع، في انتظار أن نطل، فجأة، بعد أن كسرت الحشود الحاجز الذي شكله الحرس الجمهوري، أحاطت بسيارتنا وأمطرتها بقبلات الوداع".

ويواصل "بالكاد استطعنا، أنا وزوجتي احتواء فرحنا واعتزازنا، من أين أتى انفجار الحماس هذا الممزوج بالحزن؟ ربما كان قدري بعد انتصاري ووصولي لأعلى سلطة في الدولة في عام 1952، أن أنهي ولايتي كمنقذ للبنان بعد الأحداث التي تسببت خلال أربعة أشهر في كثير من الكراهية وفي إراقة كثير من الدماء". 

ويقول في موضع آخر "تركت السلطة بلا ندم، على رغم بعض خيبات الأمل، من دون مرارة ألا تعود على الصفحة الأولى في الصحف اليومية، أن تشعر أنك أُقصيت إلى دور غير فعال، بعد أن كنت كل شيء في إدارة شؤون الدولة، أن ترى بعض أولئك الذين كانوا الأكثر حماسة من حولك يهجرون منزلك وصداقتك، كل هذا مؤلم بالتأكيد ومخيب للآمال، لكن يجب على السياسي أن يفهم أن السلطة ليست أبدية وأن العلاقات الشخصية لا تهيمن عليها دائماً اعتبارات المشاعر أو المبادئ، في الوقت الذي تكون فيه المادة في طليعة اهتمامات معظمنا، تصبح المصالح هي المرشد الوحيد والهدف الرئيس لأفعال الإنسان، مثل كل الذين سبقوني عرفت هذه التجربة الحزينة، أولئك الذين سيأتون سيعيشون بدورهم التجربة نفسها".

رؤساء 23 أكتوبر

قليلون هم الرؤساء الذين كتبوا تجربتهم في الحكم، كميل شمعون كان واحداً منهم، لم يستلم السلطة من سلفه الرئيس بشارة الخوري لأنه كان استقال قبل انتخاب شمعون وشكل حكومة برئاسة اللواء فؤاد شهاب، انتقلت السلطة من شهاب إلى شمعون ثم عاد شمعون وسلمها إلى شهاب، كانت عملية التسلم والتسليم تتم بسلاسة وانسياب، صورة تذكارية وانتقال من عهد إلى عهد، ولكن مع استمرار الجمهورية التي كان يتغير مقرها ولا تتغير هويتها.

إذا كان بشارة الخوري وكميل شمعون اتخذا من قصر القنطاري مقراً للرئاسة فإن شهاب اختار قصراً صغيراً في زوق مكايل ليكون مقره قريباً من منزله. بعد ستة أعوام كان عليه أن يسلم السلطة إلى سلفه الرئيس شارل حلو، لم تكن عملية التسلم والتسليم هذه تشبه ما حصل بين عهدي بشارة الخوري وكميل شمعون لأن شهاب كان كأنه يسلم نفسه باعتبار أنه هو من اختار الرئيس الجديد الذي سيكمل مسيرته ونهجه في الحكم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن ما حصل بين شهاب وحلو لم يكن هو نفسه بين حلو وفرنجية، لم يكن فرنجية من خط شهاب وحلو، وكان الأخير انتقل إلى مقر خاص آخر في قصر نورا في سن الفيل شرق بيروت قبل أن يستقر في القصر الجمهوري الجديد في بعبدا مدشناً بداية جديدة للرئاسة في مقر خاص ودائم، لكن هذا المقر لم يكن فأل خير على الرئاسة والرؤساء.

موعد التسلم والتسليم بين حلو وفرنجية تزامن مع انعقاد القمة العربية الطارئة في القاهرة في 23 أكتوبر 1970 في محاولة لتطويق الأحداث التي اندلعت في الأردن بين الجيش الأردني والمسلحين الفلسطينيين، حضر حلو إلى القاهرة في 22 أكتوبر ثم عاد إلى لبنان وسلم السلطة للرئيس فرنجية الذي انتقل بدوره إلى القاهرة لمتابعة أعمال القمة التي استمرت أياماً.

لم تكن إقامة الرئيس فرنجية هانئة في قصر بعبدا، بعد عام تقريباً على اندلاع الحرب في لبنان في 13 أبريل (نيسان) 1975 اضطر في مارس (آذار) 1976 إلى مغادرة القصر الذي تعرض للقصف المدفعي، بين القصر البلدي في زوق مكايل أولاً ثم في مقر خاص في بلدة الكفور في فتوح كسروان أمضى الرئيس فرنجية ما تبقى من عهده وهناك تسلم منه الرئاسة إلياس سركيس الذي كان انتخب في الثامن من مايو (أيار) قبل خمسة أشهر من انتهاء ولاية فرنجية.

مسار جديد واضطرابات

في 23 أكتوبر 1976 دخل سركيس القصر الذي كان مهجوراً إلا من عدد من الموظفين وضباط وجنود الحرس الجمهوري، وكان عليه أن يقوم بعملية تنظيف شاملة وصيانة جديدة للقصر وللرئاسة، على رغم كل المعارك التي حصلت خلال عهده لم يترك سركيس القصر الذي لم يكن هدفاً لأي عملية عسكرية، حتى عندما وصل الجيش الإسرائيلي في اجتياح عام 1982 إلى مدخل القصر، بقي سركيس فيه وبقي رمزاً لسيادة الدولة، هناك التقى الرئيس المنتخب بشير الجميل، لكن اغتيال الأخير منع تسليمه السلطة. التسليم تم بين سركيس والرئيس أمين الجميل الذي انتخب خلفاً لأخيه.

وعلى رغم انحسار سلطة الدولة خصوصاً بعد حربي الجبل وبيروت وقيام جبهات عسكرية داخلية جديدة في سوق الغرب المطلة على بعبدا، بقي الجميل في القصر وإن كان نقل اجتماعات مجلس الوزراء إلى مقر صيفي مؤقت في بكفيا، لكن اعتباراً من عام 1988 سيبدأ مسار جديد في تاريخ الرئاسة والقصر الجمهوري، لم يسلم الرئيس أمين الجميل الرئاسة بعد تعطيل انتخاب رئيس يخلفه، وسلم السلطة للعماد ميشال عون بعدما عينه رئيساً للحكومة العسكرية التي شكلها، وعلى رغم عدم كونه رئيساً للجمهورية أقام عون في القصر الجمهوري بعدما اعتبر أن حكومته تقوم بمهمات الرئاسة، وتحصن هناك بعدما أعلن حرب التحرير وحول القصر إلى ما يشبه الموقع العسكري متخذاً من أحد الملاجئ تحت الأرض مكتباً له أقام حوله الدشم وصب فوقه الباطون المسلح ليحتمي من القصف.

الرئيس رينيه معوض الذي انتخب في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) لم يتسلم الرئاسة من أحد ولم يسلمها لأحد، اغتيل في 22 نوفمبر بعد أيام على إقامته في المقر الموقت في بناية بالرملة البيضاء ببيروت، مثله الرئيس إلياس الهراوي الذي انتخب في فندق بارك أوتيل في شتورة بعد اغتيال معوض بيومين، لم يتسلم السلطة من أحد، أقام أولاً في ثكنة أبلح العسكرية التابعة للجيش اللبناني ثم انتقل إلى المقر الموقت في بناية الرملة البيضاء.

بعد إزاحة العماد ميشال عون من قصر بعبدا في 13 أكتوبر 1990 بدأت عملية إعادة ترميم قصر بعبدا الذي انتقل إليه الهراوي في 28 يوليو (تموز) 1993 ليعود مسار الرئاسة إلى هذا القصر الرمز، لكن من دون أن تعود الرئاسة رمزاً بحد ذاتها، كان من المفترض أن يسلم الهراوي الرئاسة لمن يخلفه بعد ستة أعوام من عهده، لكنه سلم نفسه بعد التمديد له لمدة ثلاثة أعوام، في نهايتها كان يسلم الرئاسة إلى الرئيس أميل لحود في 24 نوفمبر 1998.

كانت تلك المرة الأخيرة التي يحصل فيها تسلم وتسليم بين رئيسين، بعد ستة أعوام تسلم لحود الرئاسة من نفسه بعد التمديد له لمد ثلاثة أعوام وجد نفسه بعدها يسلم السلطة إلى الفراغ عندما غادر القصر ليلة 25 نوفمبر 2007 من دون انتخاب رئيس للجمهورية يخلفه في ظل انقسام داخلي كبير بدأ قبل اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في 14 فبراير (شباط) 2005، واستمر بعده ولا يزال.

بعد استكمال انسحاب الجيش السوري من لبنان في 26 أبريل 2005 وانتهاء المرحلة التي كان فيها النظام السوري يدير الجمهورية اللبنانية بدأ "حزب الله" بلعب هذا الدور محاولاً التحكم باللعبة السياسية ومنع انتخاب أي رئيس لا يكون موافقاً عليه أو تابعاً له.

رئاسة لها أكثر من تاريخ

بعد الرئيس لحود لم يتسلم الرئيس ميشال سليمان الرئاسة من أحد ولم يسلمها لأحد، تاريخ الرئاسة الذي كان في 23 سبتمبر ثم صار في الخامس من نوفمبر، ثم 24 نوفمبر تحول مرة جديدة إلى 25 مايو، تاريخ انتخاب سليمان، لكن هذا التاريخ سيكون أيضاً لمرة واحدة استثنائية وكان هذا التغيير الدائم تعبيراً عن حالة عدم الاستقرار التي تعيشها الجمهورية. هذه الحالة فرضت نفسها بعد انتهاء ولاية سليمان في 24 مايو 2014 عندما غادر القصر الجمهوري في بعبدا بانتظار أن يحين موعد انتخاب رئيس جديد، هذا الموعد كان في 31 أكتوبر 2016 بانتخاب العماد ميشال عون.

مرة جديدة يترك عون القصر في 30 أكتوبر من دون أن يسلم الرئاسة لرئيس يخلفه، مرة جديدة سيحل الفراغ الرئاسي على القصر الذي استضاف الرؤساء والرئاسة بحلوها ومرها منذ عام 1969.

قبل ذلك التاريخ كان للرئاسة هيبتها حتى لو تنقل مقرها بين أكثر من مكان. بقيت رمز سيادة الدولة وفيها تنمو روح الجمهورية، القصر الجمهوري بعد ميشال عون يحتاج إلى رئاسة جديدة ومنهج جديد وإلى استعادة روح الجمهورية ورمزية الرئاسة.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير